منذ أيام كانت العبارة المكتوبة أعلاه جملة استفهامية تقطر بالأسي، وتقول: "لماذا أنا لقيطة؟" كنت أنوي كتابة مقالة أبوح فيها بآلام نفسي التي تتجدد مع كل شخصية أقابلها وأتحاور معها، باعتباري صحفية شاطرة، فأكتشف حجم ما يملأ أرواح تلك الشخصيات من حماس وإيمان بقضايا إما سياسية وإما فنية وإما اجتماعية جعلهم يعملون ليل نهار ويقطعون الأميال ليتعلموا ويطوروا أنفسهم كلا في مجاله، كان دائما ما يتردد في داخلي وأنا أستمع إليهم أسئلة من نوعية: لماذا تختلف هذه الأجيال عنا في الشكل والمضمون؟ كيف تربي لديهم انتماءات متعددة تنعكس علي حياتهم العملية والخاصة؟ من أين لهم بهذا الحماس والطاقة اللذين تمنحهم نفسا طويلا دربت نفسي علي امتلاكه بلا فائدة؟..أسئلة كثيرة وعادة بلا إجابات وبكثير من الإحباط والغيرة علي مستقبلي ومستقبل جيلي. نعم، كنت لقيطة بالدلائل وليست عبارة علي سبيل التشبيه؛ فأبي فلاح بسيط لا يمكن بأية حال من الأحوال أن أدعي كونه "رجلا للأعمال" ومهارتي في الدراسة ثم نزاهتي في العمل عملات قديمة وباهتة لا تناسب شعارات المرحلة، وفي كل الأحوال وجودي وما أصنعه من صخب بالشعر أو الصحافة لا يقدم أو يؤخر شيئا وبالفعل كنت جديرة باللقب "لقيطة" مع مرتبة الشرف تضاف إلي الآلاف من أبناء الثمانينيات اللقطاء "سابقا" وأؤكد علي كلمة سابقا لأننا لم نعد كذلك بل أصبحنا نعرف من نحن ومن أين جئنا منذ لحظة تحطيم جدار الخوف والشعور باليتم في ميدان التحرير . لم يكتب لي حضور كل أيام التظاهر بسبب ظروف سفري إلا أن الأيام التي تمكنت من التواجد خلالها كانت بمثابة فرصة للتطهر والتصالح مع الذات والعالم، بل الذوبان الكلي إما في أغنية وطنية تتسلل إلي مسامعي من راديو الثورة أو من قصيدة عامية يلقيها شاب مصري بسيط ليس له علاقة بالثقافة بقدر ما تتوطد علاقته بانكسارات الفقر واليأس وانعدام العدالة الاجتماعية. في ميدان التحرير كان القطاع العريض من الشباب المصري في حالة فوران منعشة كفراشات تستقبل الربيع بعد غياب طويل يتفرقون بين طبيب وإعلامية وسينمائي ومهندس وفنان تشكيلي وحتي صنايعي وسائق وممرضة وخطاط وفني وكثير كثير من الزهور الثمانينية التي تفتحت مسامها علي الحرية مؤخرا. ورغم أن ترحيب جهاز الشرطة بوجودي في ميدان التحرير كان بواسطة قنبلة مسيلة للدموع فإن قلبي لم ينفر من المكان، ظل يطير بمصاحبة روحي علي خيمة بعد أخري يطمئن علي المستشفيات الميدانية التي كانت تعمل علي مدار اليوم والحلقات الإسلامية التي كانت تنشد أغنياتها المميزة وكذلك علي البسطاء الذي افترشوا الميدان سريرا ووجوههم إلي سماء المحروسة التي كانت تهبهم الخير دائما إما في صورة شمس أو مطر، ثم أخيرا أقف لفترة أطول بجوار إذاعة الثورة مرة لمتابعة ما يستجد من أخبار أو لسماع صوت شادية وهي تؤكد أن الذي لم يذق طعم الحياة "يبقي معداش علي مصر". حنان شافعي