على الرغم من الكم الهائل من التصريحات الصادرة عن كبار المسؤولين الإسرائيليين بشأن طابع السلوك الإسرائيلي تجاه إيران، وعلى وجه الخصوص التلميحات الواضحة بشأن نية تل أبيب مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، وعلى الرغم من المساحة الضخمة التي خصصتها وسائل الإعلام الإسرائيلية لتحليل حقيقة نوايا حكومة بنيامين نتنياهو، إلاّ أنّ غموضاً كثيفاً ظل يحيط بحقيقة المخططات الإسرائيلية تجاه طهران، وهذا بالضبط ما هدفت إليه جملة التصريحات واستعراضات القوة التي أقدمت عليها "إسرائيل" في الآونة الأخيرة. ويظل السؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة: هل "إسرائيل" اتّخذت بالفعل قراراً نهائياً بضرب المنشآت النووية الإيرانية، وأنّها فقط تنتظر الظروف المواتية لتنفيذ الهجوم؟ أم أنّ "إسرائيل" لا زالت ترى أنّ تشديد العقوبات الاقتصادية بإمكانها أن تؤدي الغرض وتجنِّب تل أبيب تداعيات هذه الضربة؟ حتى أكثر المعلقين والخبراء ارتباطاً بالمؤسسة الحاكمة غير قادر على تحديد وجهة نتنياهو الحقيقية تجاه إيران، حتى وإن كان رئيس جهاز الموساد السابق مئير دغان صرّح مؤخراً لقناة التلفزة العاشرة في "إسرائيل" بأنّ نتنياهو اتخذ قراراً بالفعل بشأن إيران، في تلميح إلى أنّه سيقوم بضرب إيران. إنّ نوايا "إسرائيل" الحقيقية من المشروع النووي الإيراني تتوقف على عدد من المحددات، التي تشكّل معياراً لتوقع ردة الفعل الإسرائيلية. اجتياز إيران مستوى القدرة التقنية إنّ أحد أهم محاور الخلاف بين "إسرائيل" والغرب بشأن البرنامج النووي الإيراني يتمثّل في اختلاف تحديد النقطة التي يتوجب السماح لإيران بوصولها في برنامجها النووي، ففي حين يرى الغرب أنّه يتوجب منع إيران من تطوير السلاح النووي، فإنّ "إسرائيل" ترى أنّه يتوجب منع إيران من الحصول على التكنولوجيا والمعرفة التي تمكّنها من تطوير السلاح النووي. ويقول وزير التعاون الإقليمي الإسرائيلي سيلفان شالوم أنّ تمكُّن إيران من الحصول على التقنية التكنولوجية في المجال النووي يتساوى مع خطر إنتاج السلاح النووي، لأن هذه المعرفة تمكِّن إيران من تطوير السلاح في الظرف والتاريخ الذي تراه مناسباً. من هنا، فإنّ "إسرائيل" ترى في تمكُّن إيران من تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمئة، وهي النسبة اللازمة لتطوير السلاح النووي، أمر يتوجب منعه بأيّ ثمن، لذلك ترى "إسرائيل" أنّه يتوجب عليها أن تضرب المنشآت النووية الإيرانية قبل أن تقوم إيران بنقل أنشطتها النووية إلى منشأة "نتانز" السرية الواقعة تحت جبال مدينة "قم"، على اعتبار أنّ انتقال الأنشطة إلى هذه المنشأة يعني تحقيق القدرة التقنية اللازمة لتطوير السلاح النووي. الجاهزية لتداعيات الضربة العسكرية تضع "إسرائيل" في حسبانها السيناريو الأسوأ، والذي يتمثّل في حدوث خلل أثناء تنفيذ الضربة العسكرية على إيران، فحسب التسريبات في "إسرائيل" ووسائل الإعلام الأجنبية، فإنّ "إسرائيل" ستستخدم في ضربتها طيف من أشكال قوة، بحيث يتم في البداية إطلاق صواريخ "يريحو" الإسرائيلية التي يصل مداها إلى أكثر من 2000 كيلو متر، والموجهة بالأقمار الصناعية على المنشآت النووية الإيرانية، وفي الوقت نفسه تقوم طائرات حربية من طراز "أف 15 أيه" بشن غارات بواسطة قنابل خارقة للتحصينات. ولا تستبعد بعض المصادر الإسرائيلية أن تشارك وحدات نخبة من المشاة في تدمير المنشآت النووية، لكن سيناريو الرعب الذي تخشاه "إسرائيل" هو أن يتمكّن الإيرانيون من إسقاط بعض الطائرات المشاركة في الهجوم، ويقع بعض الطيارين أسرى لدى الإيرانيين. وقد أكّدت وسائل الإعلام الإسرائيلية أنّ نتنياهو طالب الرئيس أوباما خلال لقائه الأخير به في البيت الأبيض، بأن يتدخّل الجيش الأمريكي للمساعدة في إجلاء أيّ طيار إسرائيلي يتم إسقاط طائرته أثناء الهجوم على إيران، وهذا يعني أنّ الإسرائيليين يضعون في حساباتهم سيناريوهات سلبية. من ناحية ثانية، فإنّه في حال قيام إيران وحلفائها بالرد بقوة على أيّ ضربة إسرائيلية، فإنّ هذا يتطلّب استعدادات إسرائيلية كبيرة وهائلة على مستوى إعداد الجبهة الداخلية، وكما يقول رئيس الموساد السابق مئير دغان، فإنّ ضربة إسرائيلية لإيران ستجرّ في أعقابها ردة فعل إيرانية هائلة تتمثّل في إطلاق عدد كبير من الصواريخ تغطّي "إسرائيل"، مما سيُحدث دماراً هائلاً وخراباً كبيرا، تدلل كل المؤشرات على أنّ "إسرائيل" غير قادرة على مواجهته ولا يمكنها أخذ الاحتياطات لتفاديه، فالجهود التي تبذلها قيادة الجبهة الداخلية في الجيش الإسرائيلي لمواجهة الآثار الناجمة عن رد فعل إيراني عنيف، تظل أقصر من أن تواجه الرد المتوقّع. من الأهمية القول أنّ المخططات الإسرائيلية تعتمد على المعلومات الاستخبارية الإسرائيلية بشأن قدرات إيران الحربية ومدى جاهزيتها للرد على الهجمات الإسرائيلية وبأيّ حجم، ناهيك عن تصوُّر لطابع الأهداف. مستوى العقوبات الاقتصادية لا خلاف في "إسرائيل" على أنّ صُنّاع القرار في تل أبيب يفضّلون مسار العقوبات الاقتصادية على الخيار العسكري، لكن بشرط أن تنجح في تحقيق الهدف المتمثّل في منع طهران من الحصول على التقنية النووية اللازمة لتطوير الأسلحة الذرية، وليس فقط تطوير الأسلحة بحد ذاتها. من هنا، فإنّ "إسرائيل" تختبر فاعلية العقوبات الاقتصادية في مدى منعها إيران من رفع درجة التخصيب إلى 20 بالمئة والانتقال إلى مؤسسة "نتاز"، حيث أنّه في حال لم تنجح العقوبات الاقتصادية في منع الإيرانيين من رفع نسبة التخصيب فإنّ هذا يدلل على فشل مسار العقوبات بأكمله. وقد تجنّد الرئيس أوباما وإدارته لصالح فرض عقوبات بالغة القسوة على إيران، كان أخطرها وأعظمها أثراً حتى الآن التوقف عن التجارة الالكترونية مع إيران، مع العلم أنّ 80 بالمئة من التجارة العالمية تتم الكترونيا، عبر خدمة "SWISS". ومن المتوقع أن يُقدم الغرب على خطوة أكثر جدية تتمثّل في فرض حظر على استيراد النفط الإيراني، وهذا يعني توجيه ضربة قاسية للاقتصاد الإيراني. لكن على أيّ مدى يمكن أن تؤثّر هذه العقوبات على دائرة القرار السياسي في طهران؟ لا يوجد إجابة لدى تل أبيب على هذا التساؤل. إنّ الذي دفع أوباما للتجنّد إلى هذا الحد في فرض العقوبات الاقتصادية على إيران هو إدراكه خطورة تأثير أيّ ضربة من "إسرائيل" لإيران على فرصه بالفوز في الانتخابات الرئاسية، التي من المتوقع أن تجري في تشرين الثاني. ويرى أوباما أنّ توجيه ضربة إسرائيلية لإيران يعني زيادة أسعار النفط بشكل جنوني، وهذا ما يعني توجيه ضربة للاقتصاد الأمريكي، الذي لا زال يواجه آثار تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، مما يعني تراجع فرص أوباما بالفوز، مقابل تعاظم فرص منافسه الجمهوري. لكن السؤال الذي يُطرَح بقوة في "إسرائيل"، ولا يوجد إجابة عليه: على فرض أنّ "إسرائيل" نجحت في ضرب المنشآت النووي الإيرانية، فهل هذا سيقضي تماماً على المشروع الإيراني، أم سيؤجّله فقط؟ أغلب التقييمات تقول أنّه سيتم تأجيله فقط، وتعود إيران للعمل في مجال تطوير السلاح النووي دون أيّ كوابح.