التوظيف السياسي للمحكمة الدستورية وقضاتها اللذين أضحوا نشطاء سياسيين في الفضائيات والبرامج الحوارية واستخدامها كورقة سياسية من قبل المجلس العسكري لعدم تسليم السلطة للمدنيين المنتخبين وإعادة استحواذه على السلطة التشريعية للبلاد، بعد أن تعهد كثيراً بتسليمها كاملة في 30 يونية الماضي، أعادني والكثيرين من المهمومين باستقلال القضاء ودولة المؤسسات إلى عصر مبارك الذي كان يسيس القضاء بأسلوب خبيث ليستبد بنا بالدستور والقانون. كنت قد قمت ببحث تاريخ المحكمة الدستورية وأسلوب تشكيلها وسلوكها القضائي في النزاعات التي أحيلت اليها، فأكتشفت أن المسألة تعود إلى أيام عبد الناصر مروراً بالسادات ونهاية بمبارك اللذي جعلها ملكاً خاصاً لرئيس الجمهورية، وكأنها (المحكمة الدستورية العليا) كانت أحد أهم الركائز والعراقيل التي كان يؤسس لها حكام استبدوا بحكمهم لتعطي لهم فرصة للتدخل وتسييس القضاء على أعلى مستوى له، ناهيك عن فكرة عدم الاستقلال المالي والانتدابات والتعبينات وخلافه. كنت أيضاً قد أعددت مشروع قانون لتعديل قانون المحكمة الدستورية العليا بالبرلمان، بعد أن أقررنا مشروع قانون انتخابات الرئاسة، حتى نضمن استقلاليتها وعدم تبعيتها لرئيس الدولة كي لا يؤسس للاستبداد باسم القضاء، وأن تكون ضمن منظومة القضاء الطبيعي في مصر، لكنني نصحت من كثيرين و زملاء بالبرلمان أثق في آرائهم ووطنيتهم ألا أفتح هذه المعركة في حينه (شهر أبريل الماضي 2012)، وأن يكون هذا التعديل المقترح الذي أعددته لقانون تشكيل وعمل المحكمة الدستورية ضمن قانون موحد لإصلاح السلطة القضائية والذي تعطل معدوه بعدها ولم يصدر، وبالتالي لم يصدر تعديلي المقترح. وأنا هنا أعتذر لكم إن كنت قد أخطأت باستجابتي لهذه النصيحة التي نتج عنها عدم إصلاح هذه المؤسسة الهامة حتى الآن. وليتني تقدمت به منفردا، لكنني لم أكن أعلم أن مشروع قانون إصلاح السلطة القضائية سيأخذ و قتاً طويلا، ولم نكن نتصور أن ينقلب المجلس العسكري على السلطة التشريعية بهذه السرعة بعدما أعلن عن تسليمها كاملة، بل واستخدم المحكمة الدستورية في هذا مما زاد من حسرتي على عدم تقديم مشروع القانون منفردا. لذلك فكرت الآن أن اعرض على الرأي العام جزءا من نتيجة بحثي الموضوعي عن تاريخ تشكيل وتأسيس المحكمة الدستورية وسلوكها القضائي على مر سنين عملها، وكيف واجهها قضاة مصر الشرفاء العظام (وأخص بالذكر الراحل الكبير المستشار يحيى الرفاعي رحمه الله ورفاقه الكثيرين الذين لا أستطيع حصرهم هنا) والقضاة العظام أحمد مكي وزكريا عبد العزيز وكل رجال تيار استقلال القضاء. هذا العرض الموضوعي بالحقائق المؤرخة سيوضح جانباً من الرد على السؤال الهام: لماذا نقول أن أحكام المحكمة الدستورية العليا مسيسة؟ وكيف لمستشارين يفترض أن يكونوا عنواناً للحق و العدل، يصبحون تابعين لمبارك ومن بعده المجلس العسكري. قد يفاجأ الكثيرون أن المحكمة الدستورية، وهي أعلى محكمة في مصر، ليست جزءا طبيعيا من القضاء المصري، أي أنها ليست محكمة مشكلة بالشكل الطبيعي التي تتشكل بها المحاكم في منظومة القضاء المصري. بل كانت أشبه بلجنة شكلتها الحكومة ممثلة برئيس الجمهورية ووضعتها فوق القضاء، وقد أكد ذلك محكمة النقض عام 1974 والجمعية العمومية الطارئة لنادي القضاة والجمعية العمومية لمجلس الدولة والجمعيتين العمومييتن لمحكمتي شمال وجنوب القاهرة عام 1978، ثم مؤتمر نادي القضاة عام 1979 ثم مؤتمر العدالة الأول 1986، وهنا يجب توضيح الحقائق التالية: 1- المحكمة الدستورية هي المحكمة الوحيدة على مستوى الجمهورية التي شكلها رئيس الحزب الوطني المنحل حسني مبارك، بينما كل المحاكم المصرية مشكلة من السلطة القضائية. 2- أنشأها الرئيس جمال عبد الناصر ضمن إجراءات مذبحة القضاء عام 1969، وابتدع أسلوبا جديدا مخالفا للقواعد القضائية، حيث أعطى لنفسه سلطة تعيين قضاتها من أي جهة، بالمخالفة لقانون السلطة القضائية التي لا يسمح للسلطة التنفيذية سواء رئيس الجمهورية أو غيره تشكيل أي محكمة، وجعلها تعلو محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا اللتان فصل عبد الناصر العديد من قضاتهما. 3- أعطى عبد الناصر المحكمة العليا العديد من الاختصاصات التي كانت محجوزة لمحكمة النقض، فجعل لها سلطة إلغاء أي حكم قضائي يصدر من أي محكمة، بناء على طلب الوزير المختص. 4- توفي عبد الناصر قبل تعيين قضاة المحكمة العليا، فعين السادات قضاتها لأول مرة عام 1974، وكان رئيسها من التنظيم الطليعي (السري)، كما صرح بذلك المستشار أحمد مكي، نائب رئيس محكمة النقض سابقا، فعقدت محكمة النقض جمعية عمومية اعتراضا على وجود هذه المحكمة، وأكدت محكمة النقض أنها المحكمة العليا في البلاد. 5- في عام 1978، قدم السادات مشروع قانون لمجلس الشعب ينص على تغيير اسم المحكمة العليا إلى المحكمة الدستورية العليا. 6- عقد نادي القضاة جمعية عمومية طارئة احتجاجا على مشروع قانون المحكمة الدستورية العليا، وأكد أنها تعد عدوانا على القضاء والمحاكم وانتهاك صارخ للدستور والقانون، لأنها محكمة سياسية ولاؤها للحزب الحاكم، وأكدت توصيات الجمعية العمومية لنادي القضاة أن مشروع قانون المحكمة الدستورية أعطى لرئيس الجمهورية وهو رئيس السلطة التنفيذية سلطة تعيين قضاة المحكمة الدستورية وهو ما يعنى تدخل من السلطة التنفيذية في شؤون السلطة القضائية، وهو أمر مرفوض. كما أكد نادي القضاة أن من يعين قضاة المحكمة هو رئيس الجمهورية، بعد العرض على مجلس الشعب، وفقا للمشروع القانون آنذاك، وهو ما يعني أن الأغلبية البرلمانية المنتمية للحزب الحاكم هي التي ستعين قضاة المحكمة الدستورية، وهو ما يجعل ولاء قضاة المحكمة للحزب الحاكم، وفيما بعد أصبح مبارك رئيس الحزب الوطني المنحل، هو الذي يعين قضاة المحكمة. أكد نادي القضاة أن المحكمة الدستورية تمثل اعتداء على الأحكام القضائية النهائية الصادرة من محكمتي النقض والإدارية العليا، لأن القانون أعطى لرئيس المحكمة الدستورية العليا منفردا سلطة وقف تنفيذ أي حكم قضائي بدون مرافعة ولا مذكرات، فيصبح شخص واحد معين من قبل رئيس الجمهورية قادرا على إلغاء أي حكم قضائي. كما أكد نادي القضاة أن محكمة النقض هي المختصة في تفسير نصوص القانون، وأن إسناد هذه المهمة للمحكمة الدستورية هو ازدواج في الاختصاص، وأن الهدف من ذلك هو أن ينشئ رئيس الجمهورية محكمة تفسر القانون وفقا لأهوائه السياسية، ويجعل من تفسيرها ملزما لجميع المحاكم. 7- انعقدت الجمعمية العمومية لمجلس الدولة أيضا عام 1978، واعترضت على إنشاء المحكمة الدستورية، وأكدت أنها محكمة سياسية ولاؤها للحاكم، واعتداء على الأحكام القضائية والسلطة القضائية، وسردت ذات اعترضات نادي القضاة. 8- انعقدت الجمعيتان العموميتان لمحكمتي شمال القاهرة وجنوبها، وطالبوا بتعديل مشروع قانون المحكمة الدستورية. 9- نقابة المحاكمين تصدر بيانا في ذات العام احتجاجا على إنشاء المحكمة الدستورية لذات اعتراضات نادي القضاة. 10- مجلس الشعب أقر قانون المحكمة الدستورية عام 1979. 11- نادي القضاة يعقد مؤتمرا حاشدا للقضاة وأساتذة القانون وكبار المحامين اعتراضا على إنشاء المحكمة الدستورية. ويصفها بأنها لجنة أنشأتها الحكومة لتمرير قرارتها في صورة أحكام قضائية كي يتم نسبتها للقضاء وهو منها بريء. والدكتور محمد عصفور، أستاذ القانون والقيادي في حزب الوفد، يقول في كلمته أمام مؤتمر نادي القضاة: "إن المحكمة الدستورية عدوان على القضاء وإهدار لكرامته واستقلاله، وأنها أنشأت لتمرير تصرفات شاذة ومنكرة، بلغت في كثير من الأحيان حد أخطر الجرائم". 12- نادي القضاة يعقد مؤتمر العدالة الأول عام 1986، ويخرج بتوصيات بإلغاء المحكمة الدستورية العليا، إذ لا مبرر لوجودها، ولا يمكن للقضاء أن يستقل إلا بإلغائها. 13- المحكمة الدستورية تصدر حكما عام 1987 بعدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب وكان به نواب معارضون، ومبارك يحل المجلس لكن بعد استفتاء شعبي. 14- المحكمة الدستورية تصدر حكما بعدم دستورية قانون انتخابات مجلس الشعب عام 1990، وكان به نواب معارضون. 15- مبارك يتجاهل حكم المحكمة الدستورية، ومجلس الشعب يواصل جلساته، والمحكمة تصمت تماما، وبعد خمسة شهور مبارك يدعو الشعب للاستفتاء على حل مجلس الشعب. 16- في عام 1990 المحكمة الدستورية ترفض إلغاء قرار مبارك بدعوة الشعب للاستفتاء على حل مجلس الشعب أو بقائه، وتقول أن قرار مبارك سيادي. 17- تزوير الانتخابات البرلمانية عام 1990، وإحالة دعاوى للمحكمة الدستورية، لكنها تمتنع عن الفصل فيها لمدة 10 سنوات، حيث أصدرت حكما عام 2000 بعدم دستورية قانون الانتخابات، وكشف رئيس مجلس الشعب السابق فتحي سرور في حوار مع مجلة "روز اليوسف" في 15 يوليو 2000 أن مبارك ترأس اجتماعات تم الاتفاق فيها على تأجيل حكم المحكمة الدستورية 6 سنوات. 18- عام 2006 تصدر محكمة النقض برئاسة حسام الغرياني حكما ببطلان فوز زكريا عزمي في انتخابات مجلس الشعب لعدم وجود إشراف قضائي على الانتخابات، ورئيس الوزراء يلجأ للمحكمة الدستورية، فتلغي حكم محكمة النقض، ليبقى زكريا عزمي على كرسيه البرلماني. 19- عام 2007، مبارك يدعو الشعب للاستفتاء على تعديلات دستورية تمهد لتوريث الحكم لنجله جمال مبارك، ومحكمة القضاء الإداري تصف الاستفتاء بأنه غير دستوري لعدم وجود إشراف قضائي عليه، وأحالت الدعوى للمحكمة الدستورية للنظر في عدم دستورية الاستفتاء، لكن المحكمة لم تفصل في الدعوى حتى اليوم. 20- عندما كان الدستور ينص على أن مصر دولة اشتراكية، حكمت المحكمة الدستورية بصحة بيع شركات القطاع العام بالمخالفة للدستور. هذا غيض من فيض وهناك كثير آخر، وسأكون سعيدا لو خرج علينا أحد ترزية القوانين وكهنة المعبد القديم والناشطة "الفضائية" المشتغلة بالسياسة أكثر من السياسيين وصنيعة سوزان مبارك لتكذب هذه الحقائق، وأكون مخطئا؛ أو ليصمتوا ويستقيلوا على استحياء وكفاهم ما صنعوه كونهم شركاء وأدوات في استبداد نظام قديم ثار الشعب لإسقاطه، وهم ما يزالون يحاربون الثورة والإرادة الشعبية. يجب أن نعمل—ونحن نؤسس لجمهورية ديموقراطية مدنية حديثة— لترسيخ استقلال تام وكامل للقضاء، وأن يكون بعيدا كل البعد عن تدخل السلطة التنفيذية: وزير العدل أو رئيس الجمهورية. فالشعب يريد تطهير واستقلال القضاء.