إذا كانت حرب أكتوبر 1973 قد أدت دورها العسكرى بنجاح إلا أن الصراع المسلح فى ظل الظروف الدولية المعاصرة لم يعد وحده قادرا على حسم أى صراع لتحقيق نصر كامل ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن حرب أكتوبر. قد أرست قواعد الشريعة لإستئناف الصراع بين العرب وإسرائيل وذلك بإستخدام القنوات السياسية، وخير دليل على صحة هذا الرأى هو ذلك الاداء المصرى الدبلوماسى والسياسى المتميز وضرب القوة بالقانون، فى سبيل عودة طابا إلى سيناء أرض الفيروز فى السادس عشر من مارس 1989. فلم تكن قضية طابا مجرد اّخر بقعة من التراب الوطنى تم إستعادتها الى أحضان مصر من خلال مفاوضات شاقة ومضنية، ولم تكن بقعة مساحتها كم2 وأحد أو اقل من أرض سيناء الواسعة فحسب، ولكنها تعتبر نموذجا للإلتزام الوطنى ورمز إحترام السيادة الوطنية, وتطبيقا للمبدأ الذى أعلنته مصر منذ المراحل الأولى من النزاع بعدم التفريط فى ذرة من ترابها الوطني. وقد يكون من الأفضل البدء أولا بالتعرض للقيمة الإستراتيجية بمنطقة طابا بصفة خاصة مارا بخط الحدود الدولية على الإتجاة الإستراتيجى الشمالى الشرقى /السينائى لما لذلك من أهمية. فطابا تعتبر محدودة المساحة "أقل من واحد كيلو متر مربع" تقع على الساحل الغربى لخليج العقبة وعلى مسافة خمسة أميال من رأس الخليج "بحراً" وداخل الحدود المصرية بثلاثة أميال وبالقرب من مصادر اّبار المياه العذبة، وتتحكم طابا فى الممرات المتجهه إلى وسط سيناء، وكذا فى الطريق المتجه إلى غزة شمالا، أى أن طابا "من الناحية الإستراتيجية" تعتبر مفتاح الدخول إلى جنوب إسرائيل عبر سيناء وبالعكس. كما أنها فى نفس الوقت تطل على ميناء إيلات الأمر الذى يسمح لمن يتواجد فيها بالسيطرة على هذة المنطقة الحيوية والتى تمثل شريان هاما الى قارة اّسيا وأفريقيا، كذلك فإن المنطقة من خليج العقبة وإلى مسافة 20 كم شمالاً عبارة عن هضبة جبلية يمتد بها وادى طابا الذى يخترقة ممرين جبليين يتجهان إلى إيلات، ويكون إحداهما جزءا من طريق الحج البرى القديم بسيناء. ويعتبر المثلث: "طابا / العقبة / رأس النقب" مثلثا إستراتيجيا بفكر العمليات الحربية : ترتكز قاعدة "طابا / رأس النقب" على الحرف الشرقى لوادى طابا حيث تتحكم الرأس المطل على الخليج بالطريق الساحلى ومخرج الممر، كما أن هذا المثلث يمكن أن يمتد ليكون مثلثا اّخر هو: "العقبة / شرم الشيخ / السويس". -2 وبوجه عام فإن أهمية الأرض التى يمتد خلالها خط الحدود الدولية الشرقية حتى رفح شمالا ترتبط بالتوفير النسبى لموادر المياه العذبة وطرق التحركات الرئيسية "الجنوبى، الأوسط، الشمالى"، كما أن بعضها يصلح للزراعة والتنمية السكانية ولاعمال السياحة على النحو الذى حدث فى منطقة طابا. أولا : بداية المشكلة: 1 - بدأت مشكلة طابا الأولى فى مطلع القرن الماضى بين مصر وسلطة الإحتلال البريطانى كطرف أول مع الدولة العثمانية كطرف ثان فى يناير 1906 بأن أرسلت تركيا قوة لإحتلالها مخالفة بذلك ما جاء بفرمان و1841 و 1892 الخاصين بولاية مصر والحدود الدولية الشرقية لها والممتدة من رفح شمالاً على ساحل البحر المتوسط إلى رأس خليج العقبة جنوبا شاملة قلاع العقبة وطابا والمويلح. 2 - تدخلت بريطانيا سياسيا لمنع تكريس الأمر الواقع على الحدود وذلك حفاظا على مصالحها فى مصر أو لمجرد إحتمال تهديد قناة السويس، ذلك الشريان الحيوى الذى يصلها بمستعمراتها فى جنوب شرقى اّسيا والهند 3 - إزدادت المشكلة تعقيداً فتعددت أزمة طابا وامتدت إلى منطقة رفح فى أقصى الشمال حيث قامت الدولة العثمانية، أيضاً بقوة من جنودها بإحتلال مدينة رفح وإزالة اعمدة الحدود الدولية بها. 4 -وبفشل الجهود السياسية قامت بريطانيا بتقديم إنذار نهائى إلى الباب العالى فى تركيا أوضحت فيه بأنها ستضطر إلى الإلتجاء إلى القوة المسلحة مالم يتم إخلاء طابا ورفح وعودة القوات التركية بهما إلى ما وراء الحدود الأمر الذى دفع بالسلطة العثمانية بها إلى الرضوخ لهذة المطالب الشرعية. وقامت بتعيين لجنة مشتركة مع الجانب المصرى والبريطانى لإعادة ترسيم الحدود إلى ما كانت عليه مع تدقيقها طبقا لمقتضى القواعد الطبوغرافية لتحديد نقاط الحدود الطبيعية بدأً من رفح ثم تتجه اللجان جنوبا بشرق على خط مستقيم تقريبا إلى نقطة حدود على خليج العقبة تبعد ثلاثة أميال من العقبة مما يستدل منه ببساطة عودة منطقة طابا الى داخل الحدود المصرية بنحو ثلاثة أميال. وأنتهى المهندسون البريطانيون مع مندوب المساحة المصرية واللجنة التركية من رسم الخرائط وتثبيت علامات الحدود من رأس طابا جنوباً ماراً على رؤوس جبال طابا الشرقية المطلة على وادى طابا ثم يتجه الخط الفاصل بالإستقامات المحددة وشمالاً حتى رفح إلى شاطىء البحر المتوسط مع تحديد هذا الخط الحدودى فلكياً وعلى الخرائط المرفقة بالاتفاقية المبرمة بين كلا من مصر وبريطانياوتركيا بخط أسود متقطع هذا وقد بلغ عدد الاعمدة المقامة وقتئذ على الحدود الدولية، وحتى وقتنا هذا، عدد 91 عموداً للحدود بدأ من العمود رقم واحد عند ميناء رفح على تل الخرايب واّخر عمود وهو رقم 91 على رأس طابا حيث أنتهى نهائياً بناء هذه الأعمدة الأسمنتية المسلحة فى 9 فبراير 1907، وهكذا عادت طابا مصرية فى طلع القرن العشرين، وكانت الوثائق المتعلقة بمشكلة طابا الأولى بوثائقها التاريخية خير سند قانونى دعم موقف المفاوض المصرى فى أزمة طابا الثانية فى الثمانينات القرن العشرين الماضى. -3- ثانيا لقد قدر ل "طابا" أن تكون مرة أخرى بعد حرب أكتوبر 73 فى دائرة الأهتمام لكلا من الدبلوماسية المصرية والإسرائيلية وذلك خلال ترتيبات الإنسحاب النهائى من شبه جزيرة سيناء، تنفيذا لإتفاقية السلام، حيث بدأت مقدمات المشكلة كالاّتى: عادت مسألة الحدود الاّمنة تطرحها إسرائيل بعد حرب أكتوبر 73 إلى أن عقدت معاهدة السلام فى مارس 79 والتى نصت فى مادتها الأولى على أن تنسحب إسرائيل من سيناء إلى ماوراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الإنتداب. إلا أن إسرائيل "بعد توقيع المعاهدة قررت توسيع الأقاليم التى تحيط بميناء إيلات"، وشرعت فى إقامة فندق سياحى فى وادى طابا دون إبلاغ مصر ومن هنا بدأ خلاف حول الحدود خاصة عند علامة الحدود رقم 91 بمنطقة طابا. وفى أكتوبر عام 81 وعند تدقيق أعمدة الحدود الشرقية اكتشفت اللجنة المصرية بعض مخالفات إسرائيلية حول عدد 13 علامة حدودية اخرى اردات اسرائيل ان تدخلها ضمن أراضيها وأعلنت مصر بانها لن تتنازل أو تفرط فى سنتيمتر واحد من اّراضيها وأن الحفاظ على وحدة التراب الوطنى المصرى هدف أساسى وركيزة لكل تحرك. دارت مباحثات على مستوى عالى بين الجانبين استخدمت إسرائيل فيها كل صنوف المراوغات واعلنت مصر بأن أى خلاف حول الحدود يجب أن يحل وفقا للمادة السابعة من معاهدة السلام والتى تنص خلاصتها بأن يتم الحل عن طريق المفاوضات وفى حالة فشلها يتم اللجوء إلى التوفيق أو التحكيم، ثم ابدت مصر رغبتها فى اللجوء إلى مشارطة التحكيم فقامت بتشكيل لجنة فنية تضم مجموعة من الاساتذة والخبراء المتخصصين فى القانون الدولى بدراسة الجوانب القانونية للتوفيق والتحكيم كما شكلت مصر لجنة فنية أخرى للاتفاق على النظام الذى سيسود المنطاق المتنازع عليها حيث رأت مصر أنها تفضل اللجوء الى التحكيم فى المقام الأول. استمرت المفاوضات لأكثر من أربع سنوات ولصعوبة الوصول إلى حل للنزاع وبتدخل الولاياتالمتحدةالأمريكية تم الإتفاق فى 11 سيبتمبر 86 إلى اللجوء لهيئة تحكيم دولية تعقد فى جنيف بسويسرا، حيث يحقق هدفين اساسيين أصر عليهما الجانب المصرى ضمن مشارطة التحكيم وهما: أ - تلتزم اسرائيل بتحكيم بجدول زمني محدد بدقة. ب - تحدد مهمة المحكمة بدقة بحيث تكون مهمتها الوحيدة والمسندة اليها هى تثبيت الموقع الذى تراه صحيحا وترفض الموقع الذى اقترحه الطرف الأخر مع اعتبار الحكم نهائى يلزم تنفيذة دون تراجع. 6 - نتيجة الجهود الدبلوماسية والسياسية المكثفة, واستنادا للوثائق القانونيةوالتايخية الدامغة التى قدمتها مصر للمحكمة، إضافة الى الزيارات الميدانية لهيئة المحكمة لنقاط النزاع الحدودية على الطبيعة. -4- "قبل الحكم".. رسخ للهيئة انطباع حقيقى عن أوضاع نقاط الحدود طبقا لدفاع ىووجهة النظر المصرية بعوامل قوتها، ومن وجهة النظر الإسرائلية بعوامل ضعف حجتها، أفادت المحكمة فى إصدار الحكم لصالح مصر عام 1988 ثم فى تكييف أسباب هذا الحكم النهائى له وبعد صدور الحكم فى 29 سبتمبر 1988 لصالح مصر أصبحت القضية المثارة تتلخص فى تنفيذه. فقد حاولت اسرائيل التراجع عن التزامها بما جاء بمشارطة التحكيم فيمايخص بموافقتها عند توقيعة بان الحكم يلزم تنفيذة إلا إنها لم تترك هذة الفرصة دون أن تمر دون محاولة الحصول على أكبر قدر من المزايا والتى تم حسمها أخيرا عن طريق إتفاق روما التنفيذى فى 29 نوفمبر 1988 بحضور الولاياتالمتحدة، حيث إنتهى بحل المسائل المعلقة والإتفاق على حلها نهائيا من خلال ثلاث اتفاقيات تختص. أولا: بالنشاط السياحى، وذلك بتعويض إسرائيل بمبلغ 37 مليون دولار وباسعار ذلك الوقت تدفعة مصر مقابل تسليمها المنشئات السياحية فى فندق "سونستا طابا" والقرى السياحية، وذلك على غرار ما حدث فى كل من: "دهب ونويبع وشرم الشيخ" من قبل. ثانيا: كان الإتفاق الثانى يختص بتحديد موعد الإنسحاب الإسرائيلى النهائى من طابا وتوصيل خط الحدود إلى شاطىء الخليج "النقطة 91" وتحدد 15 مارس 1989. ثالثا: الاتفاق الثالث فقد كان يتعلق بنظام مرور الإسرائيليين إلي ومن طابا إلي جنوبسيناء، فقد إتفقت الأطراف علي السماح للسياح الإسرائيليين بالدخول لطابا وفي حالة دخول السيارات يتعين أن يلصف علي السيارة كارت خاص، كذلك يسمح بالدخول والخروج من طابا إلى إيلات في زيارات متعددة خلال 14 يوما، وأن يحمل كل سائح جواز السفر الخاص به وأن يقوم بملئ بطاقة بيانات تختم بمعرفة السلطات المصرية في طابا وتكون صالحة لمدة 14 يوما. وإنتهت قضية طابا برفع الرئيس المصري الأسبق محمد حسنس مبارك العلم فوق أراضيها عام 1989، بعد معركة سياسية ودبلوماسية استمرت لأكثر من سبع سنوات، وارادت مصر تكريس هذا الدرس من خلال نداء السلام الذي وجهه مبارك خلال مراسم الاحتفال بعودتها إلى الوطن الأم والذي جاء فيه: أن الذين يعيشون بعقيدة أن الحرب هي التي تصون مصالحهم ووجودهم لا يستلهمون حكمة التاريخ ولا يعبرون عن نبض شعوبهم ابدا. وكانت مصر تأمل ان يتفهم العالم مغزي الاشارة وأن يدركوا أن استقرار المنطقة وأمنها يضمن الاقتناع بحتمية إعادة الحقوق والأراضي العربية لاصحابها. اللواء مسعد الششتاوي - الخبير الاستراتيجي ومستشار مدير الشئون المعنوية