وفق مدعي عام بلجيكا، ترك أحد مهاجمي مطار بروكسل وصية كتب فيها: «لا أعلم ماذا أفعل». منطلقاً من أحد الدراسات الكلاسيكية لعلم الاجتماع، ألا وهي دراسة عالم الاجتماع الفرنسي الكبير دوركايم الموسومة ب «الانتحار»، يمكنني القول إن هذه الوصية تمثل ضوءاً في نهاية نفق الإرهاب. لماذا؟ قبل قرن ونيف، كان يغلب على الدراسات والأدبيات تفسير السلوك البشري والظواهر الاجتماعية بمقاربات سيكولوجية، حتى من المختصين في علم الاجتماع. هذا الواقع أثار غيرة دوركايم على علم الاجتماع، ومن أجل التأكيد أن على المختص بعلم الاجتماع أن يستخدم مقاربات سوسيولوجية بحتة في شرح الظواهر الاجتماعية والعالم الاجتماعي الذي يدرسه وفهمهما وتفسيرهما، ذهب دوركايم لدرس ظاهرة من أكثر الظواهر فردية، وهي الانتحار، لإثبات أنه يمكن تفسير مختلف أنواع السلوك البشري بمفاهيم سوسيولوجية بحتة، وأن هناك ارتباطاً بين البناء الاجتماعي ومختلف أوجه السلوك البشري ومظاهره. في دراسته الكلاسيكية تلك والمعنونة «الانتحار»، جمع دوركايم بيانات ضخمة عن الانتحار وحللها، ليخرج بوجود ثلاثة أنماط من الانتحار هي: الانتحار الإيثاري، والانتحار الأناني، والانتحار اللامعياري. ويسود النوع الأول في المجتمع الشديد التماسك والشديد الإدماج للفرد، إذ يقْدِم الأفراد على قتل أنفسهم غيرة على المجتمع ودفاعاً عنه. إنهم ببساطة لا يتحملون رؤية مجتمعهم مهاناً معانياً معتدى عليه. ويمكن اعتبار العمليات الانتحارية لمجتمع متعرض للغزو ضد الغزاة على أنها تنتمي لهذا النوع. وقبل 10 سنوات تقريباً وعندما اجتاح إعصار «كاترينا» ولاية لويزيانا الأميركية، انتحر 30 رجل إطفاء لفشلهم في إنقاذ الناس الذين احتجزتهم السيول. بوضوح، هذا انتحار إيثاري. في الانتحار الأناني، يقدم الأفراد على الانتحار حين تخف الروابط بين الفرد والمجتمع، بسبب بعده منه واغترابه ووقوعه في براثن العزلة والفشل والحرمان وفشل الاندماج. الأفراد المقبلون على الانتحار هنا لا يتبنون معايير المجتمع أو قيمه أو رؤيته للعالم، ويكونون بلا آمال ولا طموحات ولا حس بجمال الحياة وبهجتها. رأى دوركايم أن هذا النوع من الانتحار يوجد أكثر في المجتمعات الشديدة الفردانية ذات التماسك الاجتماعي الضعيف. ونمّط هذا النوع اعتماداً على البيانات المجمّعة غالباً من مجتمعات شمال أوروبا. ويسود الانتحار اللامعياري عندما تختل القيم والمعايير وتضيع بوصلة الحقيقة أو يحدث عدم قبول من الفرد لمنظومة من القيم تتسيّد المجتمع. بل يحس بالاغتراب عنها وبعدم قدرته على استدخالها والإيمان بها. ويمثل انتحار فئة كبار السن مثالاً ممتازاً لهذا النمط، إذ يظهرون عجزاً عن تقبّل منظومات جديدة من الأخلاق والقيم والتعايش معها. كما أن المجتمعات التي تنتقل بعنف وشدة من حال إلى أخرى تعاني من تفسخ في نظمها الاجتماعية فتضيع بوصلة الصواب ويعجز بعض الأفراد عن تبني منظومة متماسكة من القيم والمعايير، بل يجدون أنفسهم عرضة لنظم قيمية متعارضة ومتباينة. خضت نقاشات مع زملاء مختصين بعلم الاجتماع عن ظاهرة هؤلاء الذين يقتلون أنفسهم وغيرهم في العمليات الإرهابية: إلى أي نمط من أنماط دوركايم للانتحار تنتمي إن نحن أردنا تنميطها وفقاً للنظام الدوركايمي؟ الشائع أن انتحاريي العمليات الإرهابية ينتمي ما يفعلونه بأنفسهم لنمط الانتحار الإيثاري. ينطلق هذا التأطير من فهم أن هؤلاء الأفراد يقتلون أنفسهم دفاعاً عن مجتمعاتهم مما يرونه غزواً لمجتمعهم وخطراً يتهدّده واستباحةً له، فيما أظن أن هذا الفهم للعمليات الانتحارية يصدق على بعض أشكال ظاهرة العمليات الانتحارية وليس كلها، إنه يصدق بشكل خاص على العمليات الانتحارية في فلسطين، لأنها محددة بوضوح ضد محتل ولأنها منطلقة من الدفاع عن الجماعة ونابعة من الغيرة على الجماعة التي تُظهر درجة عالية من التماسك الاجتماعي، كما أنها قد تصدق بحق المجتمع الذي يشهد صراعاً عسكرياً مع أعداء، أيّاً كان نوعهم، محتلين أو أعداء طائفيين، كما هو الحال في الانتحاريين العراقيين والسوريين في الصراعين العراقي والسوري مثلاً. ولا يعني هذا التأطير إضفاء أي نوع من النبل أو المشروعية على هذه العمليات، إنه مجرد محاولة للفهم. لكن يصعب وصف عملية انتحارية يقوم بها شخص قادم من مجتمع بعيد، كما قد يفعل مقاتل تونسي في الرمادي أو حلب، بوصفها انتحاراً إيثارياً، فهو لا يقتل نفسه من أجل مجتمعه الذي نشأ فيه وطوّر فهم العالم من خلاله، بل يفعل ذلك من أجل جماعة بديلة نسب نفسه إليها. ببساطة، إنه ليس انتحاراً إيثارياً. كما يصعب أيضاً وصف العلميات الانتحارية التي تنفذ في مجتمع لا تخوض فيه الجماعة صراعاً عسكرياً أو تدافع عن نفسها أو تتعرض لإهانة وإذلال، كما هي العمليات الانتحارية لكل من «القاعدة» و «داعش» في السعودية، بوصفها انتحاراً إيثارياً أيضاً. ويصعب تقبل وصف العمليات الانتحارية في مجتمع مضيف، كما يفعل «الدواعش» في باريسوبروكسيل، بوصفها انتحاراً إيثارياً أيضاً. ولا ينفع في النوع الأخير الزعم بأن هؤلاء الانتحاريين لا ينتمون للمجتمع المضيف وبأنهم ينتحرون إيثاراً لجماعتهم، فجماعتهم العرقية والدينية ومجتمع آبائهم في شمال أفريقيا أو جنوب آسيا لا تتعرض لحرب وغزو وإذلال. لذا، كنت أحاجج بأن العمليات الانتحارية في أوروبا، والمنفّذة بواسطة من ينتمون من أبناء مجتمعاتها لفئة المهاجرين غالباً، تنتمي لفئة الانتحار اللامعياري، فمنفذ العملية الانتحارية هنا عرضة لنظامين قيميين متعارضين ولهما متطلبات متعارضة ورؤى مختلفة. ببساطة: إن شخصاً ضائعاً حانقاً على المجتمع سوف يرغب في قتله وقتل ذاته، ويصدق هذا التنميط على انتحاريي المجتمعات الأوروبية من «الدواعش» و «القاعديين» أكثر من انطباقه على أبناء المجتمعات المسلمة التقليدية. أوضح دليل على ذلك هو رسائل هذه الفئة من الانتحاريين، إنها غير «صلدة» في رؤيتها العقائدية، بل تصدر عن «توهان» تلقفه تنظيم إرهابي. يقول منفذ تفجير مطار بروكسيل إبراهيم البكراوي في كلماته الأخيرة، إنه «لا يدري ماذا يفعل». في أفضل الأحوال، إنه يقوم بعمل يائس حائر. هذه لغة مختلفة عن اللغة الإطلاقية الواثقة لانتحاريي الشرق. رسالة البكراوي قد تكون ضوءاً في نهاية نفق الإرهاب في أوروبا. لماذا؟ لأنها بلغة دوركايم انتحار لامعياري وليس إيثارياً، لغتها لا تصدر عن رؤية متماسكة للعالم بل تكشف عن حال من التوهان والضياع وتعكس رؤية أقل تماسكاً وصلابة من رؤية انتحاريي الشرق، بمعنى أن خطاب الإرهاب وأيديولوجياته لم تفض إلى حال اليقين الكاملة التي تظهر في رسائل انتحاريي الشرق على شكل شوق للجنان وحور العين والمسك ولقاء الأحبة وتناول الغداء مع الشهداء والصديقين. الانتحاري في حالة بروكسيل تائه، يداخله الشك في ما يفعله، وهذا مؤشر على اعتمال نظامين قيميين متنافرين داخله، ما يعني أن قوة دفع النظام القيمي الذي دفعه للقتل والموت ليست تامة. صحيح أن الرجل قتل نفسه وآخرين، لكن كما يظهر من بقية نص الرسالة، أنه فعل ذلك بدافع من تضييق الأمن السبل عليه وليس طلباً ل «الشهادة». سلّم الرجل نفسه للأيديولوجيا الجهادية، لكن صوتاً دفيناً داخله بقي يقاوم وفرض نفسه على شكل حيرة وعدم يقين في الكلمات الأخيرة له. ماذا يعني كل هذا؟ يعني أن القيم الأوروبية هي العامل الأهم في نقل فعل الانتحار «الداعشي» لأبناء مسلمي أوروبا من خانة الانتحار الإيثاري إلى خانة الانتحار اللامعياري. بكلام آخر، إن القيم الأوربية تعمل كمصد ضد تقبل الأفكار الجهادية، ولذلك يمكن التنبؤ بأن الظاهرة الجهادية في أوروبا لن تدوم طويلاً. نقلا عن صحيفة الحياة