\r\n ولقد كسبت القوى الرأسمالية على صعيد المفاهيم الاستراتيجية والاقتصادية، فضلاً عن تمكنها من فرض رسالتها القائلة بأن الرأسمالية تعادل الحرية، وعلى الرغم من انها كانت ضعيفة ومهددة بعد الأزمة الكبيرة، التي امتدت من عام 1929 ومن ثم 1932 الى الحرب العالمية الثانية، إلا ان الرأسمالية استعادت قواها، ولم تتوقف عن توطيد تأثيرها العالمي منذ خمسينيات القرن الماضي. \r\n \r\n وقامت الرأسمالية بذلك على نحو لم يعد معه ثمة مشروع بديل قابل للتصديق، حيث تسود الاختلافات العميقة والمعرقلة للتصحيحات المحتملة أو الانعطافات المرغوبة وحيث يستولى اليأس على حركة الاشتراكية الديمقراطية وعلى القوى التقدمية عموماً، وفي نهاية المطاف لا احد يفهم شيئاً، فنقاشاتنا الواسعة الحالية حول العولمة وحول أوروبا ممهورة بكل المقاييس بالجهل والتشويش والنفاق والاستراتيجيات الشخصية وغياب تام للرؤية على المدى البعيد. \r\n \r\n إعتباراً من استعادة الرأسمالية لعافيتها إثر الحرب، قبل ستين عاماً فقط، نجمت ثلاثة تطورات مستقلة عن بعضها البعض أو مستقلة تقريباً من الأهمية بمكان تمييزها اذا أردنا معرفة ما الذي يجري وبأي اتجاه نسير.يمثل التطور الاول في التقدم التقني، فالتسارع الهائل لانتشار السلع والخدمات والاشخاص والمعلومات في ميدان التحليل والمعالجة وحساب المعطيات . \r\n \r\n وكذلك الانتاج قلص ابعاد العالم، وجعل جميع البلدان تعتمد بعضها على البعض الآخر، وأدى بالضرورة الى فتح الحدود لكل شيء بإستثناء الاشخاص من منتجات ورساميل وخدمات وأفكار وأزياء وملابس وموسيقى، لكن ايضاَ للتلوث والأوبئة والجريمة.التطور الثاني تمثل في أن بعض بلدان اوروبا قررت الارتباط عن طريق صلات مؤسسية بحيث تجعل من الحرب فيما بينها امراً غير ممكن. أي ان الهدف كان السلام، علماً بأن احدى النتائج تمثل في جمود سوق ذي أبعاد هائلة. \r\n \r\n فالقوى المحافظة، التي سيطرت اثناء حقبة بكاملها، حافظت في اوروبا على رأسمالية تقليدية. كما كان سارياً في كل واحدة من الدول الاعضاء، لكن في بعض الحالات، كما في فرنسا، حدثت بعض الانجازات التقدمية المهمة.تلك القوى عينها تمكنت دوماً من الحيلولة دون ظهور هوية سياسية أوروبية وقدرتها على تجسيد سياسة خارجية وأمنية مشتركة، فضلاً عن وجود قوى مفتتة وقوية جداً في بعض البلدان الاعضاء ولاسيما في الخارج. \r\n \r\n حيث تتباهى الادارة الاميركية الحالية برغبتها في رؤية أوروبا مستضعفة، لكن وجود اليورو منعها من شن أي هجوم مالي مضاد ضد فرنسا أو المانيا فيما يتعلق بالعراق.وتجسد التطور الثالث المهم في نهاية القرن العشرين في التغيير الكبير على النطاق العالمي لمعايير اداء الرأسمالية لوظيفتها. وذلك هو ما يعطي الطابع الذي لا يمكن السيطرة عليه والخطير للعولمة والناجم عن التطور التقني، فمع ان الرأسمالية هي نظام فعال بشكل رهيب، لكنه متقلب للغاية ووحشي بالمقاييس الاجتماعية. \r\n \r\n بعد الحرب، مرت الرأسمالية المعافاة بثلاثين سنة من النمو لانهم احترموا ثلاثة ضوابط كبيرة. الاول يتعلق بنظرية كينز، التي تدعو الى استغلال الاموال العامة للتخفيف من تأرجحات النظام في مكان احترام التوازنات الشكلية. والثاني يتعلق بنظرية بيفريج، التي تدعو الى الاعتماد على حماية اجتماعية جيدة ليس لأنها اكثر انسانية، وانما لأن ذلك سيجعل النظام مستقراً وفقاً لمستوى الطلب الاجتماعي، الذي لا يمكن اختزاله وسيكون بالتالي مقاوماً لأي أزمة، والثالث يتعلق بنظرية هنري فورد القائلة بدفع أجور مرتفعة اذا اريد للناس ان تستهلك. \r\n \r\n وفي ذلك الوقت بالذات، حدث تطور فكري هائل وغير مسبوق، عندما وضعت مجموعة من اساتذة شيكاغو كان يقودها ملتون فريدمان نظرية جديدة مفادها في خطوطها العريضة اننا نعيش في مرحلة غير عادية وانه بعد آلاف السنين من الفقر، اصبح العالم ثرياً وهذا يعود الى اننا أوجدنا محركاً فعالاً والرأسمالية والمؤسسة الحرة ووقوداً ذا قوة خارقة هو الربح، وانه اذا ما حققنا ربحاً أعلى فإن النظام سيكون اكثر فعالية. \r\n \r\n ويتعين علينا التخلص من الضرائب والعراقيل التي تقف في وجه السوق، مثل الخدمات العامة والضمان الاجتماعي وكذلك مختلف المعايير التي تحد من الربح الذي تستطيع الشركات مراكمته، اذا ان التوازن الذي يحققه السوق هو افضل توازن ممكن وأي تدخل عام يزعزعه.تلك الفلسفة التبسيطية والمغلوطة التي تحض على الجشع من أجل الربح وتقليص الضرائب والتقليل من تأثير الدولة، جذبت عمالقة الاقتصاد والمال بوقت قياسي. \r\n \r\n لكن الضوابط الكبيرة، اختفت بعد مرور ثلاثين عاماً، حيث زاد ثراء الاغنياء وتفاقم عدم المساواة، سواء بين الشمال والجنوب أم داخل جميع بلداننا.وعاد الفقر الشائع للظهور في البلدان المتطورة والحماية الاجتماعية تنهار في جميع الارجاء والخدمات العامة مهددة والنظام اصبح مزعزعاً وشهد ست أزمات مالية كبيرة في الاعوام الخمسة عشر الاخيرة، سيطر عليها حتى الآن في اطار اقليمي، ونضوب الموارد والتلوث مستمران، بفعل رفض المعايير التي يمكن ان تضع حداً لذلك. كل ذلك يشير الى ان البشرية تسير باتجاه الازمة. \r\n \r\n وعلى الرغم من ان اوروبا ومؤسساتها لم توجد ذلك التحول الكارثي، إلا انها تعاني، وهنا يكمن مفتاح فهم مآسينا الحالية.وكانت القوى السياسية، التي تعرف نفسها بأنها قوى قومية هي التي فرضت تلك المعايير الجديدة للعبة الوحشية الاجتماعية الخطيرة سواء في اوروبا ام خارجها. \r\n \r\n ولقد أصبح الطابع الأكثر انسانية للرأسمالية الاوروبية القارية على وشك التلاشي على مذبح الربح الرأسمالية الاكثر وحشية للأنجلو سكسونية، بينما لا يستطيع أي بلد معزول في الاقتصاد العالمي الحالي ان يقاوم التحولات التي يتعرض لها، بما في ذلك الولاياتالمتحدة أو الصين. \r\n \r\n وبالتالي فإنه لا يوجد خيار آخر سوى خيار المحافظة على منظور اوروبا تعمل على تعزيز قوتها بشكل متزايد وتجد لنفسها خلال عشرة أعوام أو عشرين عاماً ما يكفي من البنى والهياكل القانونية على ان تكون قوية بما فيه الكفاية بالمعايير السياسية كي تتمكن في النهاية أغلبية يسارية من بدء نقطة تحول جدية للرأسمالية باتجاه مجتمع تضامني. \r\n \r\n \r\n وزير الخارجية الفرنسي الأسبق \r\n \r\n \r\n