لا يختلف اثنان فى أن فحوى التغيير فى فكر البرادعى، هى أن ينتقل نظامنا السياسى تدريجيا من الإطار الشمولى إلى الإطار الديمقراطى. ومثل هذا الانتقال أمر لا يحبه ولا يطيقه أرباب النظام وأحزابه (حزب الأغلبية أحزاب المعارضة). فليس لأمثال هؤلاء مكان تحت الإطار الديمقراطى، فهذا الإطار لا تأخذه بهم رحمة أو شفقة، جزاء وفاقا لما ارتكبوه من آثام فى ظل النظام الشمولى وحمايته. (1) لم تكن دعوة الرجل وصحبه إلى الديمقراطية، اختيارا عفويا أو عشوائيا، بل كانت حتمية تاريخية، أملاها استمرار نظام شمولى آثم فى حق الوطن والشعب، أنجب واقعا لا يقل إثما فى حق الوطن والشعب. والنظام، بطبيعته، يطرح جانبا ما تقوم عليه الديمقراطية من الاعتراف للفرد بحرياته وحقوقه الشخصية والسياسية. ومؤسسات النظام جميعها، وإن احتفظت بأسمائها الديمقراطية، إلا أنها تحولت جميعها فى تعبير أستاذ الجيل سعيد النجار رحمه الله إلى أصداف خاوية من مضامين الحكم الرشيد، وهو الحكم الديمقراطى، فى تعريف البنك الدولى. لقد حلت إرادة الحاكم محل إرادة الشعب، فى تشكيل وتوجيه مؤسسات الحكم جميعها، فى ظل دستور غير دستورى، لا يعرف مبادئ الحكم الرشيد. لقد ضرب الحاكم بقسوة كل الفاعلين الأساسيين فى النظام السياسى الديمقراطى القائم قبل نظام يوليو (الأحزاب، رجال الأعمال، نقابات العمال، اتحادات المهنيين، والمثقفون وأساتذة الجامعات). وفى سبيل ذلك، كانت ثلة الإجراءات التى كان آخرها التأميم والحراسات. وإذا كان ذلك كذلك، سرعان ما اتجه الحاكم إلى أن يحل الطبقة البيروقراطية، كقوة سياسية، محل القوى السياسية الليبرالية، وسرعان ما ظهرت طبقة برجوازية جديدة، دورها التاريخى، هو العكس تماما للدور التاريخى للطبقة البرجوازية الليبرالية. فإذا كان الدور التاريخى للأخيرة هو البناء، فإن الدور التاريخى للبرجوازية الشمولية هو الهدم. والطبقة البيروقراطية هى يد وعصا الحاكم المطلق فى فرض إرادته، فهم يدينون بالولاء التام له وليس للشعب، فقد جاءوا إلى السلطة من خلال التعيين، وليس من خلال الانتخاب. أما الطبقة البرجوازية الشمولية، فقد كانت نتيجة طبيعية لنظام الإنتاج والتجارة فى النظام الشمولى، فالإنتاج والتجارة فيه، يتمان وفقا لقرارات إدارية، يستأثر بمقتضاها أرباب النظام من العسكريين ومن المدنيين، وبأسعار إدارية منخفضة، بنصيب الأسد من السلع والخدمات المنتجة محليا، ومن الدولارات المخصصة للاستيراد، ليبيعوها بعد ذلك بأسعار السوق السوداء، فيجنون الأرباح الطائلة، ويدفع الاقتصاد ثمنا غاليا فى صورة ارتفاع الأسعار عموما، والضعف التنافسى بالتالى. ويزداد الطين بلة، بأن ما يحقق من أرباح السوق السوداء، لا يعاد توظيفه فى نشاط منتج داخل الاقتصاد القومى، فأصحابها ليسوا من صفوف البرجوازية المنتجة، بل هم مجموعة من أرباب السلطة جاءتهم بهذه الصفة فحسب الأموال مدرارا، فيتجهون بها إلى المضاربة على الأرض والدولار، فأثمانهما ترتفع باستمرار، نتيجة للاتجاه التضخمى المزمن. وهكذا لا يجنى الاقتصاد، مرة أخرى، من وراء نشاط هؤلاء نموا أو تنمية، فمساحة الأرض وحجم العملة محل المضاربة، لا تزيدان، وكل ما هنالك هو اشتداد لهيب الأسعار لصالح المضاربين، وضد الفقراء ومحدودى الدخل. وهكذا نشأت ونمت الطبقة البرجوازية الشمولية، أو قل، طبقة السوق السوداء، جنبا إلى جنب مع نشوء ونماء الطبقة البيروقراطية. وإذ توحدت مصلحة الطرفين فى المنصب الحرام والمال الحرام، فقد كان التحالف بينهما لتحقيق مصلحة خاصة فاسدة، دون المصلحة العامة، أمرا طبيعيا. ثم كانت هزيمة يونيه وبداية تحلل النظام، الفرصة التاريخية، لطرفى التحالف الشرير، فى التطلع إلى دور أكبر فى السلطة والمال. ولقد كان على السادات قبل تطبيق سياسة الانفتاح، أن يضرب بالإسراع فى تطبيق الديمقراطية هذا التحالف بقوة، ولكنه لم يفعل، أو قل، لم يستطع، فما كان من التحالف بطرفيه، إلا أن استولى، تحت مظلة الانفتاح، على ما استطاعت يداه أن تصل إليه من أصول القطاع العام (الوكالات التجارية خصوصا)، وعلى تجارة الاستيراد، واستمروا فى الوقت نفسه فى المضاربة على الأرض وعلى الدولار، فزادت أسعارهما اشتعالا، واشتد لهيب الأسعار فى الاقتصاد القومى عموما، ليلتهم ما استطاع من دخول الفقراء ومحدودى الدخل. ثم كان تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادى حبرا على ورق، على أيدى رؤساء حكومات النظام الشمولى الأربعة (عاطف صدقى، كمال الجنزورى، عاطف عبيد، أحمد نظيف)، فاستطاعت البورجوازية الشمولية، أن تحقق من الثروة والدخل ما تريد، كنتيجة طبيعية للارتفاع غير المسبوق فى الأسعار كأثر للعجز المستمر فى الموازنة العامة وشيوع المضاربة والاحتكار، والاستحواذ على أصول القطاع العام بأثمان فاسدة. وقد شد من أزر البورجوازية الشمولية، أن انضم إليها أشباه أفرادها من المهاجرين المصريين فى الولاياتالمتحدة والمملكة العربية السعودية ودول الخليج عموما. وهكذا استولى عدد ضئيل من أدنى شعب مصر، تربية وتعليما وثقافة ووطنية، على ثروتها ودخلها. وقد كانت الطامة الكبرى، عندما استطاع هؤلاء تجنيد ثلة من المثقفين وأساتذة الجامعات، فمهدوا الطريق لهم للاستيلاء على مقدرات البلد السياسية، بعد مقدراته الاقتصادية. (2) وأخطر من كل ما سبق على حاضر البلد ومستقبله، أن النظام الشمولى هو الأرض الخصبة، لاستدعاء وإعادة تجربة الحكم المطلق للملوك والأمراء والأساقفة فى العصور الوسطى عموما، وفى العصور الوسطى لبلد النظام الشمولى خاصة. فالنظام الشمولى السوفييتى، إبان عصر ستالين، طبع، فى قيمه وبنيانه وآلياته، بطابع حكم القياصرة، وفى مصر، تسربت منذ قيام نظام يوليو، قيم عصورها الوسطى، عصور المماليك، شيئا فشيئا، إلى القاعدة الثقافية للنظام الشمولى، فزادت القيم الثقافية لأفراد الطبقة شيئا فشيئا، إلى القاعدة الثقافية للنظام الشمولى، فزادت القيم الثقافية لأفراد الطبقة البيروقراطية والطبقة البورجوازية الشمولية، سوءا. فالقيم المملوكية ليست إلا القيمة الداروينية فى البقاء للأقوى وليس للأصلح، وقيم استخدام الشعب وأمواله كوقود لحرب السلاطين والأمراء، وقيم الفساد والمحسوبية دون أهل الكفاءة والخبرة فى إدارة أموال الشعب وأحواله. لقد أخفت قوى صعود النظام (القوى الخارجية والآلة الإعلامية الجبارة) الأثر الرهيب لقيم العصور الوسطى على التطور المجتمعى. ثم كانت هزيمة يونيه وتحلل النظام الشمولى، وسيطرة البورجوازية الشمولية فى نهاية المطاف، على مقدرات البلد الاقتصادية ثم مقدراته السياسية. ففى العشرين سنة الماضية، استطاع أرباب النظام، من البورجوازية الشمولية، أن يدلفوا إلى قمة السلطة السياسية، فى الحزب والحكومة والمؤسسة التشريعية. وإذ كانت الأرض، أى أرض النظام الشمولى، مهيأة لاستزراع التجربة المملوكية، فقد كان اعتلاء أرباب النظام من الطبقة البورجوازية الشمولية للسلطة، إيذانا ببداية عصر المماليك «البكوات» مرة ثانية، وهو العصر الذى بدأ بفتح العثمانيين لمصر (1517)، وتسليم السلطة كاملة للمماليك، والسماح للبكوات منهم بالاحتفاظ بسلطاتهم المحلية على المديريات (السنجقيات) الاثنتى عشرة. فبالمثل انتهى النظام الشمولى، فى مرحلته الأخيرة، بتقسيم مصر، هذه المرة، رأسيا، وليس أفقيا، ليحتل كل واحد من المماليك «البكوات» الجدد (أرباب النظام من البورجوازية الشمولية) قمة قطاع، ولا أقول إقطاعية، كقطاع المال وقطاع الاقتصاد وقطاع البترول وقطاع قناة السويس وقطاع المدن الجديدة.. إلخ. ولا يشترط أن يرأس القطاع «البك» بشخصه، بل يجوز أن يرأسه، مفوضا منه صراحة أو ضمنا، مملوك من مماليكه. بل ولا يشترط أن يكون «المملوك» أقل من «البك» بروتوكوليا! فهناك «مماليك» من الوزراء أو رءوساء الوزراء، يتبعون بكوات، لا يظهرون على سطح الحدث، الذى يكون غالبا صفقة فاسدة، تقتطع من ثروة البلد ودخله، وتعتصر الفقراء، أى الرعية، فى تعبير ابن خلدون. (3) وقد كان طبيعيا أن ينتج النظام الشمولى الفاسد، واقعا لا يقل فسادا منه. وهكذا انتهى التطور الاقتصادى والسياسى، بعد ما يقرب من ستين عاما، بنزول 42٪ من سكان مصر تحت خط الفقر المطلق (دولار فى اليوم)، أى أن ما يقرب من 35 مليونا من المصريين، يعيشون مستوى بعيدا عن الآدمية. فإذا أضفنا إلى ذلك ما انتهى إليه حال التعليم والصحة، ومرافق البنية الأساسية، والبيئة، استطاع القارئ العادى، أن يدرك الثمن الذى دفعه المواطن، نتيجة للانتقال من نظام ديمقراطى يحبو، إلى نظام شمولى استبدادى فاسد. (4) والآن، أصبح واضحا للعيان وضوح الشمس، أن دعوة الرجل إلى التغيير، ليست إلا المناداة بالبدء فى إرساء قواعد الحكم الرشيد، وهو الحكم الديمقراطى، ليحل الأخير محل حكم المماليك البكوات الجدد، وبذلك يحل القانون محل الاستبداد والقهر والظلم والفقر. فالقانون، فى الدولة الديمقراطية، هو أساس السلطة السياسية، وهو فى الوقت نفسه أداتها فى تنظيم وتسيير مختلف وجوه الحياة فى المجتمع. والقانون، فى الدولة الديمقراطية، لا يصدر ليحقق لحاكم أو طبقة أو فئة أو فرد، ما يريد، ضاربا عرض الحائط بمصالح الشعب ككل، بل هو، أى القانون، لا يصدر إلا لتحقيق المصالح الأخيرة، لا أكثر ولا أقل. فالقانون فى المجتمع الديمقراطى يصدر من ممثلى الشعب فى المؤسسة التشريعية، ليعبروا به عن التوافق المجتمعى حول حل معين لمسألة معينة، وهو التوافق الذى ارتضاه الناخبون فى مجموعهم. وأحدث الأمثلة على ذلك هو التوافق المجتمعى حول قانون الرعاية الصحية الذى أصدره الكونجرس. فإذا صدر القانون، معبرا عن إرادة الشعب، طبق فى المبدأ الديمقراطى على الجميع، حكاما كانوا أو محكومين، وذلك كله تحت رقابة القضاء المستقل الذى يحمى الجميع أيضا من مخالفة القانون، أو تطويعه لمصلحة خاصة، كائنا من كان صاحبها. (5) لقد أصم أرباب النظام وأحزابه السمع، عما يدعو إليه الرجل. لم يستطيعوا طبعا، أن يبادلوه الحجة بالحجة، فاندفعوا إلى طريق السباب والقذف. والرجل، تربية وتعليما وثقافة ووطنية، عف اللسان، فتجاهلهم تجاهلا تاما، واتجه وصحبه إلى الشعب، يبينون له كيف سلبت حقوقه السياسية، وسلبت بالتالى حرياته الشخصية وثروته ودخله. بقى أن يعمق الرجل وصحبه الحوار مع الشعب، ليشرحوا له تفصيلا، أن معالجة كل ما يعانيه الآن، رهن بإقامة دولة القانون. على الرجل وصحبه، أن يشرحوا للشعب، على سبيل المثال لا الحصر، أن ما يسميه النظام الشمولى منذ نشأته، قانون الموازنة العامة، ليس بالقانون الصادر من مؤسسة تشريعية منتخبة لمصلحة الشعب ككل، وليس هو بالموازنة العامة للدولة الحديثة، فهو لا يضم كل إيرادات الدولة ونفقاتها، ويوجد إلى جانبه كثير من الموازنات الإقطاعية (موازنة البترول، وموازنة قناة السويس...... إلخ) تخضع فضلا عما يسمى بالموازنة العامة فى تخصيص إيراداتها، لإرادة المماليك البكوات الجدد ومماليكهم، فى تفضيل الإنفاق الترفى والفاسد، والتضحية بكل أولويات الوطن فى الاستهلاك والاستثمار والإنتاج. على الرجل وصحبه إجمالا أن يسهبوا فى بيان أن غياب القانون، هو السبب فيما يرسف فيه الشعب من أغلال الاستبداد والظلم والفقر، وأن إنشاء دولة القانون هو الحل.