\r\n فشل الحرب على العراق ونهاية القومية العلمانية العربية وارتفاع أسعار النفط والغاز، كلها عوامل أحدثت تغييراً هائلاً في المنطقة وأطلقت تشكيل شرق أوسط جديداً من دمشق إلى دبي ومن تل أبيب إلى طهران. قام الشرق الأوسط القديم على حدود وكيانات سياسية أنشأتها القوى الأوروبية بعد انهيار الأمبراطورية العثمانية في 1918، وسيّج بقومية علمانية استلهمت التجربة الأوروبية وهدفت إلى التحديث السياسي والاجتماعي. وبلغت هذه الحركة «الاشتراكية العربية» ذروتها أثناء الحرب الباردة عندما كانت تعتمد على مساعدات الاتحاد السوفياتي العسكرية والسياسية والاقتصادية. انهيار الاتحاد السوفياتي عجّل في القضاء على هذه القومية، واستمرت المنطقة ترزح تحت حكم الديكتاتوريات العسكرية الفاسدة. كما أنه أطلق أزمات عسكرية خطيرة في كثير من الدول العربية لأن الأنظمة القومية لم يكن بمقدورها تحديث جيوشها من دون دعم الاتحاد السوفياتي العسكري. شيئاً فشيئاً، فقدت الأنظمة القومية شرعيتها بنظر شعوبها، ما أحدث فراغاً، عبأه لاعبون غير حكوميين. الروابط الأيديولوجية وإعادة تقسيم السلطة تبدلت هي أيضاً، وحلّ الإسلام السياسي مكان العلمنة نافذاً بمهارة إلى المسائل الاجتماعية وإلى استنهاض الشعور القومي المعادي للغرب. راهناً، لا تزال سورية، مصر، اليمن، تونس، الجزائر والأراضي الفلسطينية التي تسيطر عليها فتح تجسّد الشرق الأوسط القديم. دبي، الإمارات العربية، إسرائىل وحتى حزب الله وحماس والإرهابيون الجهاديون، إضافة إلى إيران والمملكة العربية السعودية ولو جزئياً على الأقل تشكل الشرق الأوسط الجديد، ويحاول الأردن والمغرب الانضمام إليه. يتبين من خلال هذه النماذج بصورة واضحة أن «الجديد» ليس بالضرورة «الأفضل» وإنما مختلف وحديث. والحداثة لا تنطوي البتة على حلول للصراعات التي تجتاح المنطقة، صراعات هي أيضاً «حديثة» ما يجعلها أكثر خطورة من صراعات الماضي. شكلت حرب لبنان 2006 بين إسرائيل وحزب الله مشهداً من هذه الحداثة حين عجزت القرارات أمام الصواريخ وقذائف الكاتيوشيا. بموازاة ذلك، حل لاعبون غير حكوميين كحزب الله وحركة حماس وتنظيم القاعدة مكان الجيوش التقليدية والهجمات الانتحارية (بواسطة سيارات مفخخة وبأحزمة ناسفة) مكان المتمردين وأسلحتهم الرشاشة. لكن العنصر الأهم كان انتقال مركز الجاذبية السياسي والعسكري في المنطقة. بعدما كانت إسرائيل وفلسطين ولبنان هي أبرز النقاط الساخنة في الشرق الأوسط القديم أصبح الصراع على السلطة، بعد الحرب على العراق، يدور في منطقة الخليج الفارسي (هكذا في المقال) ملعب الرهانات السياسية الجديدة. لم يعد الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني هو العامل الرئيسي للأزمة، ولكن خطر المواجهة بين إيران والمملكة العربية السعودية للهيمنة على المنطقة وبين إيران والولايات المتحدة للسيطرة الإقليمية. بطبيعة الحال، أصبح حلّ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني شبه مستحيل بدون إيران وحلفائها المحليين، حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين. بمعنى ما، شكلت الحرب على العراق جسراً استراتيجياً وعسكرياً بين الشرق الأوسط القديم والجديد. وترجم التدخل الأميركي في المنطقة بأربعة تغييرات بالغة الأهمية: - وصلت إيران إلى موقع استراتيجي لم تستطع بلوغه بنفسها. - نشر الديموقراطية في العراق أوصل الغالبية الشيعية إلى السلطة، وعزّز النفوذ الإيراني بشكل كبير. كما ساهمت الحرب على العراق بنقل وتوسّع الصراع القديم بين السنة والشيعة إلى كل المنطقة مضيفة إليه تفسيراً جيوسياسياً حديثاً. - تصاعد النفوذ الإيراني يشكل تهديداً وجودياً للمملكة العربية السعودية لأن جارها (النفطي) في الشمال الغربي شيعي بغالبيته، في المدى المنظور سوف تهدد حكومة شيعية عراقية بتوجيه إيراني تمامية الأراضي (سلامتها وعدم الاجتزاء منها) السعودية وهو سيناريو لا تقبل به ولا تريده. - إن إيران كقوة نووية تؤجج مخاوف السعوديين على وجودهم، وبما أن التسلح التقليدي في دول الشرق الأوسط يفقد الكثير من قيمته، فإن السباق للتسلح النووي سينطلق في المنطقة كلها. يهدد هذا الوضع الجديد بتفكيك كل النظام «المؤسساتي» الذي أقامه البريطانيون والفرنسيون في الشرق الأوسط. والمرشح الأول هو العراق طبعاً. إحدى المسائل الرئيسية في الشرق الأوسط الجديد هي معرفة ما إذا كانت وحدة العراق ستصمد أمام النزاعات الدينية والإتنية بين الأكراد والعرب وبين السنة والشيعة. لأن تفكك العراق سيكون كبقعة الزيت وسيتسبّب ببلقنة المنطقة بأكملها. مسألة مهمة أخرى: هل سيتطور الإسلام السياسي نحو الديموقراطية والحداثة أم سيظلّ رهينة الراديكالية واستحضار الماضي؟ حتى الآن، الجبهة الأمامية لهذه المعرفة ليست في الشرق الأوسط وإنما في تركيا، لكن تداعياتها ستتخطى هذه الدولة. يشكل بزوغ شرق أوسط جديد فرصة لقيام نظام إقليمي يعكس المصالح المحقة لكل اللاعبين، يرسم حدوداً آمنة ويستبدل الأطماع التوسيعة بالشفافية والتعاون. إذا لم تسر الأمور بهذا الاتجاه سيكون الشرق الأوسط الجديد أشدّ خطورة من سابقه. \r\n \r\n يوشكا فيشر وزير خارجية ونائب المستشار الألماني بين 1998 و2005. عن صحيفة «لو فيغارو» \r\n \r\n \r\n