نحن أمة لم نأت من فراغ لنبحث عن الحل عند هذا المفكر أو ذاك، بل نحن أمة عظيمة تلقت النبأ العظيم، كما قال تعالى {(عم يتساءلون عن النبأ العظيم)}. فالقرآن والإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وهوالرحمة للعالمين، وأمته شهيدة على الأمم كل ذلك النبأ العظيم، وما زالت إلى اليوم هي أمة النبأ العظيم حتى في حال ضعفها! لذلك من الأهمية بمكان إعادة إحياء الخطاب القرآني والنبوي والراشدي الذي ساد به العرب المسلمون العالم كله، ثم سادت به كل أمة مسلمة أخذت به بقدر ما أخذت حتى كان الترك والخلافة العثمانية آخر الأمم الإسلامية التي ظهرت على العالم مدة خمسة قرون قدمت فيه للعالم من النظم والقوانين والمعارف والعلوم ما أسهم ويسهم إلى اليوم في الحضارة المعاصرة وفي القوانين والعلاقات الدولية التي ورثها العالم من الخلافة العثمانية وكذا الحريات الدينية وحقوق الأقليات التي لم تعرفها أوربا العنصرية المتطرفة قوميا ودينيا إلا في العصر الحديث! أزمة الأمة اليوم هي أزمة خطاب سياسي فالتطور والتقدم والتنمية في جميع المجالات لا يمكن أن تتحقق في ظل أنظمة حكم، تفتقد كل مقومات وشروط السلطة الناجحة، ويستحيل حدوث تطور أو تنمية في ظل فساد سياسي ومالي وإداري على النحوالذي يعيشه العالم العربي مع وجود كل إمكانات النهضة كالثروة البشرية والمادية والجغرافيا. ولا أدل على ذلك من أن كل شعوب العالم تطورت ونهضت بعد قيام سلطة ذات مشروع سياسي وكفاءة سياسية على اختلاف الأيديولوجيات. فقد كانت روسيا بلدا أوربيا إقطاعيا متخلفا، فما إن جاءت ثورة البلاشفة سنة 1917، حتى غدت روسيا بعد نصف قرن أقوى دولة في العالم وكذا الصين بعد ثورتها وتغير نظامها الإقطاعي الفاسد. ولم يمض على ذلك أقل من نصف قرن حتى صارت من أكثر الدول نموا وتطورا، وكذا إيران بعد الثورة، وتركيا بعد تغير السلطة سلميا ووصول حزب العدالة والتنمية، فقد استطاعت في أقل من عقد من الزمان أن تصبح من أقوى الدول اليوم في الشرق الإسلامي الأوسط اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، وكذا ماليزيا وإندونيسيا في الشرق الأقصى. المقصود أن ملامح الدولة الإسلامية المتقدمة ليست هي المشكلة، فالتقدم الصناعي والتقني وتحقيق التنمية والنهضة يستطيع تحقيقه أي نظام حكم صالح في فترة قصيرة، مهما كانت عقيدته ومذهبه السياسي. وإنما أزمتنا في العالم الإسلامي هوتحديد نظام الحكم الصالح في نظر الإسلام وما هي طبيعته وأصوله وقواعده الذي يعبر عن هويته وخصوصيته ويحل مشكلة الهوية والأزمة التي تعيشها الأمة وتستهلك طاقتها في الصراع الداخلي فإلى اليوم لم تحسم أي دولة عربية وإسلامية مشكلة الهوية والمرجعية وتأمل قول الكاتب فرومكين في كتابه «ولادة الشرق» حيث يقول: «أصبح الشرق الأوسط على ما هو عليه الآن، لأن الدول الأوربية أخذت على عاتقها أن تعيد تشكيله من جهة، ولأن بريطانيا وفرنسا أخفقتا في ضمان استمرار الأسر الحاكمة، والدول والنظم السياسية التي أوجدتاها بعد أن قضتا خلال الحرب العالمية الأولى قضاء مبرما على النظام القديم في المنطقة (أي الخلافة)، وحطمتا الحكم العثماني للشرق الأوسط العربي تحطيما لا خلاص منه، ولكي تأخذ الدولتان مكان النظام القديم أوجدتا بلدانا، وعينتا حكاما، ورسمتا حدودا، وأدخلتا نظما لدول، ولكنهما لم تقضيا على كل معارضة محلية هامة لقراراتهما، ولا تزال إلى يومنا هذا قوى محلية ذات بأس في الشرق الأوسط غير موافقة على هذه الترتيبات، وقد تطيح بها، إن ثمة مطالب هي أكثر صلة بالجوهر، وهذه الخلافات لا تقتصر على الحدود فحسب، بل تطرح أيضا حق الوجود لبلدان انبثقت عن القرارات البريطانية الفرنسية في أوائل العشرينات من القرن العشرين، وهذه الخلافات تذهب إلى غور أعمق، وتبحث مسائل تبدو مستعصية على الحل: هل يستطيع النظام الحديث الذي ابتكرته أوربا ونقلته إلى المنطقة، ومن مميزاته تقسيم الأرض إلى دول علمانية مستقلة أساسها مواطنية قومية؟ إن الأفكار السياسية الأوربية ومنها الحكومة المدنية العلمانية تعد عقيدة غريبة على منطقة أكد معظم سكانها ولمدة تربو على ألف عام إيمانهم بشريعة دينية تحكم كل جوانب الحياة ومنها الحكومة والسياسة. لقد أقر فعلا رجال الدولة الأوربيون في زمن الحرب العالمية الأولى بوجود المشكلة وبأهميتها، فما إن بدأ قادة الحلفاء يخططون لضم الشرق الأوسط إلى دولهم، حتى أدركوا أن سلطة الإسلام على المنطقة هي الخاصية الرئيسة لخريطة سياسية يتحتم عليهم أن يجابهوها، وقد شن كيتشنر في 1914م سياسة هدفها جعل الإسلام تحت سيطرة بريطانيا، فلما ظهر أن هذه السياسة لن تنجح رأى معاونو كيتشنر البديل في رعاية ولاءات أخرى لاتحاد شعوب عربية أو لأسرة الشريف حسين أو لدول كان عليها أن تخرج للوجود كالعراق، وأن تكون هذه الولاءات منافسة للوحدة الإسلامية. والحقيقة أنهم عندما صاغوا تسوية الشرق الأوسط لما بعد الحرب، كان هذا الهدف نصب أعينهم، بيد أن فهم المسئولين الأوربيين في ذلك الحين للإسلام كان ضئيلا، فقد هونوا الأمور باقتناعهم أن المعارضة الإسلامية للعصرنة لإضفاء الصبغة الأوربية كانت في طريقها للتلاشي، إن استمرارية المقاومة المحلية لتسوية عام 1922م وللأفكار الأساسية التي قامت على أساسها، تفسر أنه لا وجود في الشرق الأوسط للإحساس بالشرعية، وليس في المنطقة إيمان يشارك فيه الجميع بأن الكيانات التي تسمي نفسها بلدانا، والرجال الذين يدعون أنهم حكاما لها أولهم حق الاعتراف بهم كبلدان أو كحكام، ولا يمكن القول بأن الذين خلفوا السلاطين العثمانيين قد نصبوا في مناصبهم بصفة دائمة، مع أن هذا ما اعتقد الحلفاء أنهم فاعلوه بين عامي 1919 و1922م». (ولادة الشرق ص 632). ويقول فرومكين أيضا: «إذا استمر زخم التحديات لتسوية 1922م أي لوجود الأردن وإسرائيل والعراق ولبنان، على سبيل المثال، فإننا سنرى يوما ما الشرق الأوسط الذي عرفناه في القرن العشرين في وضع يشبه وضع أوروبا في القرن الخامس الميلادي عندما ألقى انهيار الإمبراطورية الرومانية في الغرب شعوب الإمبراطورية في خضم أزمة حضارية. لقد احتاجت أوروبا إلى ألف وخمسمائة عام لتحل أزمة هويتها الاجتماعية والسياسية بعد زوال الإمبراطورية الرومانية، منها نحو ألف سنة لكي يستقر النظام السياسي على شكل الدولة الأمة، ونحو خمسمائة سنة أخرى لتقرير من هي الأمم التي تملك الحق في أن تشكل دولا، وهل يكون الولاء للسلالات الأسرية، أو للدولة القومية، أو للدولة المدينة؟ لقد تبين أن موضوع أزمة الشرق الأوسط المستمرة في زمننا، هو مثيل موضوع أزمة أوروبا الغربية، وإن لم يكن بنفس العمق وطول الزمن، فكيف تستطيع شعوب متنوعة أن تعيد تجميع نفسها لخلق هويات سياسية جديدة، بعد انهيار نظام إمبراطوري طويل العهد اعتادت عليه؟ لقد اقترحت دول الحلفاء في مطلع العشرينيات من القرن العشرين شكلا للمنطقة بعد زوال الدولة العثمانية، لكن السؤال الذي لا يزال قائما: هل تقبله شعوب المنطقة؟ لذلك فإن تسوية 1922م لا تخص الماضي، بل هي في قلب الحروب والنزاعات والسياسات الراهنة في الشرق الأوسط». فانظروا كيف حدد وشخص هذا الكاتب الغربي مشكلة العالم العربي والإسلامي بفهم دقيق عميق لا يدركه المفكرون والسياسيون الإسلاميون والعلمانيون على حد سواء!! فما حاولت طرحه في كتاب الحرية وكتاب التحرير هو الخطاب الراشدي الذي أراه كافيا في أن يكون هو مشروع المستقبل للأمة والكفيل بتحقيق الحرية والعدالة لشعوبها وحماية هويتها وخصوصيتها وكما في الحديث «تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي»!