تحتفل مصر والقوات المسلحة اليوم 19 مارس بذكرى تحرير طابا ورفع العلم المصرى عليها وإعلان عودة التراب المصرى كاملاً، بعد معارك ضارية خاضتها الدولة المصرية بالفكر والعرق والدم فحررت جزءًا من الأرض بانتصارات اكتوبر المجيدة فى عام 1973، ثم المفاوضات التى استعادت من خلالها مصر باقى الأرض، وأخيرًا المعركة الدبلوماسية والقانونية التى انتصرت فيها الدولة المصرية أيضًا، عندما استعادت طابا بالتحكيم الدولى فى عام 1989. فى مثل هذا اليوم رفرف العلم المصرى على أرض طابا، وبعودتها لحضن الوطن تحطم الحلم الإسرائيلى بالتواجد فى أرض الفيروز، فى مثل هذا اليوم توج الكفاح المصرى الذى استمر 22 عامًا لاستعادة سيناء من براثن الاحتلال الإسرائيلى. وستظل قضية طابا الأولى من نوعها فى منطقة الشرق الأوسط, حيث تمت تسوية نزاع حدودى بين إسرائيل ودولة عربية عن طريق المحاكم الدولية، فالعدو الإسرائيلى منذ نشأته لايعرف سوى لغة القوة، ولكن الإرادة والعبقرية المصرية أجبرته على الخضوع والتنفيذ، بعد أن وجهت اليه ضربات ساحقة فقد معها الأمل فى أن تحميه قوته أمام المصريين، فإضطر للقبول بالتحكيم لأنه أدرك أن المصريين غير قابلين للهزيمة فى الحروب، وتحولت معركة تحرير طابا الى ملحمة مكملة لنصر أكتوبر العظيم، وأعلنت مصر أنها لن تتهاون فى حبة رمل واحدة، وأعدت عدتها فى المعركة القانونية التى شارك فيها جهابذة القانون والدبلوماسية، وانتصرت ارادة أقدم دولة فى التاريخ أمام صعاليك الاحتلال. فى ذكرى تحرير طابا يحق للمصريين التباهى أمام الأمم والشعوب بجيشهم العظيم، الذى لم يدخر جهداً فى الدفاع عن تراب الوطن وصون مقدساته فى الخارج، ولم يتأخر يومًا فى حماية إرادة شعبه أمام الحاكم فى الداخل عبر ثورتين عظيمتين فى 25 يناير و30 يونية، ليعلم القاصى والدانى أن للمصريين سيفاً ودرعاً يتمثلان فى جيش وطنى حديث قوى قادر على حماية المصريين ورد العدوان عنهم فوق أى أرض وتحت أى سماء، مثل ما فعل بتوجيه ضربة قاصمة لإرهابى «داعش» فى ليبيا إثر اعتدائهم على المصريين هناك. ويجب أيضاً أن يتذكر المصريون أيضًا فريق الدفاع عن طابا الذى ضرب المثل فى الوطنية وإعمال العقل فى مواجهة عدو مراوغ لايقبل ولا يفهم سوى لغة القوة. وكان قد نشأ نزاع مع العدو على منطقة طابا التى أطلق عليها «قضية العصر» فى أواخر عام 1981م خلال المرحلة الأخيرة من انسحابه من سيناء، ولكن الدولة المصرية ابت أن يغتصب ولو شبراً واحداً من أرض الفيروز، واستخدمت الدولة المصرية جميع قواها الشاملة فى القضية التى دامت 7 سنوات حتى استعادتها مصر بالتحكيم الدولى . وعندما نراجع الانسحاب الإسرائيلى من سيناء نجد أنه مر ب 3 مراحل، تمثلت المرحلة الأولى فى الانسحاب المباشر والتراجع الى الخلف إثر حرب اكتوبر المجيدة التى دمرت خطوط العدو الأمامية وتقدمت القوات المصرية فى اعماق سيناء، واستمرت هذه المرحلة حتى عام 1975 بتحرير المضايق الاستراتيجية وحقول البترول على الساحل الشرقى لخليج السويس. فى حين كانت المرحلتان الثانية والثالثة من الانسحاب تطبيقًا لبنود معاهدة السلام التى وقعها الرئيس السادات، وحررت مصر خلال المرحلة الثانية 32 ألف كيلومتر بداية من خط العريش - رأس محمد وانتهت المرحلة فى يناير1980، وخلال المرحلة الثالثة انسحبت إسرائيل إلى خط الحدود الدولية الشرقية لمصر وتم تحرير سيناء فيما عدا منطقة طابا التى حولتها إسرائيل الى منطقة نزاع وحاولت فرض سياسة الأمر الواقع عليها. وفقاً لنص معاهدة السلام بين مصر واسرائيل فقد نصت المادة الثانية على ان «الحدود الدائمة بين مصر وإسرائيل هى الحدود الدولية المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب». كما نصت الفقرة الثانية من المادة الأولى على أن «تسحب إسرائيل كافة قواتها المسلحة والمدنيين من سيناء الى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب». ورغم أن طابا هى منطقة محدودة المساحة «أقل من 1 كيلو متر» فإنها تقع على الساحل الغربى لخليج العقبة وعلى بعد 5 أميال من رأس الخليج « بحراً» وداخل الحدود المصرية ب3 أميال، كما انها تقع بالقرب من مصادر ابار المياه العذبة وتتحكم طابا فى الممرات المتجهة إلى وسط سيناء، وكذا فى الطريق المتجه إلى غزة شمالاً، وهو ما يعنى ان طابا من الناحية الاستراتيجية تعتبر مفتاح الدخول الى جنوب اسرائيل عبر سيناء وبالعكس، إضافة الى انها تطل على ميناء ايلات الاسرائيلى، مما يسمح لمن يتواجد فيها بالسيطرة على هذه المنطقة الحيوية التى تمثل شرياناً مهماً الى قارتى آسيا وإفريقيا فضلاً عن ان المنطقة من خليج العقبة والى مسافة 20 كيلومتر شمالاً عبارة عن هضبة جبلية يمتد بها وادى طابا الذى يخترقه ممران جبليان يتجهان الى ايلات ويمثل احدهما جزءاً من طريق الحج البرى القديم بسيناء . ويعتبر المثلث «طابا - العقبة - رأس النقب» مثلثاً استراتيجياً فى العمليات العسكرية، حيث ترتكز قاعدة «طابا - رأس النقب» على الحرف الشرقى لوادى طابا، ويتحكم الرأس المطلة على الخليج فى الطريق الساحلى ومخرج الممر، كما ان هذا المثلث يمكن أن يمتد ليكون مثلثاً آخر هو «العقبة - شرم الشيخ - السويس» يضاف الى ذلك أن منطقة طابا ستمثل بالنسبة لإسرائيل نقطة تحكم تطلع من خلالها على ما يجرى فى المنطقة كلها، فضلاً عن انها ستكون وسيلة ضغط مستمرة على مصر تقوم من خلالها بعزل سيناء شمالها عن جنوبها. كما تقع طابا فى مواجهة الحدود السعودية فى اتجاه مباشر لقاعدة تبوك، لذلك فمن يسيطر على طابا يسيطر على رأس خليج العقبة فيستطيع رصد ما يجرى فى كل من خليج السويسوشرم الشيخ ونويبع، ولهذه الأسباب حاول العدو الاسرائيلى تحريك بعض هذه العلامات داخل الأرض المصرية للاستيلاء على طابا. وأدركت مصر منذ اللحظات الأولى للخلاف أن تمسك إسرائيل بهذا الشريط الحدودى الصغير الذى يمتد1200م, لم يكن بهدف الاستيلاء على أرض فقط كعادتها، وأعلنت مصر موقفها بوضوح وأنه لا تنازل ولا تفريط عن أرض طابا، وأى خلاف بين الحدود يجب أن يحل وفقاً للمادة السابعة من معاهدة السلام التى تنص على أن تحل الخلافات بشأن تطبيق أو تفسير هذه المعاهدة عن طريق المفاوضات، واذا لم يتيسر حل هذه الخلافات عن طريق المفاوضات تحل بالتوفيق أو تُحال إلى التحكيم . ويؤكد اللواء بحرى أ. ح متقاعد حسن حمدى الخبير الاستراتيجى، عضو اللجنة القومية العليا لطابا أنه كان لاسرائيل أهداف سياسية من السيطرة على طابا تتمثل فى كسر مبدأ الانسحاب من جميع الاراضى المحتلة، وأسباب اقتصادية تتجسد فى انعاش مدينة ايلات المحرومة من مقومات السياحة، اضافة الى هدف عسكر تلخص فى التخطيط لمحور النقب - التمد - نخل - مضيق متلا، ولك طمعاً فى الوصول الى شرق القناة. وقد أجبرت مصر إسرائيل على القبول بمبدأ التحكيم وأعلنت فى 13/1/1986 موافقتها على قبول التحكيم، وبدأت المباحثات بين الجانبين وانتهت إلى التوصل إلى «مشارطة تحكيم» فى 11 سبتمبر 1986 وهى تحدد شروط التحكيم، ومهمة المحكمة فى تحديد مواقع النقاط وعلامات الحدود محل الخلاف . وانطلقت رسمياً المعركة الدبلوماسية والقانونية المصرية الخالدة وتمسكت مصر بحصر مهمة هيئة التحكيم فى الإجابة على سؤال واحد مفاده أين الموقع الحقيقى لعلامات الحدود المتنازع عليها وعددها 14 علامة وأهمها العلامة 91 وهل قامت إسرائيل بتحريك هذه العلامات للتلاعب فى حقائق الأرض أم لا؟ فى حين حاولت إسرائيل أن تجعل مهمة هيئة التحكيم بحث الحدود بين مصر وفلسطين تحت الانتداب وهى مسألة يطول بحثها وتستغرق سنوات طويلة حتى تكون أرض طابا خلالها تحت السيطرة الإسرائيلية. وقد ضم فريق الدفاع المصرى 24 خبيراً بينهم 9 من أقطاب الفكر القانونى، من بينهم الدكتور وحيد رأفت نائب رئيس حزب الوفد رحمه الله ومفيد شهاب, أستاذ القانون الدولى إضافة إلى 2 من علماء الجغرافيا والتاريخ منهم يونان لبيب, و5 من أكبر الدبلوماسيين بوزارة الخارجية بينهم نبيل العربى وأمين الجامعة العربية الذى كان يشغل رئيس الإدارة القانونية بوزارة الخارجية, و8 من العسكريين وخبراء المساحة العسكرية على رأسهم اللواء عبدالفتاح محسن مدير المساحة العسكرية. وشكلت هيئة التحكيم من أكبر رجال القانون العالميين وضمت القاضى جانر لاجروجرين السويدي, والقاضى بيير بيليه الفرنسي, والبروفيسور ديتريش شندلر السويسرى. وقدمت هيئة الدفاع المصرية آلاف الوثائق والمذكرات والأسانيد الجغرافية والتاريخية والقانونية، التى تؤكد حق مصر التاريخى فى منطقة طابا, ومن بينها وثائق ترجع الى عام 1274م، وكذلك التقرير الشامل الذى قدمه الكابتن «أوين» عن عملية رسم خط الحدود عام 1906, وتم بمقتضاها توقيع اتفاقية «بين مندوبى الدولة العليا ومندوبى الخديوية الجليلة المصرية بشأن تعيين خط فاصل ادارى بين ولاية الحجاز ومتصرفية القدس وبين شبه جزيرة طور سيناء»، اضافة الى مجموعة من الأسانيد والوثائق التاريخية من المندوب السامى البريطانى الى الخارجية المصرية, والمخابرات المصرية عام 1914 وتقارير مصلحة الحدود فى عام 1931، كما زارت هيئة التحكيم بعض المواقع على الطبيعة فى سيناء. وعلى الجانب الاخر قدمت إسرائيل لهيئة المحكمة «مجموعة أفكار» استندت فيها إلى كتاب الاحصاء السنوى لمصر عن عام 1906 ومقتطفات من كتاب نعوم شقير باسم «تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها» اضافة إلى وثائق من المخابرات البريطانية عن فلسطين وشرق الأردن تعود لعام 1943 ومحاضر من اجتماعات وزارة المستعمرات فى عام 1945. وفى 29 سبتمبر 1988 أصدرت هيئة التحكيم التى انعقدت فى جنيف بالإجماع حكمها لصالح مصر وأعلنت أن طابا مصرية، لكن إسرائيل التى خلقت لتحتل الأرض اختلقت أزمة جديدة فى تنفيذ الحكم، وقالت إن مصر حصلت على حكم لمصلحتها ولكن التنفيذ لن يتم إلا برضا اسرائيل وبناء على شروطها، وأمام الموقف المصرى الصلب والواضح تلاشت كل الأوهام الإسرائيلية فى ان تملك موضع قدم فى سيناء، فطلبت اسرائيل اعطاءها مركزا متميزا فى طابا من خلال دخولها بدون تأشيرة دخول، فرفض ايضاً . وفى مثل هذا اليوم 19 مارس 1989 استعادت مصر منطقة طابا وعادت إلى سيادتها، ووجهت القوات المسلحة التحية الى الشعب المصرى العظيم معلنة استعادة السيادة الكاملة على تراب الوطن وتحول هذا اليوم الى عيد قومي لمحافظة جنوبسيناء، بعد نضال استمر 22 عامًا لتعود أرض الفيروز كاملة الى مصر.