يلخص أستاذنا ومفكرنا الكبير المستشار طارق البشري القرنين الماضيين (التاسع عشر والعشرين)، بالنسبة للجماعة الوطنية في مصر وبلاد الشرق الأخرى، بأنهما بامتياز قرنا الاستعمار والكفاح ضد الاستعمار، بمختلف أشكاله واختراقاته ورجاله ومؤسساته. لذلك، كانت البوصلة – في معظم الأحيان– واضحة، وتتجه نحو المهام الرئيسة للجماعة الوطنية: المحافظة على الذات والهوية والتصدي للاختراق وإنجاز الاستقلال. تعاني منطقتنا من هشاشة استراتيجية وقابلية للاختراق، كونها تقع في ما يسمى "هلال الأرض الداخلي" بتعبير أستاذ الجيوبولوتيك البريطاني ماكيندر، أو "هلال الأزمات" بتعبير زبيغنيو بريجنسكي، أو "منطقة الارتطام" بتعبير المفكر الكبير الراحل جمال حمدان، بين القوى المتصارعة للسيطرة على منطقتنا التي هي سُرّة الأرض، بموقعها الاستراتيجي الفريد ومواردها الهامة وأسواقها الضخمة ومكانتها الرمزية في الميراث الحضاري الإنساني. ووقوعنا في جوار القوى الأوروبية الغازية – خاصة القوى البحرية منها– يفاقم هشاشة المنطقة استراتيجيا، كما فاقم مخاطر وقوعها تحت هيمنة الامبراطوريات الأوروبية، منذ إمبراطورية الرومان وصولاً إلى إمبراطوريات الأنغلوسكسون البريطانية ثم الأميركية. استفحل التدخل الامبريالي الغربي في شؤون المشرق العربي الإسلامي منذ بدايات القرن التاسع عشر وحال دون اكتمال مشروع النهضة، سواءاً في مصر (تجربة محمد علي باشا)، أو في تركيا (تنظيمات السلطان محمود الثاني وولديه السلطان عبدالمجيد والسلطان عبدالعزيز). وأخذ التدخل والاختراق أبعاداً عسكرية مباشرة كما هو الأمر في مصر ضد محمد علي باشا أو مؤامرات وتجسس ودسائس واغتيالات كما حدث مع السلطان عبد العزيز والسلطان مراد الخامس والسلطان عبدالحميد الثاني. كما اتخذ عداءاً صريحاً تعبر عنه مواقف وسياسات الدولة العظمى الأكثر سيطرة في وقتها (بريطانيا) التي لم تتوان عن تجنيد وتعبئة كافة القوى والإمكانات والقوميات والجواسيس والمرتزقة للإطاحة بالسلاطين الذين كانوا يحاولون إحداث فجوة في طوق الحصار والهيمنة كتلك الفجوة التي أحدثتها اليابان بعد المشروع النهضوي المصري والعثماني بعقود، وتمكنت بذلك من الإفلات من السيطرة الغربية، وبناء مشروعها وامبراطوريتها الحديثة. هناك إذن مسألة هامة تطرح نفسها على الفكر العربي وفي نفس السياق أعلاه: كيف يمكن لمشروع النهوض العربي الإسلامي أن يحقق أهدافه المشروعة في البناء الديمقراطي وتمكين الأمة وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية وشرعية التمثيل بدون أن يؤدي ذلك إلى بنية فكرية سائلة، وقيادة سياسية هشة، ومركز قرار يتسم بالرخاوة وافتقاد الصلابة إزاء التحديات الخارجية والاختراقات الامبريالية؟ بكلمات أخرى: كيف يمكن تحقيق التوازن الاستراتيجي بين الداخل والخارج، بما يضمن استقلال العملية السياسية والديمقراطية والانتخابية عن نطاق الهيمنة الامبريالية، وتدخلاتها الاستخباراتية والمالية، واختراقاتها الأمنية، واحتكاراتها الاقتصادية؟ أي كيف يمكن للعملية الديمقراطية أن تصبح مصدراً لقوة الأمة ومنعتها واستقلالها وليس حصان طروادة الذي تتسلل منه الامبريالية (عبر التمويل السياسي ونشر منظمات تابعة لها وتكوين رأسمالية طفيلية ملتحقة باقتصاد السوق والمركز الغربي) بدعوى المحافظة على الحريات وحقوق الإنسان؟ كيف يمكن التأكد أن هذه الانتخابات النيابية أو الرئاسية أو المحلية لا تشترى بثمن بخس، أو بابتزاز الجماهير وتهديدها بالحصار والمقاطعة الاقتصادية والعقوبات الدولية، الأمر الذي يقوض كل مقاصدها من مشاركة سياسية وشرعية تمثيل ورقابة على أداء الدولة وثروات الأمة ومواردها ومصالحها الاستراتيجية؟ هذه هي الأسئلة التي لا بد من الإجابة عليها قبل الوصول إلى صيغة واقعية للعملية والمثال الديمقراطي، وهذا هو المأزق الذي يجب على حركة الإصلاح والانفتاح السياسي الخروج منه؛ آخذة بالاعتبار الحركة التاريخية العامة، والظروف الجيوسياسية المحيطة بالعالم العربي والإسلامي والتي تمنحه معظم خصائصه الوسطية الإيجابية، كما تمنحه المخاطر والهشاشة الاستراتيجية والصعوبات التاريخية، والتي تجعل من النهوض به والمحافظة عليه مسألة في غاية الأهمية وتستقطب الكثير من الفكر والعمل والرؤية الكاشفة المستنيرة.