احتج المعلّم بشدة علي قولي بأن التفكير المستقل والالتزام بالمنهج العلمي يجب أن نعلَمه للتلاميذ ابتداءً من الحضانة والابتدائي.. وأسس احتجاجه علي أن الطفل في هذه السن لا يستوعب هذا الكلام الكبير ورجاني أن أركز علي الأشياء المهمة كتعليم الأبجدية والتعرف علي الأرقام والألوان وحفظ الأناشيد. أشفقت علي مصر، وحزنت علي ما وصل إليه النظام التعليمي إذا كان هذا المعلم يمثل غالبية المعلمين.. فالأمر من قبل ومن بعد يتوقف علي إدراك المعلم لدوره ثم ايمانه بهذا الدور وتطلعت إلي أن تبادر وزارة التعليم إلي إطلاق مشروع طموح لتصحيح مفهوم المعلمين والمسئولين عن رسالة التعليم، وترسيخ هذا المفهوم الصحيح وتوجيه العمل التربوي كله باتجاه النهوض بالرسالة. وحتي لا يفزع بعض المعلمين من كلامي أوضح أن المقصود بالرسالة هو الغاية العليا التي أقمنا النظام التعليمي لتحقيقها، أو هي السبب في وجود النظام التعليمي والذي بغير تحقيقه تنعدم الفائدة من التعليم بل يكون ضرره أكثر من نفعه!! حقيقة أنا أطالب وزارة التعليم بأن تركز في أولي مراحل إصلاح التعليم وتطويره، أن تركز علي مراجعة رسالة التعليم وبلورتها وتوصيل مفهومها الصحيح لكل القائمين علي التعليم من أعلي مستوي وحتي أدني مستوي، حيث يجب أن يدرك الجميع أن الغاية العليا للتعليم ليست حفظ قصائد المتنبي أو إتقان جدول الضرب أو أن الحملة الفرنسية جاءت إلي مصر في 1798م.. أيها السادة إن رسالة التعليم أرقي وأعلي من ذلك بكثير. أعود إلي ما أثاره أحد المعلمين من أنه لا يستطيع تدريب طفل الحضانة علي التفكير المستقل أو علي اتباع المنهج العلمي فهذه أمور - طبقاً لرأيه – أكبر من طفل الحضانة.. والحق أن هذا الزعم خاطئ جملة وتفصيلاً.. خذ المثال التالي: إن تكليف الطفل بمهمة بسيطة ومتابعته وهو يحاول إنجازها ستقود إلي غرس المنهج العلمي في سلوك الطفل، ولنفرض مثلاً أن المهمة هي البحث عن القلم الرصاص الجديد الذي كان مع المعلم وقت دخول الفصل.. فيطلق المعلم مسابقة بين مجموعات الأطفال لإنجاز المهمة علي أن تجلس كل مجموعة لمدة 3 دقائق معاً لمناقشة احتمالات الأماكن التي اختفي فيها القلم، ثم يسمح لهم ببدء رحلة البحث عن القلم.. سيذهب بعض الأطفال إلي الأدراج ويفتشونها وقد يذهب آخرون لدرج المعلم نفسه، وقد يستأذن أحدهم في البحث في حقيبة المعلم أو حتي في جيب المعلم، وقد يذهب بعضهم لمراجعة أرضية الغرفة، وهكذا. ماذا فعل الأطفال الآن؟.. أولاً حددوا المشكلة، ثم بدأوا في وضع فروض للوصول إلي الحل، ثم انتقلوا إلي اختبار مدي صحة الفروض، ثم اكتشفوا خطأ فرض تلو الآخر، فاستبعدوا الفروض الخاطئة، واستمروا في البحث وفق فروض جديدة.. وهكذا. سيدي المعلم.. ما فعله الأطفال أمامك هو المنهج العلمي.. وقد لا يجد الأطفال القلم، ومعني ذلك أن كل فروضهم خطأ، فينهض طفل ليفاجئ المعلم «حضرتك متأكد أن القلم كان معك حين حضرت إلي الفصل؟»، هذا فرض جديد تماماً فيه درجة عالية من الإبداع.. إذن نحن ننمي الإبداع، وننمي التفكير الابتكاري لدي طفل الخامسة.. هل وصلت الرسالة؟ يمكن بالطبع أن نستطرد في إعطاء الأمثلة الأخري، ولكني أعتقد أن الفكرة واضحة و مؤداها أن طفل الحضانة يمكن تدريبه علي المنهج العلمي، ويمكن تشجيعه علي التفكير المستقل و... و.... لاحظ سيدي المعلم أن الأطفال استمتعوا تماماً بهذه الفترة في الحصة لأنهم كانوا يتحركون ويجرون ويغنون ويتشاورون وقبل كل ذلك يتسابقون معاً، وكل طفل يريد أن يفوز، ألم أخبرك أن التعلّم متعة، وأنك تستطيع التعليم من خلال اللعب.. أضف إلي ذلك أنك دربته علي التنافس من أجل الفوز الذي هو سر كل تقدم، كما درّبته علي العمل ضمن فريق. ماذا أنجزنا في هذا المثال: الطفل تعلم تحديد المشكلة، وصياغة الفروض، واختبار مدي صحة الفروض ، ثم البحث عن فروض جديدة «خارج الصندوق» وتعلّم المنافسة المنظمة وشارك في عمل الفريق واستمتع بوقته في المدرسة.. أليس كل ذلك جميلاً؟ آخر سطر المدرسة مكان للاستمتاع.. وللتعلّم أيضاً.