نشر الكاتب الأمريكي الشهير ناعوم تشومسكي علي موقع فوكاس في 26 أغسطس تحليلاً مطولاً للوضع العالمي يشرح فيه أسباب ونتائج تدهور القوة الأمريكية بأسلوب الجراح الماهر المحايد الذي يرصد الحقائق، كما هي لا كما يريدها أطراف الصراع الدولية، ويعتبر هذا التحليل في رأينا من أصدق وأدق وأعمق ما عرضه كاتب في هذا الموضوع الحيوي الذي يؤثر في العالم كله، وتقدمه كما ورد علي جزءين في هذا المقال والذي يليه الأسبوع المقبل إن شاء الله. يقول تشومسكي إنه في نسخة صيف سنة 2011 من مجلة الأكاديمية الأمريكية للعلوم السياسية نقرأ أنه أصبح من المسلم به أن أمريكا التي كانت منذ سنين قليلة تعامل كأنها العملاق العالمي الذي لا يصل أحد إلي قوته الخارقة وجاذبيته الشديدة قد أصبحت في تراجع مستمر يجعلها تواجه احتمال الانهيار النهائي. ولهذا في الواقع بعض الأسباب، ولكن مراجعة السياسة الخارجية الأمريكية ونفوذها الخارجي، وقوة اقتصادها ومؤسساتها السياسية داخل أمريكا توضح أن بعض الضوابط ضرورية في هذا المجال، أولاً فالتدهور الأمريكي قد بدأ في الواقع منذ وصول قوة أمريكا إلي أعلي مداها بعد الحرب العالمية الثانية، أما الدعاية الصارخة عن قوة أمريكا التي ترددت في تسعينيات القرن الماضي (بعد انهيار الاتحاد السوفيتي)، فكانت نوعاً من خداع النفس، وبالإضافة لذلك فإن ما يتردد عن تحول مركز القوة الدولي نحو الصين والهند هو أمر مشكوك فيه جداً، فهي دول فقيرة ذات مشاكل داخلية قاسية لا شك طبعاً أن العالم أصبح مختلفاً، ولكن رغم تدهور قوة أمريكا فإنها ستظل في المستقبل المنظور دون منافس لها في السيادة العالمية. ولنراجع معاً التاريخ المتعلق بذلك، خلال الحرب العالمية الثانية أدرك مخططو السياسة الأمريكية أن أمريكا ستخرج من الحرب كقوة ضخمة لا تقهر، وتوضح الوثائق أن الرئيس روزفلت كان يهدف لسيطرة أمريكا علي العالم بعد الحرب كما ذكر المؤرخ الدبلوماسي جفري وارنر، وقد وضعت الخطط المطورة للسيطرة علي ما سمي «المنطقة الكبري» وهي التي تشمل العالم العبري والشرق الأقصي والإمبراطورية البريطانية السابقة وضمنها منابع النفط الحيوية في الشرق الأوسط وأوسع مساحة ممكنة من أوراسيا، وعلي الأقل المناطق الصناعية الرئيسية في غرب وجنوب أوروبا، فهي حيوية لضمان السيطرة علي منابع نفط الشرق الأوسط، وفي هذا النطاق الواسع تمارس أمريكا القوة الشاملة عسكرياً واقتصادياً، مع تحجيم أي دولة تتصدي للمخطط الأمريكي العالمي، ومازال هذا المخطط سارياً ولكن نطاقه تراجع كثيراً. ولم تكن الخطط الحربية غير واقعية، فقد كانت أمريكا لمدة طويلة أغني دولة في العالم، وقد أنهت الحرب الأزمة الاقتصادية، وتضاعف الإنتاج الصناعي الأمريكي أربع مرات، بينما سحق المنافسون، فعند نهاية الحرب كانت أمريكا تملك نصف ثروة العالم وأمثالاً تجارية غيرها، حددت لكل منطقة في «المنطقة الكبري» وظيفتهما في النظام الدولي، وكانت الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية هي محاولة قوتين عظميين فرض سطوتهما كل في نطاقه، الاتحاد السوفيتي في شرق أوروبا، وأمريكا في معظم العالم، وفي عام 1949 ضاع جزء ضخم من المنطقة الكبري عندما ضاعت الصين في يد الشيوعية، وبعدها بقليل بدأ جنوب شرق آسيا يخرج من سيطرة أمريكا التي شنت حرب فيتنام الطاحنة ودبرت المذبحة الكبري في إندونيسيا 1965 لإعادة النفوذ الأمريكي بها، بينما استمر التخريب والعنف في مناطق عدة تحت مسمي «الاستقرار» أي الاستسلام لأمريكا. ولكن التدهور كان مستحيلاً تجنبه نتيجة حركة استقلال الشعوب عن الاستعمار، وبحلول 1970 تراجعت حصة أمريكا من ثروة العالم إلي حوالي 25٪، وأصبح العالم الصناعي ثلاثة أقطاب هي أمريكا وأوروبا وآسيا، وبعد عشرين عاماً انهار الاتحاد السوفيتي، ويعلمنا رد الفعل الأمريكي حقيقة الحرب الباردة، فقد أعلنت إدارة بوش الأب في أمريكا أن السياسات ستظل كما هي سيتم الاحتفاظ بالآلة العسكرية الضخمة، ليس للدفاع ضد روسيا ولكن لمواجهة التقدم التكنولوجي لقوي العالم الثالث، والاحتفاظ بقاعدة الصناعات الحربية، وظلت قوة التدخل العسكري موجهة للشرق الأوسط ومشاكله واعترفت أمريكا في صمت بأن مشاكل الشرق الأوسط راجعة «للوطنية المتطرفة» وليس لنفوذ السوفيت، فمحاولات دولة الاستقلال كانت خروجاً علي مبادئ «المنطقة الكبري»، وأعلنت إدارة كلينتون أن أمريكا لها الحق في استعمال القوة العسكرية منفردة لضمان الوصول دون عوائق إلي الأسواق الرئيسية للنفط والمواد الاستراتيجية، كما أعلنت أنه يجب وضع قوات أمريكية في أوروبا وآسيا «لتشكيل رأي عام صديق لأمريكا والتحكم في الأحداث التي تؤثر علي أمنها»، وبدلاً من إلغاء أو خفض حجم حلف الناتو تم توسيع نطاق عمله إلي الشرق بالمخالفة لتعهدات أمريكا الشفهية لجورباشيف عندما وافق علي ضم ألمانيا الموحدة لحلف الناتو، وقد أصبح الحلف اليوم قوة تدخل عالمية بقيادة أمريكا ومهمته الرسمية السيطرة علي نظام الطاقة العالمي وخطوط الملاحة البحرية، وخطوط الأنابيب وأي شيء تراه القوة المسيطرة كانت هناك في الواقع فترة تفاؤل عند سقوط الاتحاد السوفيتي، وترددت الأقاصيص عن «نهاية التاريخ»، والإشادة بسياسة كلينتون الخارجية وما سمي بالمبادئ والقيم الإنسانية في عالم مثالي جديد، والتدخل باسم الإنسانية في الدول الأخري ولكن الضحايا التقليديين من حول الجنوب أدانوا هذا التدخل واعتبروه سيطرة استعمارية مثل الماضي، وقد ارتفعت أصوات عاقلة في أمريكا وسط النخبة السياسية محذرة من أن أمريكا ستصبح «دولة العالم العظمي المارقة»، وعندما تولي بوش الابن الرئاسة لم يعد ممكناً تجاهل تصاعد العداء لأمريكا في العالم، وزاد العداء بعد أوباما لدرجة أن 5٪ فقط من المصريين أيدوا سياساته، ولم تزد النسبة كثيراً في باقي دول المنطقة. في هذه الأثناء استمر التدهور، وضاع النفوذ الأمريكي في أمريكا اللاتينية خلال الحقبة الماضية، وكان تراجع هذا النفوذ قد بدأ عندما تآمرت إدارة نيكسون علي الديمقراطية في شيلي وأسقطت حكومتها المنتخبة لحساب الدكتاتوري بينوشين، وقد حذر مجلس الأمن القومي الأمريكي حكومته من أنها إن لم تستطع السيطرة علي أمريكا اللاتينية فلن تستطيع تحقيق نظام أمني ناجح في العالم، ولكن الأكثر خطورة هو حركات الاستقلال في الشرق الأوسط، فبعد الحرب العالمية الثانية كان التخطيط هو أن موارد الطاقة الهائلة به ستمكن أمريكا من السيطرة علي العالم، كما قال بيرل مستشار الرئيس روزفلت، أي أن فقدان السيطرة علي هذه الموارد يهدد مشروع السيطرة الأمريكية علي العالم كما وضعه المخططون خلال الحرب العالمية الثانية وكما أثبتت التغيرات بعدها. والخطر الآخر علي الهيمنة الأمريكية كان حركات التحرك الحقيقي نحو الديمقراطية بالمنطقة فرغم زعم رئيس تحرير نيويورك تايمز بيل كيلر أن أمريكا تهفو إلي احتضان الديمقراطية الصاعدة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، إلا أن استطلاعات الرأي في العالم العربي تؤكد أن الديمقراطية الحقيقية التي يؤثر الرأي العام فيها علي السياسات ستكون كارثة علي أمريكا، ولذلك فليس غريباً أن الخطوات الأولي القليلة في سياسة مصر الخارجية بعد سقوط مبارك كانت مثار معارضة شديدة من أمريكا وإسرائيل، وبينما تظل سياسات أمريكا ثابتة مع تعديلات تكتيكية فقد حدثت بها تغييرات مهمة عند تولي أوباما الرئاسة، ويلاحظ المحلل العسكري يوش دريزن أن سياسة بوش كانت أسر وتعذيب المهتمين بالإرهاب بينما كان أوباما يكتفي بقتلهم!! مع زيادة سريعة في أسلحة مقاومة الإرهاب مثل استعمال طائرات بدون طيارين واستخدام فرق خاصة للقتل، وقد تشكلت الفرق الخاصة للعمل في 120 دولة، وقد أصبح حجم هذه الفرق الآن مثل حجم الجيش الكندي كله، فهي في الواقع جيش خاص للرئيس، وقد عرض المحقق الصحفي نك توراس علي موقع تومد يسباتش تفاصيل هذا الجيش، فالفرقة التي أرسلها أوباما لاغتيال أسامة بن لادن سبق لها القيام ربما بدستة من الاغتيالات في باكستان، وكما توضح هذا الأحداث وغيرها فإنه رغم أن سياسة أمريكا للسيطرة علي العالم قد تراجعت فإن طموحات أمريكا لم تتراجع. وهناك شعور عام، علي الأقل بين هؤلاء الذين لا يتعمدون العمي أن تدهور النفوذ الأمريكي سببه إلي حد كبير تصرفات أمريكا، فالأوبرا الكوميدية التي يجري عرضها في واشنطن هذا الصيف تقزز الأمريكيين الذين تظن أغلبيتهم أنه يجب حل الكونجرس، وتحير العالم ففيها بعض التحليل للديمقراطية البرلمانية، ويكاد العرض يخيف المنظمين فقوة المؤسسات التجارية التي مولت وصول النواب المتطرفين للكونجرس قد تنهار علي رءوس الجميع وتهدم المعبد الذي يضم ثروات هذه المؤسسات ومصالحها علي رءوس الجميع. وقد وصف الفيلسوف الأمريكي الشهير جون ديوي ذات مرة السياسة بأنها الظل الذي تغطي به الرأسمالية الكبيرة المجتمع، وحذر من أن تعديل شكل هذا الظل لن يغير مضمونه، ومنذ سبعينيات القرن الماضي أصبح هذا الظل سحابة مظلمة تحيط بالمجتمع ونظامه السياسي، فقوة المؤسسات الاقتصادية التي تحولت إلي حد كبير إلي رأسمال نقدي قد وصلت إلي درجة أن المنظمات السياسية للحزبين اللذين يتداولان السلطة لم يعودا يشبهان الأحزاب التقليدية، فهما يقفان علي أقصي اليمين من الشعب في كل الموضوعات المهمة التي تجري مناقشاتها. ونقف عند هذه الفقرة لنستكمل هذا العرض الصادم في المقال التالي. --------------------- نائب رئيس حزب الوفد