حال الصحة من عمر وزارتها.. وزارة الصحة عمرها ثمانون عاماً، والصحة تعيش شيخوخة الثمانين. تعاني ضعفاً في المفاصل، وعسراً في الخدمات، وهشاشة في التمويل، و«عشى ليلي» في السياسات، وصمما في الأذن فلم تعد تسمع أنين المرضي البائسين. والطريف أن ميلاد الوزارة لم يكن مقصوداً منه علاج المرضي، ولا حماية المصريين من الأوبئة، وإنما ولدت «وزارة الصحة» ولادة قيصرية، خلال صدفة غريبة لا علاقة لها بالصحة أساساً.. والمفاجأة أن وزارة الصحة منذ يومها الأول كانت قاتلة، حيث مات صاحب قرار إنشاء الوزارة بعد 3 شهور فقط من قراره، كما سقط أول وزير صحة صريعاً للمرض بعد 6 أيام فقط من تولي منصبه الوزاري.. وما زال للوزارة ضحايا بالملايين حتى الآن! لم يكن ميلاد وزارة الصحة طبيعياً ولا عادياً، والحكاية تعود إلي أواخر أيام الملك أحمد فؤاد، وتحديداً في يناير 1936، أصيب الملك بغيبوبة سكر، فاستدعوا طبيبه الخاص «محمد شاهين باشا»، الذي أجري له الإسعافات اللازمة وظل إلى جواره، وعندما أفاق الملك من غيبوبته، وجد أمامه الدكتور «شاهين باشا» ساهرًا علي العناية به، فلم يملك سوى أن يشكره قائلًا «أنا ممنون لك يا معالي الوزير». ولأن ما يقوله الملك هو أمر ملكي واجب التنفيذ فوراً، وقع «على ماهر باشا» رئيس الوزراء -وقتها- في «حيص بيص»؛ فقد كان مطلوباً أن تسند إحدي الوزارات، فوراً، لطبيب الملك، وخرج ماهر باشا من هذا المأزق بجمع عدد من الإدارات الحكومية المعنية بالصحة وتأليف وزارة الصحة العمومية.. وهكذا ولدت وزارة الصحة بجملة عابرة غير مقصودة من ملك على فراش الموت، وبالفعل مات الملك فاروق بعد 3 شهور فقط من هذه الواقعة! المهم أن وزارة الصحة، وقتها ضمت، مصلحة المستشفيات العامة، ومصلحة الصحة القروية، ومصلحة الحميات. وتولى شاهين باشا منصب وزير الصحة في 10 أبريل 1936، غير أنه لم يشغل المنصب فعليًا سوى ستة أيام فقط، إذ سقط صريعًا للمرض فقرر مجلس الوزراء في 16 أبريل أن يتولى علي ماهر باشا إدارة شئون وزارة الصحة العمومية إلى جانب رئاسة الوزارة ووزارتي الداخلية والخارجية، ولكن وزارة ماهر باشا لم تلبث أن استقالت بعد أقل من شهر! وخلفتها حكومة النحاس باشا، وتولي النحاس باشا بنفسه إدارة وزارة الصحة خلال الفترة من 10 مايو 1936 وحتى 2 أغسطس 1937، وخلفه في تولي الوزارة المحامي الشهير عبدالفتاح الطويل باشا، الذي تولي الوزارة لمدة 75 يوماً، بدأت من 3 أغسطس 1937 حتى 29 سبتمبر من نفس العام، ثم تولى من بعده أحمد كامل باشا، الذي كان وزيراً للصحة وفي نفس الوقت وزيرا للصناعة والتجارة واستمر يدير الوزارتين خلال الفترة من 27 أبريل 1938 حتى 23 يونية 1938. في البدء كان الوزير في البدء كان الوزير، هكذا تقول الحقيقة.. فإذا كانت أزمات الصحة جبالاً متراكمة، ومشاكلها بلا آخر، فإن السر دائماً يكمن في أصحاب القرار.. في الذين يخططون، ويرسمون استراتيجية الصحة، وهم وزراء الصحة أنفسهم. والبحث في تاريخ هؤلاء وفي خبراتهم العلمية، وأفكارهم، وأسس اختيارهم، وفيما قدموه، وما قالوه.. البحث في كل ذلك ليس من باب النبش في التاريخ، ولا من قبيل «حكاوي القهاوي»، ولكنه أول خطوات كشف طرف الخيط الذي يمكن أن يقودنا إلى حل للكارثة التي تضرب الصحة في مصر حالياً. وعلى مدار عمرها الممتد 80 عاماً، تولي وزارة الصحة 35 وزيراً منهم 34 وزيراً ووزيرة وحيدة وهي د.مها الرباط، التي تولت الوزارة عقب ثورة 30 يونية واستمرت حتى فبراير 2014. وجاء وزراء الصحة من تخصصات تعليمية مختلفة، ومن خلفيات سياسية متنوعة، فكان منهم الباشوات المحامون، واللواءات، والأطباء من كل التخصصات، وكان الوزراء المتخصصون في الصحة العامة الأكثر عدداً بين وزراء الصحة، وبلغ عددهم 8 وزراء، بينما كان 6 وزراء متخصصين في الجراحة، 3 تخصص عظام، منهم الوزير الحالي أحمد عماد، و3 وزراء تخصص أشعة، و2 تخصص طب الأطفال، و3 تخصص أمراض صدرية، وكان باقي الوزراء من التخصصات الطبية المختلفة، بما فيها النساء والتوليد، والعيون، والأمراض الجلدية، والأذن والحنجرة، والباطنة، والعلاج الإشعاعى. درجة ثالثة ومع الساعات الأولي من ميلاد الوزارة في الثلاثينات، كان واضحاً أنها وزارة درجة ثالثة، وربما رابعة، بدليل أن رئيس الحكومة كان يتولي بنفسه إدارة الوزارة إضافة إلى رئاسته الحكومة، باعتبارها وزارة لا تستحق أن يكون لها وزير خاص، وهذا بالضبط ما فعله علي ماهر باشا رئيس الحكومة في أول وزارة للصحة بعد مرض ووفاة أول وزير صحة. وتكشف حالة الوزير «نجيب حنا» أن 3 حكومات في عهد الملكية لم يكن لديها جديد تضيفه إلى ملف الصحة، ولهذا بقي الدكتور «نجيب حنا» في منصبه وزيراً للصحة في حكومات محمود فهمي النقراشي (من 9 ديسمبر 1946 حتي 28 ديسمبر 1948) وإبراهيم عبدالهادي (28 ديسمبر 1948- 25 يوليو 1949) وحسين سري (25 يوليو 1949 حتى 3 نوفمبر 1949). صاحب أكبر إنجاز ويعد الدكتور محمد النبوي المهندس أستاذ الطب الأطفال بقصر العيني صاحب الفترة الأطول على كرسي وزارة الصحة، حيث ظل وزيراً للصحة لمدة 7 سنوات امتدت من 18 أكتوبر 1961 حتى 27 أكتوبر 1968، وخلال هذه الفترة تم إنشاء مشروع تنظيم الأسرة، كما أنشأ ما يقرب من 1100 وحدة صحية ومعهد القلب، وهي بالفعل أكبر إنجازات شهدتها وزارة الصحة، ولكن ما يجب أن نتوقف عنده هو أن تلك الإنجازات جميعاً، كانت محصلة قرارات رئاسية أصدرها الرئيس جمال عبدالناصر وقتها، وكان في مقدمتها قانون التأمين الصحي عام 1964 وقرارات إعادة تنظيم القطاع الصحي.. ومعني ذلك أن هذه الإنجاز الكبير لم يكن الأصل فيه وزير الصحة وإنما رئيس الدولة ذاته. ولعل أفضل ما يجسد ضعف دور الوزير في إدارة ملف الصحة، هما حالة الوزيرين إسماعيل سلام (4 يناير 1996- 11 مارس 2002) وحاتم الجبلي (31 ديسمبر 2005- 31 يناير 2011)، وهما من ثاني أكثر الوزراء بقاء في منصب وزير الصحة.. ف «سلام» ظل وزيراً لمدة 6 سنوات كاملة، ومن أبرز تصريحاته بعد ترك منصبه قوله «استلمت الوزارة فى حالة مؤلمة جداً وكان المرضى يموتون على سلالم مستشفياتها، كما كانت الوحدات الصحية خربانة».. مؤكداً أنه كان وزيراً مستهدفاً, وقال «لم أكن على هوي رئيس الوزراء عاطف عبيد، وكنت هدفاً للهجوم المتواصل من كثيرين علي رأسهم إعلاميون ومن مهربي الأدوية».. وما قاله الوزير «سلام» هو اعتراف حكومي بأن كل وزراء الصحة السابقين عليه تركوا الصحة «خربانة».. والمثير أن ذات الوصف الذي قاله الوزير السابق لا يزال ينطبق علي حال الصحة الآن وهو ما يعني أن محصلة أداء كل الوزراء حتى الآن لا تكاد تذكر. أما الوزير «حاتم الجبلي» الذي استمر وزيرا للصحة لمدة 6 سنوات، فكان في كل حواراته الصحفية يتفاخر بقائمة طويلة من الإنجازات، وبعد أن سقط بقبضة ثورة يناير، هو وكل الحكومة، كشف ممدوح عباس المستشار السابق بوزارة الصحة عن معلومات مثيرة شهدتها الوزارة في زمن «الجبلي».. وقال «عباس» في تصريحات صحفية عقب ثورة يناير 2011 إن حاتم الجبلي تولي وزارة الصحة بمباركة الدكتور نظيف رئيس الوزراء السابق، حيث كان الجبلي يشرف علي علاج زوجة نظيف المرحومة مني السيد عبدالفتاح والتي كانت تعاني من سرطان الثدي وتعالج في مستشفي دار الفؤاد المملوكة للجبلي، كما أنه كان يرافقها في رحلات علاجها إلي فرنسا! حكايات مشابهة ترددت في الأوساط الطبية، حول أسباب اختيار العديد من وزراء الصحة.. والحكاية كلها يلخصها د. محمد السعدني الخبير السياسي ونائب رئيس جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا في قوله إن اختيار الوزراء في العالم كله يتوقف علي «الوعي» السياسي.. ولكن في مصر هناك وزراء بالمصادفة والتربيطات والشللية.. وهكذا كان حال وزراء الصحة في مصر. 9 مهمات طبقاً للقانون، فإن كل وزير صحة مسئول عن تنفيذ 9 مهمات رئيسية، في مقدمتها رسم السياسة الصحية طبقاً لسياسة الدولة، وتخطيط الخدمات الصحية وتنظيم الأسرة طبقاً لخطة التنمية، والعمل على تسجيل البيانات الصحية، وإجراء الدراسات الإحصائية والاقتصادية على أن يتم تحليل هذه البيانات واستخراج المعلومات اللازمة للتخطيط والمتابعة، وتوفير الخدمات الصحية المركزية بما فيها المعامل المركزية لشئون الدواء والتسجيل, بالإضافة إلى تدريب العاملين في وزارة الصحة, ومراقبة جودة الدواء، ومواجهة الأزمات الصحية، وإدارة خدمات ومراكز الصحة، والتنسيق بين الأنشطة الصحية على المستوى المحلى في جميع المحافظات وتطويرها. هكذا تقول الأوراق الرسمية.. ولكن لماذا لا نشعر بأن هناك تغييراً يطرأ في أي اتجاه طبي رغم توالي الوزراء علي وزارة الصحة؟.. أو بمعني آخر لماذا تتوارث المستشفيات والوحدات الصحية الحكومية أزماتها جيلاً بعد جيل.. وعهداً بعد عهد.. وحكومة بعد حكومة.. ووزيراً بعد وزير؟!.. ولماذا لم نجد تغيراً واحداً في وزارة الصحة عام 2011 تحديداً؟ وهو العام الذي توالي على وزارة الصحة 4 وزراء، وهم الوزراء أحمد سامح فريد (30 يناير 2011 - 21 فبراير 2011)وأشرف حاتم (21 فبراير 2011- 17 يوليو 2011) وعمرو حلمي 17 يوليو 2011- 22 نوفمبر 2011) وفؤاد النواوي الذي تولي منصب وزير الصحة في 25 فبراير 2011 حتي 26 يونية 2012. طرحت هذه التساؤلات على الدكتور حلمي الحديدي وزير الصحة الأسبق فقال: «السبب ببساطة أن وزير الصحة ليس هو من يضع سياسة وزارة الصحة، ووزير الصحة ليس مطلق اليد ليفعل ما يشاء أو ينفذ ما يريد من خطط، فهو محكوم دائماً بأمرين رئيسيين أولهما السياسة التي يضعها رئيس الحكومة، والأمر الثاني هو ميزانية الوزارة وهذه الميزانية يحددها رئيس الحكومة وزارة المالية، وهذان الأمران يحكمان عمل كل وزير صحة ولا يمكنه تجاوزهما، وبالتالي لا يجد الوزير سوي مساحة ضيقة جداً لينفذ رؤيته الخاصة». وأضاف: «الاختلاف الوحيد الذي يمكن أن نجده بين الوزراء ينحسر في ترتيب أولويات التنفيذ في ظل الأمرين الحاكمين اللذين قلت عنهما وهما السياسة التي يضعها رئيس الحكومة والميزانية». وواصل: «التغيرات التي شهدها قطاع الصحة منذ نشأتها، جاءت كنتيجة لتغير أنظمة الحكم التي تولت حكم مصر، وليس لتغير وزراء الصحة، ففي العهد الملكي كانت الحكومة مهتمة بالعلاج المجاني في المستشفيات العامة، وبعد ثورة 1952 اتجهت مصر إلي تعظيم نظام التأمين الصحي، وتراجع الاهتمام بالعلاج المجاني، ومع العهد الساداتي اختفي العلاج المجاني تقريباً، وتراجع الاهتمام بالتأمين الصحي، فتراجعت الخدمات التي يقدمها، وفي المقابل بدأت الدولة تشجع القطاع الخاص، واستمر هذا الحال طوال حكم مبارك، حتى أصيب التأمين الصحي بما يشبه الشلل، في مقابل تغول القطاع الطبي الخاص، وربما كان التغير الوحيد مؤخراً هو زيادة الميزانية المخصصة لوزارة الصحة حتى وصل في ميزانية 2016- 2017 إلى 80 مليار جنيه».