يتمتع نعوم تشومسكى بمكانة رفيعة المستوى بين المثقفين والناشطين السياسيين، ليس فى الولاياتالمتحدة وحدها، بل فى العالم كله تقريباً؛ فحيثما وجد ديمقراطيون حقيقيون ينظرون إلى الديمقراطية بوصفها رؤية للعالم، لا وسيلة للوصول إلى السلطة وممارسة دكتاتورية خفية، يرتفع اسم تشومسكى عاليا. لقد آلى عالم اللغويات والباحث والناشط السياسى الأمريكى البارز على نفسه، منذ ما يزيد على أربعة عقود من الزمن، أن يبشر بديمقراطية حقيقية، لا ديمقراطية معاقة كما يشير عنوان أحد كتبه الشهيرة الذى تحدث عن الدور الخطير الذى تقوم به بلاده فى "إعاقة الديمقراطية" والدعم الواضح للدكتاتوريات فى العالم، وعلى رأسها دكتاتوريات المنطقة العربية التى أقامت تحالفاً عضوياً مع الولاياتالمتحدة، وضمنت لنفسها البقاء وقمع شعوبها والاستيلاء على ثروات هذه الشعوب ومقدراتها. وقد ظل تشومسكى، على عكس كثير من الباحثين الأمريكيين الذين اشتغلوا على المنطقة العربية، مؤمنا بأن المعيق الفعلى لتحقق ديمقراطيات حقيقية، شعبية ذات جذور محلية، هو سياسة الولاياتالمتحدة فى المنطقة، ووثق على مدار العقود الماضية، ممارسات الولاياتالمتحدة ودعمها المستمر للأنظمة المستبدة ووقوفها الكامل وراء إسرائيل فى ما تمارسه من احتلال وقمع ضد الشعب الفلسطينى، كما أنه ظل يلح فى كتبه ودراساته، وحواراته الصحفية ومقابلاته التلفزيونية، على أن هناك حركات ديمقراطية حقيقية نشأت فى المنطقة لكنها قمعت بشدة وأطيح بها، فى إيران والمنطقة العربية، بدعم وتخطيط من الولاياتالمتحدة. من وجهة نظر تشومسكى فإن أمريكا، رافعة لواء الحرية والديموقراطية فى العالم، هى القامع والمتآمر الفعلى ضد نشوء الديموقراطيات فى بلدان العالم الثالث؛ ما يهم الولاياتالمتحدة هو تأمين مصالحها الحيوية وليس نشر الديمقراطية، كما تدعى. انطلاقاً من التصور الأخير يحاكم تشومسكى، فى عدد من المقالات التى نشرها أخيرًا، وكذلك فى الحوارات التى أجريت معه، ادعاءات باراك أوباما، والإدارة الأمريكية الحالية، حول دعم الثورات والانتفاضات والاحتجاجات العربية خلال الشهور الماضية، ويرى أن ذلك يتناقض مع ممارسات الولاياتالمتحدة على الأرض، صحيح أن الإمبراطورية الأمريكية سعت إلى التبشير ب"شرق أوسط جديد" لكن ذلك عنى إعادة تشكيل المنطقة حسب ما تقتضيه المصالح الحيوية للولايات المتحدة. ومادامت الحروب على الأرض لا تجدى نفعا، ف"نشر" النسخة الأمريكية من الديموقراطية قد يقود إلى تحقيق هذه المصالح. من هنا يرى تشومسكى، أن أمريكا خائفة من ربيع الثورات العربية، وأن إدارة أوباما حائرة فى ردود فعلها تجاه ما يحدث، فمن الصعب على هذه الإدارة، التى يقول إنها لا تختلف كثيرا فى هذا الشأن عن إدارة بوش السابقة، أن تتخلى عن بعض حلفائها التقليديين لصالح أنظمة حكم مقبلة غير واضحة الملامح والتوجهات. صحيح أنها تعلن تأييدها للثورات الاحتجاجية والمطالبة يالديمقراطية فى العالم العربي، لكنها غير جادة فى دعمها. وهى، كما يقول، "مصابة بالذعر إزاء الربيع العربى، ولهذا الذعر سبب معقول جدا، فهى لا تريد أن تنشأ ديمقراطيات فى الشرق الأوسط. ذلك لأنه إذا ما كان للرأى العام العربى تأثير على سياسات دولة، لكان قد تم طرد الولاياتالمتحدة من المنطقة قبل مدة" (فى حوار مع موقع قنطرة الألمانى للحوار مع العالم العربى والإسلامى). ينبهنا تحليل تشومسكى الذى يرتكز إلى ذاكرة أرشيفية ضخمة بخصوص السياسات الأمريكية فى العالم عامة، والمنطقة العربية خاصة، إلى ضرورة النظر بعين حذرة إلى التدخلات الأمريكية ومحاولتها التأثير على ربيع الثورات العربية. ليس أوباما، من وجهة نظر الباحث الأمريكى العظيم، جادا فى دعم استمرار هذا الربيع، لكنه يسعى إلى احتوائه وتقليل الخسارات التى قد تنجم عنه. ولذلك فليتنبه المنتفضون فى الشوارع، والمحللون الاستراتيجيون، والمثقفون العرب، الذين يطالبهم تشومسكى بدور أكبر فى التأثير على هذه التحولات الشعبية الديموقراطية، إلى الخوف الذى يدب فى أوصال الإدارة الأمريكية من نشوء ديموقراطيات فعلية فى العالم العربي.