فنحن, مثل اتشيسون ومعاصريه, نعيش في زمن استثنائي, زمن تتحرك فيه ارضية السياسة الدولية تحت اقدامنا وتسبق فيه خطى التغيير التاريخي اسرع المخيلات. ان صورة سلفي تذكرني بان الدبلوماسية التقليدية القائمة على ادارة الازمات لا تكفي في زمن التغيرات غير المسبوقة. اذ ان علينا, بدلا منها, ان نتخطى مذاهب الماضي وجدله ونغير الاوضاع القائمة المتفجرة التي لم تعد تخدم مصالحنا. ان ما نحتاجه هو تعامل واقعي مع عالم متغير. \r\n حدد الرئىس بوش الرؤية اللازمة في الخطاب الذي افتتح به فترة ولايته الثانية حين قال:»ان سياسة الولاياتالمتحدة هي البحث عن الحركات والمؤسسات الديمقراطية في كل الدول والثقافات ودعمها بهدف الوصول الى غاية نهائية هي انهاء الطغيان في عالمنا«. لا شك بان هذا هو منهج عمل جريء, لكنه منسجم مع التقاليد الفخورة للسياسة الخارجية الامريكية وبالاخص تلك التي انتهجها رؤساء قريبو العهد مثل هاري ترومان ورونالد ريغان. وكما كان الحال مع السياسات الطموحة لترومان وريغان, فان سياستنا سوف تنجح ليس لانها متفائلة ومثالية فحسب بل لانها, ايضا, قائمة على المنطق الاستراتيجي السليم والفهم الصائب للحقائق الجديدة التي تواجهنا. \r\n ان سياستنا تدرك اليوم ان قرونا من السابقات والممارسات الدولية قد انقلبت خلال السنوات ال ̄ 15 الماضية. لننظر في المثال التالي: فلاول مرة منذ سلام ويستفاليا عام 1648 تبدو احتمالات النزاع العنيف بين الدول الكبرى امرا مستبعدا كما هي عليه الان. فالدول الرئىسية باتت تتنافس في السلام ولا تتهيأ للحرب. ولغرض دفع هذا التوجه المهم الى امام, تقوم الولاياتالمتحدة بتغيير طبيعة شراكتنا مع دول مثل اليابان وروسيا, والاتحاد الاوروبي, ومع الصين والهند على وجه الخصوص. اننا نبني معا صيغة من الاستقرار العالمي اكثر دواما وصلابة: توازنا للقوى لصالح الحرية. \r\n هذا التغير غير المسبوق قوى وعزز تغيرات اخرى. استند نظام الدولة الحديثة منذ قيامه قبل 350 عاما على مفهوم السيادة. كان المفترض ان تكون الدول هي اللاعب الدولي الرئيسي وان تكون كل دولة قادرة ومستعدة لمواجهة التهديدات النابعة من ارضها. اما اليوم, فقد شهدنا كيف ان مثل هذه المفترضات لم تعد تجدي, ونتيجة لذلك صارت الديناميات القائمة ضمن الدول الفاشلة والضعيفة هي التي تشكل اعظم التهديد لامننا وليس الحدود القائمة بين الدول القوية والعدائىة. \r\n ان مشكلة الدول الفاشلة والضعيفة ليست بالجديدة, لكن الخطر الذي تفرضه اليوم لم يكن له مثيل في السابق. فعندما يعبر الناس والبضائع والمعلومات العالم بالسرعة التي نعرفها اليوم فان التهديدات عبر الدولية مثل الامراض والارهاب يمكن ان تنزل اضرارا توازي ما تنزله جيوش الدول الوطنية فاذا ما غابت السلطة المسؤولة للدول, فان الاخطار التي يجب ان تحتوي ضمن حدود دولة ما يمكن ان تنتشر الان في انحاء العالم وتسبب اضرارا جسيمة. تعمل الدول الفاشلة والضعيفة عمل الممرات التي تسهل انتشار الاخطار, وحركة المجرمين والارهابيين, وانتشار اخطر انواع الاسلحة. \r\n ان تجربتنا في هذا العالم الجديد تقودنا الى الاستنتاج بان الطبيعة الاساسية للدول اكثر اهمية اليوم من التوزيع الدولي للقوة. والاصرار على خلاف ذلك يفتقر الى الحكمة والعملية. ان هدف سياستنا هو المساعدة في اقامة عالم من الدول الديمقراطية ذات الحكومات الجيدة القادرة على مواجهة احتياجات مواطنيها والتصرف بمسؤولية داخل النظام الدولي. ان محاولة رسم الخطوط الواضحة والفاصلة ما بين مصالحنا الامنية ومثلنا الديمقراطية لا تعكس حقائق عالم اليوم. اذ ان دعم نمو المؤسسات الديمقراطية في جميع الدول ليس مجرد شطحة اخلاقية من شطحات الخيال, انما هو الرد الواقعي الوحيد على التحديات الراهنة التي تواجهنا. \r\n لكن المشاكل الناجمة عن طبيعة الانظمة في احدى مناطق العالم اشد الحاحا منها في اية منطقة اخرى. ان »نقص الحرية« في الشرق الاوسط الكبير يوفر الارض الخصبة لنمو ايديولوجية للكراهية بلغت من الخبث والشر حد دفع الاشخاص الى التحزم بالقنابل الانتحارية واختراق المباني بالطائرات. عندما لا يتمكن مواطنو هذه المنطقة من تحقيق مصالحهم ومعالجة همومهم من خلال عملية سياسية مفتوحة, فانهم ينسحبون يائسين الى الظل لكي يتحولوا الى ضحايا لرجال اشرار يحملون مخططات عنيفة. ان من غير المجدي في هذه المجتمعات تشجيع الاصلاح الاقتصادي وحده وانتظار ان يعالج نقص الحرية نفسه بنفسه بمرور الوقت. \r\n ان كون الشرق الاوسط الكبير لا يملك تاريخا من الديمقراطية لا يصلح مبررا للامتناع عن عمل شيء ما. فلو تحتم ان تكون هناك سابقة لكل عمل, لما كانت هناك بدايات. اننا مطمئنون الى نجاح الديمقراطية في هذه المنطقة ليس انطلاقا من ثقتنا بمبادئنا فحسب انما لان التوق الانساني الجوهري الى الحرية والحقوق الديمقراطية قد غير عالمنا. لقد كان المشككون الدوغماتيون في يوم من الايام متأكدين من ان »القيم الاسيوية« او »الثقافة اللاتينية« او »الطغيان السلافي« او »القبلية الافريقية« سوف تجعل الديمقراطية مستحيلة. لكنهم كانوا مخطئين. وعلى سياستنا الان ان تسترشد بالحقيقة القاطعة التي تفيد بان الديمقراطية هي الضمانة الوحيدة للسلام الدائم والامن ما بين الدول لانها الضمانة الوحيدة للحرية والعدالة داخل الدول. \r\n ان سياستنا تدرك ضمنا حدود نفوذنا والاسباب الداعية لتواضعنا. فعلى العكس من الطغيان, لا يمكن للديمقراطية ان تفرض على الاخرين. على المواطنين المقتنعين بها ان يختاروها, وليس في دورة انتخابية واحدة فالديمقراطية عملية يومية لبناء مؤسسات الديمقراطية مثل حكم القانون, والقضاء المستقل, والصحافة الحرة, وحقوق الملكية وغيرها. ليس بوسع الولاياتالمتحدة ان تصنّع هذه المحصلات, لكن بوسعنا ومن واجبنا خلق الفرص امام الافراد لكي يتولوا المسؤولية عن حياتهم وشعوبهم. ان نفوذنا يحصل على شرعيته الكبرى عندما نساند الحق الطبيعي لكل الشعوب, حتى الذين يختلفون معنا, في حكم نفسها بحرية. \r\n ان السياسة التي تجد امريكا نفسها مدعوة لممارستها في عالم اليوم هي سياسة طموحة وثورية لكنها ليست متهورة. ان المزاج المحافظ سوف يشكك عن حق باية سياسة تتبنى التغيير وتفرض الوضع القائم. لكننا لسنا بصدد نكران مزايا مثل هذه السياسة. لقد قال ترومان مرة:»ان العالم ليس جامدا, والوضع القائم ليس مقدسا« في ازمنة التغيير الاستثنائي مثل زماننا, عندما تزيد كلفة اللافعل على مجازفات الفعل, لا يصبح اللافعل خيارا واردا. فاذا كان للمدرسة الفكرية التي تدعو نفسها ب ̄»الواقعية« ان تكون واقعية حقا, فان عليها ان تدرك ان الاستقرار من دون ديمقراطية سيكون استقرارا زائفا وان الخوف من التغيير لا يصلح وصفة للسياسة. \r\n من ذا الذي يعتقد, بعد هجمات 11 ايلول ,2001 بان الوضع القائم في الشرق الاوسط كان مستقرا ونافعا وجديرا بالدفاع عنه? وكيف يمكن ان يكون من الحكمة المحافظة على الاوضاع القائمة في منطقة تعمل كحاضنة للارهاب ومصدرة له, حيث يسير انتشار الاسلحة المميتة الى الاسوأ وليس الى الاحسن, وحيث تقوم الانظمة التسلطية باسقاط اخفاقاتها على شعوب واشخاص ابرياء, وحيث يعاني لبنان من وطأة الاحتلال السوري, وحيث تعنى السلطة الفلسطينية الفاسدة ببقائها اكثر مما تعنى بتطلعات شعبها, وحيث ينطلق طاغية مثل صدام حسين حرا في ذبح مواطنيه, والاخلال باستقرار جيرانه وتقويض الامل باحلال السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين, انه لوهم محض الافتراض بان الشرق الاوسط كان ورديا مثل ان تزعزع امريكا استقراره المزعوم. \r\n ما عليك الا ان تنظر في كل ما كنا سنفقده خلال عام واحد فقط لو اننا آمنا بذلك ولم نفعل شيئا: لبنان حر من الاحتلال الاجنبي وماض في تحقيق الاصلاح الديمقراطي. سلطة فلسطينية جديدة يديرها زعيم منتخب يدعو صراحة الى السلام مع اسرائيل. تعديل دستوري في مصر يسمح باجراء انتخابات تعددية, كويت تتمتع فيها النساء بحق المواطنة الكاملة. وبالطبع, عراق استطاع بمواجهة تمرد مروع ان يجري انتخابات تاريخية وان يقر ميثاقا وطنيا, وان يتوجه الى صناديق الاقتراع في الايام الراهنة لينتخب حكومة دستورية جديدة. \r\n كان مثل هذا التقدم غير المسبوق يبدو مستحيلا في مثل هذا الوقت من السنة. وسيأتي يوم يبدو فيه كل هذا امرا محتوما. تلك هي طبيعة الازمنة الاستثنائية التي ادركها اتشيسون جيدا ووصفها على افضل نحو في مذكراته. »كان الغموض يكتنف اهمية الاحداث. كنا نفتش عن تفسيراتها, وترددنا طويلا قبل ادراك ما اصبح الان يبدو واضحا«. عندما غادر اتشيسون مكتبه عام ,1953 لم يكن بمقدوره ان يعرف مصير السياسات التي ساهم في صياغتها. لم يكن بوسعه, بالتأكيد, ان يتنبأ بان الحرب بين القوى الاوروبية الكبرى ستصبح غير واردة بعد حوالي اربعة عقود, وان امريكا والعالم سيحصدون ثمار قراراته الصائبة ويحققون انهيار الشيوعية. ان الوعد بالسلام الديمقراطي قد تحول الى حقيقة في عموم اوروبا والجزء الاعظم من اسيا لان زعماء مثل اتشيسون تولوا قيادة السياسة الامريكية تبعا لمبادئنا في غياب سابقات الفعل, ولانهم تعاملوا مع عالمهم كما هو لكنهم لم يؤمنوا ابدا بانهم لا يملكون القوة اللازمة لتغييره نحو الافضل. \r\n عندما سأمر بصورة اتشيسون وانا خارجة من مكتبي للمرة الاخيرة, لن يكون بمقدور احد ان يعرف كامل مدى الانجاز الذي حققته سياستنا. لكن لدي ثقة كاملة باننا سنكون قد وضعنا الاساس الصلد للمبدأ -وهو اساس الاساس الذي ستحقق عليه الاجيال القادمة رؤية دولتنا لعالم حر وديمقراطي ومسالم.0