أصبحت مغامرة أن يستقل أحد المواطنين قطاراً إلى الصعيد، لكثرة المخاطر والحوادث التى اشتهر بها هذا الخط، والتى راح ضحيتها أناس بسطاء، دفعوا حياتهم ثمناً للإهمال الجسيم المنتشر فى السكة الحديد، الاهمال الذى أصبح سرطانًا ينتشر فى مؤسسات الدولة، وعلى رغم هذه المأساة التى يعيشها المواطن، فإن الحكومات المتعاقبة «صُم بكُم عُمى» لا يتحركون قبل حدوث الكارثة، بل ينتظرون وقوعها حتى يتدخلون بشكل مباشر. وعلى رغم أن مصر من أولى الدول التى أنشأت خطوط السكة الحديد فى افريقيا، فإن هذا المرفق لا يخلو كغيره من مظاهر الإهمال، خصوصًا القطارات التى تعمل على خط الصعيد، حيث وصل حجم الخسائر لعام 2015 – 2016 إلى 4.4 مليار جنيه. «فخط الصعيد» اسم لابد أن نتوقف امامه، لنعيد الذاكرة إلى أول خط سكة حديد تم انشاؤه فى مدينة اسيوط عام 1874 ثم الأقصر عام 1898 حيث تكونت شركة تسمى «قناأسوان لخطوط السكك الحديدية» قامت بتصنيع القضبان بطريقة مختلفة تجبر الراكب القادم من القاهرةلأسوان على النزول فى الأقصر وقطع تذكرة ثانية من الشركة لأسوان. وفى محاولة لمعرفة الأوضاع ورصد مزيد من التفاصيل عن قطارات الوجه القبلى، توجهت « الوفد» إلى محطة مصر، وسافرت فى القطار المتجه إلى الصعيد، والذى يبدأ خط سيره من «رمسيس» ويمر ببولاق الدكرور ثم الجيزة والعياط والبدرشين وناصر والواسطى وبنى سويف التى تعتبر أولى محطات «صعيد مصر» وصولاً إلى الاقصروأسوان إلى نهاية الخط وهى محطة حلايب وشلاتين. فرحة وصدمة بدايةً، عند دخولى «محطة مصر» انبهرت بالمنظر الجميل والشكل الرائع الذى أصبحت عليه المحطة، حيث تبدو كقطعة فنية تحتاج لكبار الرسامين والمبدعين لكى يصفوها جيداً، ولكن إلى أن اتجهت إلى الرصيف رقم (11) لكى استقل قطار الصعيد الدرجة الثالثة والتى تسمى درجة « الفقراء أو المواطنين بسطاء الحال»، سرعان ما اختفت هذه الصور الجملية التى انبهرت بها عند دخولى للمحطة، فالعبور للرصيف يحتاج النزول إلى نفق بداخله سُلم مكون تقريباً من 25 درجة، عند الصعود أو النزول، يقوم جميع المسافرين بجر امتعتهم على درجاته، فتنكسر ارجل وعجل الشنط، وفى بعض الأحيان نتيجة التزاحم الشديد يتساقط الافراد على بعضهم البعض وتنطلق صيحات الصراخ من افواه بعض السيدات. عند الرصيف ينتظر آلاف الأشخاص وصول القطار، فالوقت يمر ببطء شديد وملل الانتظار كفيل بأن يجعل بعض الافراد يردد العديد من العبارات الغاضبة، 15 دقيقة مرت على الوقت المحدد لوصول القطار وهو « الثانية عشرة والربع» ولكنه لم يأت حتى الآن، وبعد نصف ساعة «أخيراً وصل»، فإذ بالناس يتكدسون أمام الابواب ويتصارعون من أجل أن يصعد أحدهم إلى داخل القطار اولاً، وبعد معاناة التزاحم الشديد، صعدت أخيراً إلى الداخل، منزعجة جداً من هذا المشهد العبثى، وسرعان ما ضحك شخص امامى وقال لى: «شكلك أول مرة تركبى قطار الصعيد.. احنا كل يوم فى المأساة دى وساعات ناس تتسرق اغراضها الشخصية أو تفقد أحذيتها وغيرها ... احمدى ربنا أنك دخلتى القطار اساساً». وبعد معاناة صعود القطار، تأتى رحلة البحث عن مقعد خالٍ لكى أجلس عليه نظراً لعدم استطاعتى الوقوف طوال الرحلة والتى تستغرق ساعات طويلة، تجولت فى عربات القطار وانا مصدومة حقاً من المنظر البشع، فهنا ركاب معلقون على أبواب القطار وآخرون يجلسون على الأرضيات، وبينما أصارع لكى استطع التنقل من عربة إلى أخرى، وقع نظرى على كراسى متهالكة تتحرك مع كل هزة للقطار كسوتها فى منتهى القذارة. ونوافذ معظمها مكسورة، والزجاج محطم ومشروخ ينذرك بانفجاره فى أى لحظة فى وجهك. عند سير القطار يتساقط ويدخل الهواء من بين أجناب الزجاج فلا وجود لأبواب تفصل بين العربات وباب الصعود من وإلى القطار وكل ما مضى عذاب ودورات المياه عذاب آخر، فعندما تتنقل من عربة إلى أخرى لا تتحمل الرائحة الكريهة المنبعثة من الحمامات، فالقاذروات تنتشر بشكل كبير، ما يعيق اى راكب خاصةً الذى يقضى أكثر من 10 ساعات متواصلة داخل القطار عن قضاء «حاجته». وبعد معاناة، أخيراً يترك أحد الأشخاص مقعده لكى أجلس عليه. وبعد جلوسى استمررت لوقت طويلاً أتفحص وجوه الناس، حيث يبدو عليهم الشقاء والتعاسة فكل منهم فى « دنيا وحال مختلف عن الآخر» فهناك مجموعة من الأشخاص يجلسون معاً ويدخنون بكثافة لدرجة أن بعض كبار السن انزعجوا كثيراً من رائحة السجائر ولكنهم حرصوا على ألا يتحدثوا تجنباً للمشاكل، بينما يتحدث آخرون عن مشاكلهم وهموم حياتهم اليومية ومعاناة المعيشة التى أصبحت باهظة لدرجة أن الفقير لايستطيع التأقلم عليها، والبعض الآخر يلجأ إلى اللب والسودانى للتسلية ولإهدار الوقت، بينما فضل أشخاص آخرون النوم للهروب من كافة المظاهر العبثية المتواجدة بالقطار. وأثناء انشغالى بملاحظة تصرفات الركاب، إذ بمجموعة من الشباب مناظرهم غريبة للغاية، يبدو عليهم أنهم من منطقة عشوائية مهنتم البلطجة، إذ يحملون مجموعة من الأسلحة البيضاء مثل المطواة و(الامواس التى تستخدم لحلاقة الذقن)، ويهددون اشخاص تشاجرت معهم لمحاولتهم عرقلة حركة القطار بسحب الفرامل فى منتصف الطريق وتقريباً قبل الوصول إلى منطقة بولاق الدكرور التى يمر عليها القطار، فدهشت كثيراً عندما سمعت بلطجيا يهدد أحد الأفراد قائلاً: «طالما القطار ترك محطة مصر لا يمكن لاحد أن يمسنا»... مؤكداً أن الشرطة تفقد السيطرة الكاملة على خط الوجة القبلى وخاصةً الصعيد»، فإذ بالركاب يتراجعون عن مواجهة البلطجية مرددين عبارات «حسبنا الله ونعم الوكيل... ربنا ينتقم من الظالم»... وسرعان ما يجلسون فى اماكنهم، منتظرين أن يقوم السائق بإصلاح ما أفسده غيره. عطلة قيام البلطجية بسحب فرامل القطار «فى مشهد عبثى» تسبب فى عطلته لمدة 45 دقيقة، ليحدث بعدها حالة من الهرج والمرج داخل العربات فمعظم الركاب يخرجون ويقفون على القضبان، وآخرون يفضلون الجلوس فى أماكنهم لمبادلة أطراف الحديث مع بعضهم البعض، مرددين دعوات بأن يستطع السائق إصلاح العطل سريعاً لينطلق مرة أخرى، وأثناء حديثى مع إحدى المسافرات وتدعى الحاجة « سناء كامل» 55 عاماً، أكدت أن تعطيل القطار أمراً اعتدوا عليه، فتحدث مثل هذه الامور كثيراً، مشيرةً إلى أنها تسافر كل ثلاثة أشهر من الاقصر للقاهرة والعكس للاطمئنان على ابنتها المتزوجة من أحد الأشخاص فى منطقة شبرا الخيمة. وتابعت: «اعانى كثيراً من مشقة هذه الرحلة وخاصةً أن القطار فى حالة يرثى لها، ولكننى مضطرة على ذلك لرؤية ابنتى، ولعدم استطاعتى تكبد تكاليف ركوب خط الدرجة الثانية والذى يصل ثمنه إلى أكثر من 80 جنيها، لذلك « لا اجد بديلاً غير تحمل متاعب خط الدرجة الثالثة». ويتدخل راكب فى الحديث قائلاً: «بنطق الشهادة يومياً بعد ركوبى القطار... وبدعو أنى أوصل لاولادى سليماً». وقال «محسن مصطفى» 45 عاماً من بنى سويف: «أن قطارات الصعيد أصبحت مرتعاً خصباً للقيام بأعمال السرقة والقتل والاغتصاب... نظراً لضعف التواجد الأمنى داخل القطار، مشيراً إلى أن الإهمال وصل لعد إجراء الحد الأدنى من الحماية المطلوبة للفرامل الهوائية والتى يظهر فيها خلل واضح يؤدى لشل حركة القطار لعدة مرات متتالية مما يعرضها للانقلاب، وهو ما يعرض حياة الركاب للخطر ووقوع الكوارث. انطلاق القطار مع انطلاق القطار مرة أخرى مكملاً رحلته التى توقفت لدقائق طويلة، يصعد سيلاً من الباعة الجائيلين كأنهم احتلوا القطار، والركاب اصبحوا رهائن لديهم، فبين حين وأخر يأتى صبى فى عمر 12 عاماً يحمل «براداً من الشاى» ومعه أكواب من البلاستيك وينادى بأن «ثمن الكوب بجنيه واحد» فيسرع عدداً من المسافرين للشراء منه، لا تمر دقيقة واحدة حتى يأتى شخص آخر فى الثلاثينيات من عمره، يحمل مجموعة من ملابس الأطفال وينادى الطقم ب 10 جنيهات، ورغم رخص بضاعته لكن لا يتشجع الكثير من الأفراد على شرائها، « سندوتشات جنبة بالطماطم وعليها جرجير وفلفل» ثمن الواحد 2 جنيه، يحملها أحد البائعين على صنية وينادى بصوت مرتفع لكى يقدم المسافرين على شرائها، « اللى عايز لُب وسودانى... سلى وقت يا بيه»، هكذا تنادى إحدى الفتيات حاملة فى يديها مجموعة من أكياس الُب والسودانى ثمن الكيسيين جنيه واحد، فالطبع لا وسيلة امتع من هذه لإهدار الوقت، فسرعان ما ينهال على البائعة الكثير من الركاب للشراء منها. وبعد دقائق قليلة تتحول عربات القطار إلى صناديق للقمامة، حيث تنتشر بقايا المشروبات والمآكولات فى الأرضيات بشكل مقزز. ولم يكن الباعة الجائلين وحدهم المتواجدون بشكل كبير فى عربات القطار، فكان هناك حضور واضح للشحاذين، فبين حين وآخر يأتى رجل عجوز أو امرأة تتسول عن طريق ترديد من مجموعة من الادعية، فسرعان ما يتعطف عليهم أحد الركاب ويعطى إليهم «حسنة» بسيطة» والامر الأكثر غرابة، ليس فقط فى هذه المظاهر العبثية، ولكن عند ظهور مجموعة من الصبية أعمارهم تترواح ما بين 16 إلى 18 عاماً، يقفون عند أطراف العربات ويشيرون بنظرات غريبة لمجموعة من الركاب الشباب، شككت فى الموضوع خاصةً أن الصبية مناظرهم كانت غير طبيعية، فسرعان ما سألت شخص بجوار يدعى « محمد عبدالتواب» من سوهاج، عن سبب النظرات الغريبة والتجمع المشكوك فيه بين الشباب والصبية عند طرف العربة، فيرد «دول بائعى مخدرات ... كل رحلة للقطار دائماً تلاقيهم موجودين، وهناك إشارات بينهم وبين بعض الزبائن المعتدين على السفر يومياً أو على الأقل أسبوعياً من هذا الخط. لم استطع أن استرد وعى من كافة هذه المظاهر التى اشهدها والتى تقشعر لها الإبدان، إلا واستمعت صرخات امرأة والتلفظ بالعبارات البذيئة بين مجموعة من الركاب فى العربة المجاورة وشخص آخر، حاولت ترك مكانى والتشديد على الراكب الذى كان يجلس بجوارى بأن يحافظ على مقعدى حتى أعود، وانتقلت إلى العربة الآخرى لمعرفة السبب، فإذ بامرأة تبكى وتتهم شخص بالتحرش بها ومحاولة الاعتداء عليها اثناء دخولها للحمام، « استمعت إلى الحديث فى حالة ذهول وخوف شديد» جعلتنى أسرع بالعودة مرة أخرى إلى مقعدى وادعو أن يسرع هذا القطار البطئ لكى اصل وتنتهى رحلة العذاب» التى بدأتها ولا تريد أن تنتهى». أهو الكمسرى جه واخيراً بعد الكثير من الأحداث الصادمة والتى تشبه الأفلام السينمائية، يأتى الكمسرى بعدما اقترب القطار من الوصول إلى محطة «بنى سويف»، فإذ به يطالب الركاب برؤية التذاكر، فالبعض يظهرها، وآخرون لايحملونها، فيطلب منهم أن يدفعوا ثمن التذكرة والتى يتحدد ثمنها بناءٍ على المحطة التى يريد الراكب النزول إليها، ولكن يمتنع الكثير عن دفع تكاليف التذكرة ويحاولون الاشتباك مع الكمسرى والاعتداء عليه، فينسحب بهدوء «لا حول ولاقوة له»، فهو فى النهاية موظف حكومى يعمل فى مكان ملىء بالمخاطر بلا حماية كفاية، وعندما سألته: قال إن خط الصعيد ملىء بالمشاكل وأنه يتجنب دائماً الدخول فى معارك أو اشتباكات مع أحد الأفراد خوفاً من الاعتداء عليه، وأكد أن 75% من الركاب يتهربون من دفع ثمن التذكرة، ولا يستطيع بمفرده أن يجبرهم على الدفع». وأثناء حديثى مع الكمسرى، تصادف وجود عامل بالسكة الحديد يدعى «عبدالغنى اسماعيل» فى العربة التى نتواجد بها، فتدخل فى الحديث قائلاً : «الخط القبلى الإهمال فيه للركب بدايةً من مهندسى الصيانة والاتصالات المسئولين عن تبليغ الأعطال وصولاً للإمكانيات الفنية الغير متوفرة بالقطار، مشيراً إلى هيئة السكة الحديد ليست بحاجة إلى ميزانيات للدعم بل تحتاج إلى «مراعاة الضمير» فى العمل. وتابع «إسماعيل»: «كثيراً ما تحدث اعطال فى المحطات النائية والتى عادةً لا يتوفر بها أى إمكانيات، فمثلاً كثيراً ما يتعطل القطار فى محطة البدرشين وهى محطة غير مركزية ولا تتوافر بها الإمكانيات اللازمة من أجل اتمام عملية الإصلاح. أخيراً وصلت بعد مشقة ومعاناة استمرت لساعات طويلة، شعرت فيها بالخوف والقلق وشهدت الكثير من الأحداث المزعجة والتى ارعبتنى حقاً، وصلت أخيراً لمحطة بنى سويف بعدها نطقت الشهادة أننى وصلت سليمة بعد رؤيتى لكافة المظاهر العبثية التى تم سردها، وأقسمت أننى لن أعود مجدداً لخط الصعيد درجة ثالثة، حيث كانت «رحلة عذاب» حقاً عذاب ليس فقط بسب المظاهر غير الآدمية والإهمال المنتشر بشكل كبير، ولكن نظراً لعدم الشعور بالأمان والتوتر النفسى والقلق النابع عن فقدان الحماية. فى سطور 1264 مزلقانًا فى مصر ، تدهور معظمهم تسبب فى الكثير من حوادث القطارات. أبرز حوادث خط الصعيد: العياط: شهدت محطة العياط عدة حوادث منها حادث عام 2002 والذى أسفر عن مقتل 361، وحادث آخر فى أكتوبر عام 2009، ما أدى إلى مقتل 30 مواطنًا وإصابة العشرات. حادث منفلوط فى 17 نوفمبر بالقرب من قرية المندرة، راح ضحيته 50 تلميذًا. قطار سوهاج: انفصلت 19 عربة من قطار بضائع متجه من سوهاج إلى أسيوط فى 16 ابريل 2008، تسببت فى اصابة شخصين. قطار فرشوط: في أكتوبر 2009 اصطدم قطار «القاهرةأسوان» بسيارة أجرة قادمة من قنا علي مزلقان فرشوط، مما نتج عن إصابة 5 أشخاص. أسيوط: في نوفمبر 2012، تصادم قطار ركاب وحافلة مدرسية في أسيوط، مما أسفر عن مقتل 47 شخصاً بينهم 44 طفلاً. البدرشين: تسبب حادث قطار البدرشين الحربي عام 2013، في مصرع 19 شخصاً وإصابة ما لا يقل عن 117 آخرين. بني سويف: في يناير 2016، انقلب قطار بمزلقان الشناوية في مركز ناصر بمحافظة بني سويف، أسفر عن اصابة 71 شخصاً.