تطوع عدد كبير من الجنرالات الإسرائيليي المتقاعدين لمنح وسائل الإعلام الإسرائيلية والأجنبية مقابلات، ألمحوا خلالها بشكل واضح أن إسرائيل هي التي تقف خلف الهجوم الإلكتروني الذي استهدف مؤخرا منظومات حواسيب إيرانية حساسة. ولقد كانت الشركة الروسية لحماية المعلومات «كاسبرسكي» هي أول من كشف النقاب عن الهجوم، الذي استخدم فيه فايروس Flame أو «اللهب»، حيث أشارت الشركة في تقرير مفصل أن هدف الهجوم كان جمع معلومات استخبارية حول نوايا إيران النووية، ولم يكن بقصد تنفيذ عمل هجومي، على غرار الهجوم بفايروس stuxnet «ستكسنت»، الذي تم عام 2009، وأدى إلى توقف عمل أجهزة الطرد المركزي المسؤول عن عمليات تخصيب اليورانيوم في المرافق النووية الإيرانية، في 2009، وهو الهجوم الذي أدى إلى توجيه ضربة مؤثرة للمشروع النووي الإيراني برمته. لكن مما لا شك فيه أن المفاجئ أن موشيه يعلون، نائب رئيس الوزراء والوزير المكلف بملف التهديدات الإستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية قد أعلن صراحة أن إسرائيل هي التي تقف وراء هذا الهجوم الإلكتروني. لقد كانت هذه المرة الأولى في تاريخ إسرائيل، التي يعلن فيها مسؤول إسرائيلي مسؤولية دولته عن عمل سري ضد دولة أخرى. وقد تبين أن الخطوة غير المسبوقة التي أقدم عليها يعلون هدفت بشكل أساسي إلى التغطية على الدور الأمريكي في الهجوم على إيران، حيث أشارت مصادر عديدة إلى أن الولاياتالمتحدة لعبت دوراً مركزياً في تنفيذ الهجوم. وحسب التقديرات في إسرائيل، فإن مسارعة يعلون لتحمل المسؤولية عن الهجوم تأتي لمنع الرئيس الأمريكي باراك أوباما من توظيف هذا الهجوم لتحسين صورته في خضم حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وقد أثارت الخطوة الإسرائيلية حفيظة البيت الأبيض، الذي سارع إلى تسريب خبر لصحيفة «نيويورك تايمز» مفاده أن الولاياتالمتحدة – وليس إسرائيل – هي المسؤولة عن تنفيذ الهجوم على إيران، وأن هذا الهجوم جاء بناءً على تعليمات صارمة من أوباما تقضي بتكثيف الهجمات الإلكترونية على المشروع النووي الإيراني. ولا خلاف في إسرائيل على أن الأمريكيين هدفوا من خلال هذا التسريب إلى إيصال رسالة للرأي العام الأمريكي بشكل عام وللمنظمات اليهودية الأمريكية مفادها أن أوباما مصمم على إحباط المشروع النووي الإيراني، وأن الانتقادات التي توجهها أطراف حكومية إسرائيلية للسياسات التي تنتهجها الإدارة الأمريكية الحالية ضد إيران غير مبررة. وبغض النظر عما إذا كان الهجوم الإلكتروني الأخير قد نفذ من قبل الأمريكيين أو الإسرائيليين، أو كان نتاج جهد مشترك، فإنه بات من الواضح أن الهجمات الإلكترونية على المشروع النووي الإيراني أصبحت أهم آليات العمل المباشرة التي يتم توظيفها لتقليص قدرة الإيرانيين على مواصلة مشروعهم النووي. ويقول عاموس هرئيل المحلل العسكري لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية إن شن هجوم عسكري على المنشآت النووية الإيرانية قبل موعد الانتخابات الأمريكية هو خيار غير واقعي، على اعتبار أن الرئيس أوباما لا يمكن أن يوافق عليه، حيث أن أوباما يخشى أن مثل هذا الهجوم سيؤثر سلبا على فرص إعادة انتخابه، لأن مثل هذا الهجوم سيزيد بشكل كبير من أسعار النفط، مما سيفاقم من حجم الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي، وهذا سيصب في صالح المرشح الجمهوري. لكن بغض النظر عن الدور الذي يمكن أن تقوم به الهجمات الإلكترونية، فإنه لا خلاف في إسرائيل على أن مثل هذه الهجمات لا يمكنها أن تؤدي إلى وقف المشروع النووي. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق غابي إشكنازي أوضح أن «الاستراتيجية الهادفة لإحباط المشروع النووي الإيراني يجب أن تقوم على ثلاث مرتكزات أساسية وهي: 1) حرب سرية، 2) عقوبات اقتصادية وسياسية خانقة، 3) تهديد عسكري جدي وحقيقي». وتشمل الحرب السرية بالإضافة إلى الحرب الإلكترونية: عمليات الاغتيال التي طالت علماء ذرة ومسؤولين في البرنامج النووي الإيراني، وعمليات تفجير استهدفت المرافق النووية الإيرانية. ويؤكد إشكنازي أن الحرب السرية بإمكانها أن تؤجل لحظة حصول إيران على القنبلة النووية، لكنها بكل تأكيد غير قادرة على إحباط المشروع النووي برمته. من هنا، فرغم النجاحات المنسوبة للهجمات الإلكترونية، فإن المسؤولين الإسرائيليين يحاولون مواصلة الضغوط على الإدارة الأمريكية للتوجه لاستخدام القوة العسكرية ضد المشروع النووي الإيراني، وذلك عبر التهديد الواضح بأن تتولى إسرائيل هذه المهمة، حيث يدرك صناع القرار في تل أبيب أن الإدارة الأمريكية تتخوف من تبعات أي هجوم إسرائيلي على المصالح الأمريكية في المنطقة. لذلك، يحاول المسؤولون الإسرائيليون بكل قوة الإيحاء بأن تل أبيب ملتزمة باستخدام الخيار العسكري ضد المشروع النووي الإيراني. فخلال ندوة عقدها «مركز أبحاث الأمن القومي» الإسرائيلي، عبر وزير الدفاع الإسرائيلي عن انزعاجه الشديد لأنه تولد انطباع لدى الإدارة الأمريكية بأن إسرائيل تراجعت عن خيار استخدام القوة العسكرية ضد المشروع النووي الإيراني. وأضاف: «هذا لم يحدث، نحن نؤكد على حقنا في استخدام كل الوسائل من أجل منع إيران من الحصول على السلاح النووي لأنها تهدد باستخدامه ضدنا». لكن ورغم لهجته الحازمة، إلا أن براك ألمح في المقابل، إلى أن إسرائيل لم تعد ترى عام 2012 عام الحسم في التعامل مع المشروع النووي الإيراني، بمعنى أنه ليس بالضرورة أن يتم الهجوم الإسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية حتى نهاية العام. وهناك أساس للاعتقاد بأن تلميح براك يأتي لأن إسرائيل تدرك أن الهجمات الإلكترونية وبقية مركبات الحرب السرية التي شنت على إيران في الأعوام الثلاثة الأخيرة قد مست بقدرة إيران على مواصلة مشروعها النووي بالوتيرة التي خططت لها، وبالتالي لا داعي للاستعجال في شن هجوم عسكري عاجل. وفي الوقت نفسه، فإن إسرائيل معنية بأن تقود الولاياتالمتحدة العالم نحو تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران، على اعتبار أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تدفع دوائر صنع القرار في طهران للتراجع عن مخططاتها في تطوير سلاح نووي. ولا يمكن تجاهل حقيقة أن هناك مستويات أمنية إسرائيلية تشكك في قدرة الدولة العبرية على تنفيذ هجوم عسكري. مع العلم أن كل التقديرات الإسرائيلية تؤكد أن أي هجوم على المشروع النووي الإيراني سيعمل على تأجيله لمدة ثلاث سنوات تقريباً فقط. المستويات العسكرية الإسرائيلية المهنية اختلفت فيما بينها في تقييم الخطوات الواجب اتخاذها ضد إيران. فمن ناحيته اعتبر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق عاموس يادلين أن حصول إيران على سلاح نووي سيخلق ظروفا أخطر بكثير من الظروف التي سادت العالم أثناء الحرب الباردة بين الشرق والغرب منذ خمسينات القرن الماضي. وهكذا، فإن يادلين، الذي يرأس «مركز أبحاث الأمن القومي»، يؤيد الخيار العسكري ضد إيران، ويستبعد أن يكون بوسع إيران الرد بشكل قوي على الهجوم الإسرائيلي. لكن يادلين في الوقت نفسه يشدد على أن نجاح أي خطوة عسكرية إسرائيلية ضد إيران يتوقف على سلوك دول العالم في أعقابها، مشدداً على ضرورة أن تواصل دول العالم الضغوط الاقتصادية والسياسية على إيران في أعقاب الهجوم العسكري الإسرائيلي. ويشدد يادلين على أهمية بلورة «شرعية دولية» من أجل منع إيران من تطوير السلاح النووي بأي ثمن. في المقابل، الرئيس السابق للاستخبارات الإسرائيلية «موساد»، مئير دغان، يرفض بشدة فكرة الهجوم العسكري على إيران بشكل قاطع. ويحذر دغان من أن إيران بعد الهجوم ستكون متحررة من أي قيود يفرضها المجتمع الدولي عليها، وستعمل بوتيرة عالية من أجل إنتاج السلاح النووي، علاوة على أن ذلك سيمنح الإيرانيين الحق في الرد على إسرائيل بهجمات صاروخية شديدة، يمكن أن تؤدي إلى مقتل آلاف الإسرائيليين. دغان لم يكتف بالتحذير من مخاطر قيام إسرائيل بمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، بل أنه بادر إلى إقناع عدد من قادة الأجهزة الاستخبارية الغربية بالتوقيع على مقال مشترك، نشر مؤخراً في صحيفة «نيويورك تايمز»، يشدد على إمكان إحباط المشروع النووي الإيراني بواسطة العقوبات الاقتصادية والحرب السرية والتحذير من أن هجوماً عسكرياً سيؤدي إلى نتائج عكسية. مما لا شك فيه أن حملة التهديدات الإسرائيلية لإيران تأتي للتأثير على مواقف الدول الكبرى التي سيلتقي ممثلوها في منتصف الشهر الجاري مع الممثلين الإيرانيين لمعرفة الرد الإيراني النهائي على الطلب الذي تقدمت به هذه الدول بوقف عملية تطوير المشروع النووي، وذلك قبل أن تشرع هذه الدول في فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة التي تقرر فرضها على طهران مطلع يولية القادم. والمفارقة أن الذي يعزز الضغوطات الإسرائيلية على الإدارة الأمريكية حقيقة أن هناك دولا عربية حليفة للولايات المتحدة تطالب واشنطن بالعمل بشكل عاجل لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي. وقد نقلت الإذاعة العبرية الأسبوع الماضي عن دنيس روس، المستشار السابق للرئيس أوباما قوله أن الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز هدد الإدارة الأمريكية بأنه في حال نجحت إيران في تطوير سلاح نووي، فإن السعودية ستحرص على تطوير مثل هذا السلاح. باختصار، تهدف إسرائيل للضغط على الإدارة الأمريكية بأن تشن حرب بالوكالة نيابة عنها، أو على الأقل أن تفرض عقوبات اقتصادية بالغة التأثير لدرجة تدفع طهران لتجميد برنامجها النووي.