سأسمح لنفسي بالحديث في نقد الديمقراطية، وهو أمر لم أكن أرغب بالتطرق إليه أو الخوض فيه في الوقت الحالي. لكن نتيجة الظرف التاريخي أو اللحظة الراهنة لسياق التجربة المصرية في التحول الديمقراطي، أرى أن الحديث فيه جيد أو مطلوب. بداية، الهدف الرئيس من نشوء الديمقراطية أصلا أن تحكم الأغلبية أخيرا بعد أن ظل العالم لعهود يعيش تحت وطأة حكم الأقلية أو حكم الفرد أو حكم الكنيسة، مما كان يعني أن تصل إلى البرلمان أغلبية من الفقراء، وهم بطبيعة الحال الأغلبية في المجتمع. لكن إذا نظرنا للتاريخ وجدنا أن مطلب التصويت للجميع قوبل في الغرب طوال القرن التاسع عشر بمقاومة شرسة، ذلك أن التصويت كان مقصورا على الميسورين والرجال بل والبيض والأحرار فقط، إذ لم تحصُل النساء على حق التصويت في بريطانيا إلا سنة 1928 وفي أمريكا سنة 1929، أما في فرنسا مثلا فلم يتحقق ذلك إلا في سنة 1946، ولم يمنح الأمريكان السود ومن كانوا عبيدا حق الانتخاب "وهم من قام دستورهم على الليبرالية والاستقلال" إلا بعد التعديل الدستوري الخامس عشر في 1870. كانت المقاومة لحق العامة في التصويت نتيجة خوف البرجوازية من أن تصل إلى البرلمان أغلبية من الفقراء -وهم الأغلبية الطبيعية في المجتمع- فتقلب الطاولة راسا على عقب. لكن طبيعة وشكل الإجراءات التي تم تحديدها لنموذج الانتخابات أصلا «والتي وضعها ساسة (بورجوازيون أيضا)»، لم تؤدِّ إلى فوز ممثلي الأغلبية المعوزة، بل بالعكس، إننا نرى اليوم أن نسبة أصحاب الملايين في مجلس الشيوخ الأميركي تعادل خمسين ضعفا نسبتها داخل المجتمع، فالأمر كله يعتمد على الإعلام والبروباجندا (الدعاية) والمادة (التمويل). أي أنه في النهاية، لم يتغير شيء كثير، فما زال الحكام هم الأقلية البورجوازية من القلة أصحاب المال والنفوذ القادرين على تحمل أعباء الحملات الانتخابية الضخمة. بل إن هذه الآليات (وسائل الإعلام والدعاية) خاصة مع سيطرة أصحاب رأس المال على وسائل الاعلام، أدت لدفع الفقراء لانتخاب من هم وراء فقرهم، ليحافظوا على ذات النظام الاجتماعي الذي يكافحون من أجل تغييره! وللحديث بقية إن شاء الله.