من طبيعة تكوين الإنسان أنه خُلق من قلب وأعضاء، حيث جعل الله القلب هو السيد والمتحكم فى أعضاء الإنسان. فالشجاعة مثلا تكون فى القلب، ثم تظهر على أعضاء الإنسان حتى لو كان ضعيف البنية قليل الأشياء، والجبان يخاف بقلبه، ويظهر ذلك على جوارحه، وقل مثل هذا فى الكريم، حتى لو كان فقيرا، والبخيل ولو كان غنيا. فالقلب هو المحور وهو المتحكم فى حركة الإنسان وجميع أوامر الله تبارك وتعالى إنما تدور حول طواعية القلب واستسلامه لمولاه. فالصلاة مثلا، وهى الركن الأعظم فى الدين، يقصد بها تسليم العبد نفسه لله فى كل حركاته وسكناته وفى سائر حياته، وإنما يتدرب على ذلك فى الصلوات الخمس حتى أن المقصود من سجود الرأس فى الصلاة هو سجود القلب لله والتسليم والتفويض والتوكل عليه، فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. كذلك الصيام، فإن المقصود الأول منه أن تكون الشهوات والعادات تحت الترتيب الربانى فيصوم البطن والفرج عن المشتهيات، فإذا أحسن العبد فى ذلك فإنه ينتبه على حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم): «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى ان يدع طعامه وشرابه»؛ ومن هنا يهتم الصائم بجوارحه وحواسه ويحذر من النظرة أين تقع، ويحرص على أذنه ماذا تسمع خوفا على صيامه ذلك لأن السمع والبصر والكلام والفكر هى منافذ القلب، فإذا امتلأت بالفساد ملئ قلب العبد فسادا وطلبت نفسه الفساد وعاث فى الأرض فسادا. وأما إذا امتلأت جوارحه إيمانا وتسليما فتصلح أعمال العبد ومن ثم تصلح أحواله الإيمانية ويقبل على الطاعة بكل صنوفها، ونلحظ على الصائمين أمارات صلاح القلوب فى أواخر رمضان فترى المساجد مليئة بالصائمين القائمين المتهجدين القارئين لكتاب الله والمتصدقين بأموالهم والمجتهدين بأجسادهم، وترى الرغبات والأشواق اشرأبت إلى الحج والعمرة وصفت النفوس ووُصلت الأرحام وذلك بسبب صلاح القلوب، وهذا هو مقصود الصيام على الحقيقة. فإن النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: «ألا ان فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهو القلب». فالمقصود من الصيام هو صلاح قلب العبد فى أن يسلم نفسه ويطيع ربه، ويترك الأهواء والإنشغال بغيره سبحانه وتعالى، واسمع قول الله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». أى حصول التقوى وقد أشار النبى (صلى الله عليه وسلم) بيده على صدره قائلا: «التقوى ها هنا» (ثلاثا). فالصيام لحصول التقوى التى محلها القلب فكأن المقصود هو صيام القلب، نعم صيام القلب عن الانشغال بالمخلوقين وإفراد الله سبحانه وتعالى بالعبودية والتسليم، وانتهاج النهج النبوى بالحب والإقبال. فالمقصود عامة من رمضان أن يكون شهرا يتغير فيه فكر العباد من المخلوقين إلى الخالق ومن الدنيا إلى الآخرة ومن الإقبال على الأشياء والشهوات إلى الإقبال على الأعمال الصالحة والطاعات. أسال الله أن يرزقنا وإياكم تقوى القلوب وصيامها.