بين القَبول والرفض للقرض المُزمع أخذه من صندوق النقد الدولي، وُضِع المجتمع بكافة توجُّهاته في مختبر دقيق شديد التعقيد، وإذا كان الوصول إلى قرار صائب تُجاه هذا القرض أمرٌ مهم، فإن الأكثر منه أهمية هو أن نرى بعدل وشفافية صورة المجتمع المصري وهو يتعامل مع ملف كبير وخطير كهذا، يعتبر أول تجربة حقيقية وعملية للمعارضة الفعَّالة. بداية، هناك إيجابية كبيرة لا يصح أن نَغفل عنها أو نُغفلها، وهي هذه الحالة من الاختلاف والجدل والحوار حول ملف لم يكن يُسمع فيه رأي ولا قول فيما مضى، حتى غرِقت البلاد في بحر لجيٍّ من الديون التي جاوزت الترليون ورُبعًا من الجنيهات، وهذا إنما يدل بوضوح شديد على النقلة الكبيرة التي أحدَثتها الثورة المباركة، والتي لم تتجاهلها حكومة الثورة التي نُحسن الظنَّ بها، ونتوقَّع منها سَعة الصدر والموضوعية تجاه المعارضة. لقد تشعبَّت الآراء، وتعدَّدت الأقوال وتبايَنت؛ ما بين معارض للقرض، وموافق عليه، وتنوَّعت أسباب القبول والرفض، فالذين عارضوا القرض منهم مَن برَّر ذلك بحُرمة الربا قليله وكثيرِه، ومنهم من رآه خطرًا على مستقبل البلاد، واستمرارًا للسياسات العقيمة للدولة السابقة، وتماديًا في الخضوع لوصاية المؤسسات الدولية، والذين وافَقوا اعتبَروا ذلك ضرورة اقتصادية مُلِحَّة تمرُّ بها البلاد، ولم يُسلموا للمعارضين بحكم التحريم؛ إما لكون الضرورات تُبيح المحظورات، وإما لتدني الفائدة إلى حدٍّ يؤكِّد -من وجهة نظرهم- أنها ليست فائدة رِبحية؛ وإنما هي مجرد مصروفات إدارية. ولقد كنت في بداية الأمر في صفِّ المعارضين للقرض، غير أنني لم أشَأ أن أتعجَّل الكتابة في هذا الأمر على المستوى العام؛ لعلمي أن مثل هذه الأمور تحتاج إلى تُؤَدة وطول نظرٍ، وانتظار لرأي الكبار، ولقد كنت أُتابع ما يعرضه المعارضون من البدائل وأتحمَّس لها، ثم بدا لي أن كلام الاقتصاديين الموافقين على القرض له وَجاهة، وأن تبرير الحكومة له حظٌّ من القبول، فازداد إيماني بأن الأمر شديد التعقيد، بالغ الحساسية، وأننا نتعرَّض لاختبار حقيقي يُقاس فيه مدى النُّضج والوعي والإخلاص، والتعاون للوصول إلى الحقيقة، وأننا سنواجه في مستقبلنا الواعد كثيرًا من هذه المسائل التي تستدعي التشاور، وتستوي وتَنضج على نار المعارضة الهادئة الرشيدة، ويَضيع فيها الصواب ويتبدَّد بفعل نار المعارضة الغشوم الهَوْجاء. وبقطع النظر عن الرأي الصواب في هذه المسألة الشائكة، هناك جملة من النتائج لهذه الجولة من التعاطي مع قضية أظنُّها من القضايا الكبار، هذه النتائج ستكون مفيدة لنا إذا أجدنا التعامل معها، وأحسنَّا الاستفادة منها؛ فإن التجربة شاهدة أن الإنسان قد يتعلَّم من أخطائه بما يُحصِّنه من الوقوع في أمثالها مستقبلاً. كثير من القوى السياسية التي اتَّخذت المعارضة موقعًا لها -لا لشيء إلا لتجد لنفسها موقعًا تحت الشمس- اندفَعت بقوة الدوافع العدوانية الطائشة؛ لتنتقد الرئيس ومعه حزب الحرية والعدالة وسائر الإسلاميين؛ بزعم أنهم كانوا بالأمس معارضين للقروض التي طلَبت حكومة الجنزوري الموافقة عليها، بهدف إظهارهم متناقضين في مواقفهم، ولا يَملِكون رؤية واضحة، ولعمري، إنهم ليعلمون أنهم عندما عارضوا القرض، كانت لهم أسباب غير موجودة الآن، ولكنهم يُكابرون ويَعمدون إلى تلويث سُمعة الآخرين، والنَّيل منهم للحد من شعبيَّتهم، ومثل هذه المواقف لا تُعتبر معارضة حقيقية؛ وإنما هي في حقيقتها عملية ركوب لظهر المعارضة؛ للوصول إلى أغراض يعلمون أنها وضيعة. المعارضة هي أن تقفَ من المسؤول موقف الناقد البصير العادل، فتُعينه إن أحسن، وتقوِّمه إن اعوجَّ؛ كما قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "إن أحسَنتُ، فأعينوني، وإن أسأت، فقوِّموني"، وما لم نخرج من المعارضة المُزيفة إلى المعارضة الصادقة المخلصة، فلن نكون على مستوى المسؤولية، ولن نكون مخلصين لله، صادقين في توخي الصواب وإحقاق الحق. أما الإسلاميون، فقد تبايَنت ردود أفعالهم تبعًا لاختلاف الفتاوى، وإني لأحترم جميع الآراء التي صدَرت وتطايَرت شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا؛ لأن المسألة -بسبب ملابسات معينة- تُعَد من موارد الاجتهاد؛ إذ يجوز كما قال البعض أن تكون هذه النسبة بالفعل من قبيل المصروفات الإدارية، وإن كنت لا أميل إلى هذا التخريج؛ لأسبابٍ أقربُها أن المُقرض ذاته لم يزعُم أنها مصروفات إدارية، ولم يقدِّم لنا ما يشير إلى ذلك، ويجوز كذلك أن تكون الضرورة قد رفَعت المنع وأباحَت المحظور، لكن من الذي يستطيع أن يؤكِّد أن البلد يمرُّ بالفعل بحالةِ ضرورة، وما هي مسوغات القول بالضرورة هنا؟ ومن الذي يَملِك أدوات هذا الحكم؟ ويجوز أن يكون قول المانعين هو الصواب، لكن هل يستطيع المانعون أن يُجيبوا عن السؤال المُلح، والذي لا يكفي للإجابة عليه تلك المقترحاتُ ذات الأثر المتراخي، الذي لا ينهض لإسعاف البلد الجريح الكسير الذي يئنُّ؟ ألا وهو: وماذا نفعل؟ وما هو البديل؟ إن الشريعة لا تقف واجمة أمام ما يَعرض للناس من نوازلَ، ولا تكتفي بأن تقول: هذا حرام ممنوع، حتى تقدِّم البديل وتخط المَخرج، فما هو البديل؟ وأين المخرج؟ كل هذه الأقوال -كما أسلفت- لها وَجاهتها، وتستحق هي وأصحابها الاحترام والتقدير، لكن الذي يستحق الشَّجب والاستنكار هو الغفلة عن أمور لا يَصِح أن نَغفل عنها، ولا أن نُغفلها في هذه المرحلة من حياة الأُمة على وجه الخصوص، وهي المحك الذي يُبيِّن درجة الوعي وأهليَّة التحمُّل للمسؤولية في المرحلة المُقبلة. أولها: هل نحن على وعي وإلمام بإستراتيجية التدرُّج في تطبيق الشريعة، وهل نحن متوافقون على هذه الرؤية؟ الذي يبدو من المشهد في ضوء التعامل مع هذه القضية، أننا لا نَملِك إستراتيجية واضحة نتَّفق عليها ونَجمع الناسَ حولها؛ مما نتج عنه أننا تعامَلنا مع قضية القرض هذه وكأننا نواجه انحرافًا جديدًا، أتى على دولة كانت في سابق عهدها تطبِّق الشريعة، واليوم هي تضع قدَمها على أول طريق الانحراف، حرَّمنا وحلَّلنا، وجَرَّمنا وأبَحنا، وعسَّرنا ويسَّرنا، وكأن هذه هي المعاملة الوحيدة التي تستدعي حكمًا فقهيًّا، هل نحن نملِك رؤية متكاملة وخطة متدرِّجة لإنهاء النظام الربوي، ناتجة عن الإستراتيجية الواضحة لتطبيق الشريعة بطريق التدرُّج؟ أم أننا لا نملِك إلا اجتهاداتٍ فرديةً لا تَرقى إلى مستوى العمل الجماعي المؤسسي الذي لا غنى عنه في مرحلتنا هذه؟ ثانيها: ألم يَحِن لعلماء أُمتنا أن يعتمدوا الأسلوب المؤسسي في الفتوى والإفتاء، وإصدار الأحكام، لا سيَّما وأن الإفتاء هنا يُعَد تشريعًا للدولة؟ لماذا نُصِر على تشتيت الناس، وبَلبلة أفكارهم، وفقْد ثقتهم؟ لماذا نُصِر على إعطاء الرخصة لأعداء الدعوة من العلمانيين والليبراليين؛ ليقولوا ويروِّجوا أن لديهم مانعًا طبيعيًّا وعائقًا واقعيًّا من تطبيق الشريعة، وهو أنهم لا يعرفون بالتحديد على أي مذهب من المذاهب القديمة والمعاصرة سنطبِّق الشريعة؟ لماذا ونحن لدينا مؤسسات نحن أعضاء فيها؟ إلى متى نُصِر على عدم احترامها وعدم تفعيلها؟ إنها أمانات نضيِّعها في سبيل مطالبتنا بتحمُّل الأمانة الكبرى: أمانة الشريعة. هذا ما أردت أن أنوِّه عليه، وإنما ضربت الذِّكر صفحًا عن الحكم الشرعي في المسألة المعروضة -برغم أنه بالنسبة لي يُعد تخصُّصًا دقيقًا- لِما ظهَر لي أن الأهم من إصدار الأحكام، هو امتلاك أدوات الإصابة والرشد في التعامل مع النوازل وإصدار الأحكام عليها، والله المستعان.