إن النفس الإنسانية بطبيعتها تحب الراحة والدعة.. ولما أراد الله عز وجل أن يستخرج العبودية الحقة من قلوب عباده المؤمنين وألا يجعل للعوائد تحكمًا في قلوب أوليائه.. وأن تتحقق لهم الحرية الكاملة من آصار وأغلال الشهوات وحظوظ الأنفس.. شرع لهم عبادة تحقق المقصود.. وتجعل القلب يثور على المألوف طيلة العام. فلا خضوع لشهوة البطن.. ولا خضوع لشهوة الفرج.. ولا انسياق وراء الهوى والعصبية.. بل تغير كامل عن المألوف.. وثورة حقيقية إيجابية على كل ما يشد الإنسان للطين ويبعده عن ظلال السماء. ولذلك للضمير البشري عمومًا، والمسلم خصوصا من ثورة على المألوف الذي يخالف الذوق السليم، والدين القويم، حتى لو فعله كل الناس، لابد أن يتصف الإنسان ولا سيما المسلم بضمير يقظ ثائر يبحث عن الخير والنفع أينما كان ويبذل وسعه في تحقيقه، ولذا يأتي رمضان كل عام يجدد الثورة الحقيقية في نفوس الأسوياء، وليس مجرد الطعن والخروج عن المألوف لهدم القيم والأمن والاستقرار، ولكن ثورة رمضان ثورة تبني ولا تهدم، تصلح ولا تفسد، تجعل الإنسان إنسانًا بحق، ليس عبدًا لشهوة، ولا أسيرًا لتصور قاصر ليحقق ذاته، وإن كان على حساب الدين والفضيلة، وهذا فرق جوهري بين ثورة الصائمين، وثورة العابثين المستهترين. ويوضح هذا المعنى الرائع الإمام ابن القيم حيث يقول: "لما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات.. وفطامها عن المألوفات.. وتعديل قوتها الشهوانية لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها.. وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية.. ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها.. ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين. وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب.. وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها.. ويسكن كل عضو منها وكل قوة عن جماحه وتلجم بلجامه.. فهو لجام المتقين.. وجنة المحاربين.. ورياضة الأبرار والمقربين.. وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال. فإن الصائم لا يفعل شيئًا.. وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده.. فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثارًا لمحبة الله ومرضاته.. وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه.. والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة. وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده.. فهو أمر لا يطلع عليه بشر.. وذلك حقيقة الصوم". ويقول رحمه الله: "وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة.. وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها.. واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها.. فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها.. ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات.. فهو من أكبر العون على التقوى.. كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصوم جنة". وأمر من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه بالصيام.. وجعله وجاء هذه الشهوة. والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة.. شرعه الله لعباده رحمة بهم.. وإحسانًا إليهم وحمية لهم وجنة. وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهدي.. وأعظم تحصيل للمقصود.. وأسهله على النفوس. ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها.. تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة.. لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة.. وألفت أوامر القرآن.. فنقلت إليه بالتدريج. فهذه مدرسة الحرية وتحقق العبودية.. فهلا شرعنا أسلحتنا لخوض غمارها.. والخروج منه منتصرين ومن باب الريان بإذن الله داخلين. هذا هو المنى.. وليس على الله بعزيز