كلما اقتربنا من انتخابات الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، لاحت في مخيلة الأميركيين اشباح «الفاكهة الغريبة»؛ أغنية بيلي هوليداي، أسطورة الجاز السوداء، التي تصف معاناة أبناء قومها حين كانوا يشنقون وتعلق أجسادهم على أشجار الحور في الجنوب الأميركي وقد أصبحت نشيداً قومياً ورسالة انسانية ضد الظلم والعنصرية، هذا في بداية القرن الماضي. وفي 2008 خلال مؤتمر للجمهوريين ما إن تلفظ الخطيب باسم باراك حسين أوباما حتى تعالت الصيحات «اقتلوه.. اقتلوه». المرشح الجمهوري جون ماكين قال إثر مناظرة تلفزيونية مع أوباما «سوف أرفس... تعرفون ماذا؟».. ولا تشذ سارة بالين عنه حين تصرح «هو ليس منا». هذه المشاعر والأجواء المسيطرة على حملات الحزب الجمهوري ضمن مساعي وصول مرشحه إلى البيت الأبيض دفعت سيناتور جورجيا وأحد زعماء حركة الحقوق المدنية الأميركية جون لويس إلى إجراء مقارنة بين حملتهم وبين مشاعر التفرقة العنصرية التي رافقت حملة حاكم ولاية ألاباما جورج والاس في الستينات: «في فترة سابقة، ليست بالبعيدة، كان هناك حاكم لولاية ألاباما يدعى جورج والاس الذي أصبح بدوره مرشحاً للرئاسة. جورج والاس لم يرم قنبلة ولم يطلق رصاصة، لكنه خلق مناخاً وظروفاً شجعت على قيام هجمات أثيمة ضد الأميركيين الأبرياء الذين كانوا يمارسون ببساطة حقوقهم الدستورية..». باختصار، «هناك ألف سبب للتصويت لأوباما وسبب وحيد للتصويت ضده: اللون». يقول النائب في الكونغرس توماس لستون: العامل العنصري قد يلعب دوراً في التأثير على 10% من أصوات الناخبين في الدقيقة الاخيرة ولكن من الصعب تقويم أهميته الفعلية ونتائجه قبل 4 تشرين الثاني/ نوفمبر. بالنسبة لأفريقيا كما لبقية العالم يكتسب هذا الحدث اهمية استثنائية. ألف سبب إذاً للتصويت لأوباما، واولها أن الولاياتالمتحدة عرفت مع جورج بوش اسوأ رئاسة منذ عقود. اثناء المؤتمر الجمهوري الذي عقد في سان بول لم يتجرأ احد على الدفاع عن عهده سوى.. زوجته لورا، ونادراً كانت الاجواء بهذه العدائية تجاه الحزب الجمهوري. فبالرغم من تحييد جون ماكين نفسه عن «بلية» بوش واصراره في كل خطبه على ضرورة الاصلاح فإن «تركة» الرئيس الحالي لا تعمل لصالحه البتة. \r\n \r\n \r\n \r\n لا أفكار ولا خطط \r\n \r\n كيف يمكن لمرشح لا يملك اي استراتيجية للخروج من الازمة العراقية أن يدّعي بقدرته على ترميم صورة وهيبة ومصداقية بلاده في العالم؟ كيف يمكنه، من دون خطة أو افكار أن يواجه 11 أيلول/ سبتمبر اقتصادياً ضرب وول ستريت وهز الاوساط المالية؟ وكيف، بالاخص، أمكنه اختيار امرأة كسارة بالين نائبة للرئيس وهو في الثانية والسبعين من عمره ويعاني امراضاً.. إذا لم يكن اختيارها مجرد تهور انتخابي؟ لا مجال للمقارنة بين سارة بالين وبين جو بيدن نائب الرئيس للمرشح الديموقراطي ولا اي نقطة التقاء في الحملة والطباع والاهلية المفترضة للحكم، بمعنى آخر بين ذكاء جون ماكين وباراك أوباما. بقدر ما ظهر الأول محرضاً، لجوجاً، مجازفاً ومستعداً للمغامرات غير المحسوبة لدرجة اللامسؤولية، ظهر الثاني هادئاً وصبوراً يملك من الحصافة وحس التنظيم ما يؤهله لتبؤ سدة الرئاسة. بمواجهة خصم فظ يفهم التواصل وكأنه حلبة صراع، ظهر أوباما كأفضل خطيب عرفته أميركا منذ جون كينيدي، والكاتب الوحيد بين المرشحين (أصدر كتابين) منذ تيودور روزفلت. إذا كان ماكين، محارب الفييتنام واروقة الكابيتول يردد باستمرار أن أوباما هو الاقل خبرة بين كل مرشحي الرئاسة الأميركية منذ قرن، فلأن منافسه امتحن بتجارب اخرى أصعب من تجاربه هو في الولاياتالمتحدة في القرن الواحد والعشرين. تجارب شخصية، روحية، عنصرية، سياسية؛ من هاواي إلى شيكاغو، ومن نيويورك إلى جاكرتا، ومن كنساس إلى كينيا، ومنها استقى العبر وجمعها في افضل كتبه «احلام والدي» الصادر عام 1995 وكان لا يزال في الرابعة والثلاثين من عمره. ألف سبب للتصويت لأوباما اذاً وسبب وحيد للاقتراع لماكين. ففي بلد 75% من سكانه من البيض لا يمكن أن يكون انتخاب رجل أسود للمرة الأولى (بنظر الأميركيين من السود والبيض؛ الخلاسي هو أسود) وبطبيعة الحال سيدة أولى سوداء، عملاً بريئاً. بحسب الاستطلاعات 40% من البيض ينظرون إلى الأميركيين الافارقة نظرة سلبية، 29% منهم يصفونهم بال«نوّاحين» و20% «عنيفين» و15% «كسالى» وأكثر من النصف اكدوا انهم يجهلون ديانة أوباما الحقيقية وما إذا كان مسيحياً ام مسلماً. حتماً، كان الوضع ليكون اسوأ لو كانت والدة أوباما هي الاخرى سوداء أو فيما لو كان متزوجاً من سيدة بيضاء.. خرقاً مزدوجاً بالنسبة للبيض والسود. غير أن الارضية جاهزة بالنسبة للجمهوريين، محرضة وعدائية وقادرة على تعديل ردة الفعل الاخيرة داخل العازل. وسط هذه الاجواء السامة يعمد فريق الجمهوريين إلى ايقاظ المخاوف القديمة ويعلق عليها آخر آماله بالانتصار، وقد ركز هجومه في بداية الحملة وحتى منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي على علاقات أوباما الماضية. \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n \r\n مرشد روحي.. جهنمي \r\n \r\n أولاً علاقاته الروحية بالقس جيريمايا رايت الذي تقاعد حديثاً ولكن ليس قبل أن يفجر قنبلة دينية وسياسية في خضم الحملة الانتخابية الأميركية وكان مسؤولاً حتى شباط/ فبراير الماضي عن الكنيسة البروتستانتية السوداء التي ينتمي اليها باراك أوباما منذ عشرين عاماً وهو الذي زوَّجه وعمَّد ابنتيه، لكنه في لحظة هذيان اطلق تصريحات معادية لأميركا وذهب إلى حد اتهام الحكومة الأميركية بنشر مرض الايدز للقضاء على السود الأميركيين «سلالة العبيد» (يوافقه في نظريته هذه العقيد معمر القذافي)، بالنسبة اليه «المسيح كان رجلاً فقيراً أسود في بلد يسيطر عليه البيض». تصريحاته وإن اعتبرها العديد من الأميركيين كلاماً أخرق ومتهوراً، إلا أنها كشفت حجم الهوة التي تفصل بين السود والبيض وأحرجت المرشح الديموقراطي الذي لم «يجد اعذاراً» للتصريحات المشينة التي أدلى بها القس رايت. علاقاته الادبية بالكتّاب الذين طبعوا شخصيته، ريتشارد رايت ودوبوا وجايمس بالدوين ورالف اليسون.. كلهم من السود وكلهم مقاتلون. علاقاته الفكرية واعجابه بمالكولم اكس رمز الكفاح الأسود ضدّ العنصريّة البيضاء والأكثر صراحة وجرأة من بين زعماء القوّة السوداء، إضافة إلى علاقته وتعاونه في نهاية التسعينات مع مجلة «المعلق الاسود» الراديكالية الصادرة في نيوجرسي. وأخيراً، علاقاته بفريق يضم مناضلين من اليسار المتطرف يلتقون مع ناشطي (كودبنك) الرمز الزهري، وهي جمعية نسائية مناهضة للحرب على العراق، ومؤيدي التعويضات عن الأذى الذي لحق بالسود في مرحلة العبودية. هذه الحملة المسعورة تكثفت بإصدار الصحافي المحافظ دايفيد فريدوسو كتيباً منذ شهرين تم توزيعه على نطاق واسع تحت عنوان «قضية ضد باراك أوباما: الصعود غير المرتقب والبرنامج المبهم للمرشح المفضل لدى الاعلام» بعث المخاوف الأميركية التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين عندما كان الأسود يشكل الخطر الداخلي على الابيض. برأي فريدوسو فإن الطفل المدلل للاعلام الداعي إلى الوحدة والأمل هو في الواقع عقائدي على ارتباط وثيق بالحركات الراديكالية التي نشطت في الستينات. لكن اللهجة تغيرت في الاسابيع الاخيرة وتلطفت في مواجهة الاتهامات بالعنصرية المقنعة التي راحت تستفحل اكثر فأكثر. لم يعد أوباما يقدم في خطاب الجمهوريين على أنه مناهض للبيض على غرار جيسي جاكسون أو آل شاربتون وانما كمناهض للأميركيين؛ «أخشى الا يكون ينظر إلى أميركا كما ننظر اليها نحن الأميركيين»، تقول بالين ويستنفر ماكين متسائلاً «من هو أوباما الحقيقي؟». المناورة سهلة: كل ما يمكن أن يحمل الليبراليين الأميركيين وسائر العالم على تأييد المرشح الديموقراطي والاقتراع له يجب أن يستغل ضده. التنوع والتسامح والانفتاح والتعددية الثقافية بقدر ما هي مزايا لباراك أوباما يمكن أن تصبح في «أميركا» المسكونة بهاجس الخوف من المهاجرين وبمنافسة القارات الصاعدة عوائق ضده. إلى حد ما، صار أوباما بسيرته ونشأته تجسيداً فعلياً لعولمة وشمولية القيم وتجسيداً أيضاً لأميركا المتحولة «سمراء» اكثر فأكثر. ابداً! يعلق اولئك الذين يرون في هذه «الكوزموبوليتية» بمعناها النبيل الغاءً للثقافة والقيم التقليدية ( أي البيضاء) للولايات المتحدة. حتى الساعة تعامل أوباما ببرودة لافتة في مواجهة هذا الهجوم واستحالة القيام بهجوم مضاد في الميدان نفسه مخافة الوقوع في فخ الجدل العنصري وهذا بالضبط ما يحتاجه ليتجاوز الاسود والابيض ويصبح ابعد من مسألة العرق واللون من دون أن يعني ذلك أن يكون شفافاً. إذا كانت الراديكالية شكلت في مرحلة ما جزءاً من تكوينه، الا أنه تجاوزها كلياً وحيَّد نفسه من دون أن يتنكر لبعض مناصريه ممن يعتبرونه ايقونة لنضال السود ولمن - من مادونا إلى باف دادي مروراً بمجموعات الراب - يسيئون اليه اكثر مما يخدمونه. قطعاً هناك ألف سبب للتصويت لباراك أوباما. ألف ناقص واحد كما رأينا وربما يكونون ألف سبب و.. سبب. الازمة الاقتصادية الكبرى قد تصبح عاملاً استثنائياً في فوز المرشح الديموقراطي حيث يقال إنه الوحيد القادر على نزع الطابع العنصري عنها. في بداية الستينات توقع روبرت كينيدي «انه سيكون لأميركا رئيس أسود بعد أربعين عاماً» واستطلاعات الرأي تؤكد أن هذه النبوءة ما كانت يوماً قريبة من الواقع كما هي الآن والولاياتالمتحدة تقترب من المصالحة مع بقية العالم، هذا يعني في المحصلة أن فرصة كهذه لن تتكرر قبل وقت طويل. \r\n فرنسوا سودان \r\n «جون أفريك» \r\n \r\n \r\n