دائما ما يلام الشباب من قبل كبار السن، ويتم اتهامهم دائماً بحب الجلوس على المقاهى، غير مدركين أن الواقع أصبح عكس ذلك، وأن المقاهى لم تعد للجلوس بل للعمل وكسب لقمة العيش، نماذج كثيرة مشرفة ونموذجية موجودة بكل شبر من أرض مصر يعملون بجد ويبحثون عن أى طريق يلتمسون منه رزقاً، بغض النظر عما يحملونه من مؤهلات. بائع الخضار والفاكهة.. القهوجى.. السباك.. النقاش.. بائع الخبز.. الفران.. السائق كلها مهن محترمة بعيداً عن نظرة البعض إليها باستعلاء، وإذا أردت أن تعرفهم اسألهم من أنتم ستجد قصص كفاح تخجلك من كبريائك المصنوع بفعل مهنتك التى تتعالى بها على شاب لا حول به ولا قوة يريد كسب قوت يومه بعرقه يكافح من أجل نفسه أو لستر أسرته وربما تخجل لكونه طالباً فى كلية طب أو الهندسة أو أى من المؤهلات العليا. نموذجان من هؤلاء الشباب أردنا إبراز قصة كفاحهما أحدهما بكلية العلوم قسم كيمياء واتجه للعمل منذ الطفولة لم يترك مهنة إلا وخضعت تحت تجربته، والآخر صيدلى اتجه للعمل فى «كافيه» لتحمل مسئولية نفسه. عامل مشترك بينهما الأسرة البسيطة المكافحة والوالد الموظف محدود الدخل والأم متحملة المسئولية، والحلم المجهول، ولافتة: «الشغل مش عيب»، «طارق».. 7 صنايع والبخت «علوم» شاب على أعتاب العشرينات من عمره.. بشرته خمرية تكاد تميل للسمار بفعل الزمن وحرقة الشمس اللاذعة من كثرة العمل تحت شعاعها.. ملامحه لا تعرف العبوس ورغم ما يعيشه من بؤس إلا أن طموحه يصل لعنان السماء كى يحقق أحلامه وآمال أسرته المكافحة التى أصابها الوجع بعد فقد عائلها لبصره منذ 18 عاماً تاركاً عمله كمحاسب بإحدى الشركات، وتقرر الزوجة الأم أن تحمل على عاتقها هموم أسرتها لتجتهد فى عملها بمطاحن الإسكندرية. طارق شاكر يلقبه أصدقاؤه ب«طاطا»، شاب إسكندرانى من «سيدى بشر» يدرس بكلية العلوم، ضمن نماذج مشرفة لم تهزمها الظروف المحيطة بهم، عمل فى مهن عديدة منذ نعومة أظافره لتحمل مسئوليته، وليمنح أسرته الصغيرة التى تضم أبًا وأمًا وأخًا يصغره ب12 عاماً، السعادة والفخر معاً بكفاحه واجتهاده. وعن المهن التى عمل بها طارق يحكى أنه كان يعمل بفترة الصيف لرفض والدته العمل أثناء الدراسة «وأنا طفل صغير اشتغلت صبى ميكانيكى نحو شهر ونص فقط كنت بقبض جنيه فى اليوم و10 جنيهات فى الأسبوع، وفى ثانية إعدادى عملت صبى نقاش، وفى ثالثة إعدادى شيال فى شركة الزيت طوال فترة الصيف بالإجازة، وفى أولى ثانوى اشتغلت «جرسون بأحد المطاعم فى الساحل الشمالى، وبعد الثانوية العامة عملت فران قبل التحاقى بكلية العلوم»، وأضاف: «اضطررت للعمل فى أول شهر بأولى كلية كصبى مساعد فى تركيب السيراميك وتركتها للتفرغ للدراسة، ثم فى العام الثانى من الجامعة اتجهت لبيع الآيس كريم «جيلاتى»، ثم عدت مرة أخرى للعمل كجرسون فى الساحل الشمالى، وبعدها شرم الشيخ. وبابتسامة وروح لها تخلو من الطرافة حكى طارق عن تجربة العمل لمدة نصف ساعة عندما عمل كفرد أمن «كانت الحالة المادية سيئة للغاية، ولم أجد عملاً فى هذه الفترة تحدثت إلى أحد الأصدقاء ليبحث معى ووعدنى بإيجاد فرصة عن طريق أحد معارفه مع عقيد متقاعد للعمل كفرد أمن، وتخيلت أننى سأعمل فى مكان راق أو أحد المولات الكبرى فى إسكندرية، قدمت على الشغل الساعة 12 ظهراً، قالولى هتقبض 500 جنيه قولت الحمد لله رضا أحسن من مفيش، واستلمت الزى وماشى فى الشارع حاسس إنى لواء روحت استلمت الشغل الساعة 4 العصر فى مكان متواضع بالمنتزه قالى متتحركش من هنا وإذا فجأه لقيت ولد وبنت وأصحابهم مقبلين على بيتريقوا ونشب بينا خلاف وضربت الولد انتقاماً لكرامتى، ومن سوء حظى طلع قريب صاحب شركه الأمن ومقعدتش 1/2 ساعة والشغل راح». سألته عن سر تفاؤله وضحكاته على كل المواقف، فأخبرنى بأنه لن ينسى ذلك الرجل العجوز الذى التقى به ونصحه أثناء إحدى المحن التى مر بها «يا ابنى إنت كده كده هتشوف نصيبك سواء حلو أو وحش فقابله ديما وإنت فرحان» ومنذ ذلك الحين كلما ضاقت حلقاتها تذكرت هذه الجملة، إضافة إلى مواقف والدتى التى كانت دائماً تشجيعها فى مقدمة عملى «لما كنت بقبض جنيه وأنا طفل كانت بتحسسنى إنه ألف جنيه». وعن نصائح والدى كانت دائماً تجعلنى لا أشعر بالتعب، فدائما ما يقول لى: «إنت هتبقى راجل وهتتحمل مسئوليتك إنت وأخوك فخليك قدها عشان أكون مطمن على العيلة». ومن المواقف التى جعلتنى أبكى ذات يوم عندما عملت فى شرم الشيخ بكافيه وحاولت مجموعة من الأثرياء الاستهزاء بى وبرفاقى واضطررنا للتحمل من أجل لقمة العيش ورغم ذلك لم اشعر بالخجل يوماً من عملى المتواضع، فيكفى إننى رجل تحملت مسئولية نفسى»، وأضاف: «أحببت فتاة أثناء الجامعة، لكن لم أصارحها لإدراكى بحقيقة وضعى الاجتماعى ولا أريد أن أظلم أى أحد معى وما زال مستقبلى غامضاً». وعن طموحه الوظيفى، قال طارق: «لا أعرف إن كان مصيرى عقب انتهاء دراستى بالجامعة سيكون مضيئاً أم سأكون عاملاً بسيطاً وانضم إلى قائمة حاملى الشهادات والمؤهلات العليا الذين لم ينالوا من الدنيا حظهم، ولكن تفاؤلى يجعلنى أحلم أن أكون ضابطاً متخصصاً فى مجالى كطالب بكلية العلوم قسم كيمياء». «محمد فكرى».. قهوجى بدرجة «دكتور» لم تمنعه الوجاهة الاجتماعية كشأن زملائه بالجامعة من ممارسة عمل يراه المجتمع متواضعاً، هو شاب مثالى نشأ فى بيئة صالحة، خرج من تحت يد والده الموظف فى وزارة الرى، الذى علّمه القيم الصحيحة للأسرة المصرية البسيطة الخلوقة التى تعرف معانى الحياة والاجتهاد، طالب بكلية الصيدلة جامعة دمنهور فى فترات الدراسة، «قهوجى» عامل بوفيه فى وقت راحته بالإجازة السنوية. لافتة كبيرة يضعها نصب عينيه دائماً مكتوب عليها نصيحة والده «مستقبلك بإيدك أنت صانعه وأنت من تعيشه، فشكله حسب هواك دون تدخل من أحد». محمد فكرى حزيمة، 19 سنة، خرج والده على المعاش أول أبريل 2016 من وزارة الرى، لم يستجب للمعاش، بل واصل بناء مستقبل أبنائه فى أعمال حرة كى يستطيع الإنفاق على أسرته المكونة من 7 أنجال، ووالدتهم التى تعمل كربة للمنزل. يروى محمد قصته مع التفكير فى العمل، رغم الدراسة فبدأ يراوده الأمر أثناء الثانوية العامة لكن والدته أثنته عن الفكرة خوفاً عليه من ضياع وقته وتأثير ذلك على تفوقه الدراسى، إضافة إلى انشغاله بالمذاكرة والدروس، وأشار إلى أن تفكيره فى العمل كان نابعاً من إحساسه بالمسئولية الشخصية تجاه والدته قائلاً: «فكرت أشتغل عشان أساعد والدى من خلال تحمل مصاريفى الخاصة». ويضيف محمد: «فى الإجازة كنت بشتغل فى كافيه، إنما فى الدراسة بشتغل فى صيدلية بس حالياً مش بشتغل عشان عندى امتحانات»، هكذا وصف محمد وضعه الحالى مع العمل والدراسة نافياً اعتراض والده على عمله ككونه طالباً صيدلياً سيكون دكتوراً بعد عام أو عامين من الآن، وأن والده يشجعه باستمرار مؤكداً عليه أن العمل عباده ومن يجتهد يصوب الله خطأه نحو طريق صحيح وأفضل ككونه ترشيداً لطاقة شابة تتجه نحو الصالح بدلاً من الطالح. «أنا بصراحة ما قابلتش مواقف صعبة فى حياتى ولا فى الشغل، لأن الحمد لله علاقتى كويسة جداً بزملائى وعمرى ما كرهت الخير لأحد ولذلك كل الناس بتحبنى ربنا يديمها نعمة». بهذه الكلمات علق محمد على سؤاله بمقابلة مواقف صعبة فى العمل وتقبله للآخرين بتواضع أو كونه تعرض لأى إساءة أثناء العمل أو إحراجاً ترك أثراً فى نفسه. وتعقيباً على الفصل بين طبيعته كطالب و«عامل بالكافيه» قال: «أنا أستطيع أن أفصل نفسياً بين الدراسة والعمل وأنا فى الشغل.. فى الشغل وبس وتفكيرى كله فيه إنما وأنا فى الكلية ببقى فى طالب الكلية وبدرس وبس أصدقائى يحترمونى وفى الكافيه الناس بيحترمونى ومش بحسس الناحيتين بحياتى الخاصة». يرى محمد أن لا داعى لطالب المؤهل العالى أن يستشعر الحرج أثناء عمله بأى جهة حتى ولو كانت متواضعة قائلاً: «الشغل عمره ما كان عيبًا وعمرى ما جه ببالى إن شغلى لا يليق بى لأن من تواضع لله رفعه». استكمل محمد فى سرده لحياته إنه لن يترك الأعمال الحرة بعد تخرجه فى كلية الصيدلة، لافتاً إلى أن حلمه أن يفتتح «كافيه» إذا كانت لديه قدرة مالية فى ذلك الحين. شعر محمد بالضيق لما يقابل الشباب من إحباطات من كبار السن الذين يلقون تهمة عدم الشعور بالمسئولية دائماً على عاتقهم، وإنهم بلا خبرة، ولم يفكر أحد فى منح الشباب فرصة حقيقية لإثبات أنفسهم رغم قدرة الشباب الفائقة على تغيير الصورة السلبية تجاههم، لأن لديهم عزيمة وحماساً تؤهلهم للنحت فى الصخور. عن أحلامه وآماله وطموحه، قال محمد: «بفكر الصراحة أسافر إلى الخارج بعد الدراسة أكون نفسى ثم أعود لمصر مرة أخرى رغم أننى أنا لا أحب البعد عن مصر وأفضل العيش على ترابها»، أما عن طموحه هو يتمنى الحصول على منحة دراسية للخارج كى يكتسب قيمة علمية أكبر.