لم يعد أحد يتحدث عن اختطاف المستوطنين الثلاثة الذين اختطفوا في منطقة غوش عتصيون، فقد انتقل مركز الحدث من هناك الى قطاع غزة. ولا شك بأن هناك أسئلة كثيرة ما زالت تطرح نفسها بشأن تلك العملية أبرزها أن السلطات الاسرائيلية كانت تعرف منذ البدء أن المستوطنين المختطفين قتلوا منذ لحظة اختطافهم فلماذا لم تعلن ذلك وظلت تعطي الانطباع بأنهم أحياء ، وما إذا كان الهدف من ذلك هو كسب الوقت للقيام بحملة تمشيط معمقة للضفة الغربية ، اعتبرتها اسرائيل خطوة استباقية ، وشملت تدمري ما اسمته بالبنية التحتية لحركة حماس بما في ذلك القيام بحملة اعتقالات واسعة بما في ذلك إعادة اعتقال محرري صفقة شاليط والقيام باغتيالات وهدم منازل ومداهمة مؤسسات ومصادرة حواسيب وملفات وجمع أكبر كم من المعلومات في إطار ما اعترفت به المصادر الاسرائيلية بأنه كان بمثابة تنفيذ لخطة كانت معدة مسبقا وجاهزة للتنفيذ عندما تحين الفرصة المناسبة ! ولم تقتصر الهجمة المحمومة على الضفة الغربية بل بادرت اسرائيل بالقيام بعمليات اغتيال في غزة لعناصر من المقاومة كانت هي الشرارة التي بدأ بعدها إطلاق الصواريخ على نطاق ضيق من قبل بعض فصائل المقاومة في غزة باتجاه اسرائيل انتقاما للشهداء الذين تم اغتيالهم. ومع أن حماس حاولت في البداية ضبط الأمور وعدم الانسياق وراء التصعيد الاسرائيلي إلا أن توالي الضربات الاسرائيلية والظروف الأخرى في القطاع والتي سآتي على ذكرها لاحقا ، جعل حماس في وضع اضطرها للانحياز الى جانب المقاتلين. وعليه ف إن إسرائيل هي التي بدأت التصعيد والتحرش وأدت إلى فتح الباب واسعا أمام دورة العنف الحالية والتي أسفرت حتى الآن عن استشهاد أكثر من مئة وعشرين فلسطينيا أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء والشيوخ ، نتيجة للقصف الجوي ال ذي تميز بالرغبة في الانتقام بهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها وبث حالة من الرعب بين الناس ، وهذا بحد ذاته هو من أبشع صور الارهاب من قبل دولة تدعي بأنها تكافح الارهاب. وعلى أية حال فإن الوضع في غزة كان مهيئا للانفجار ربما بسبب فشل المصالحة في إحداث انفراج في الوضع الاقتصادي وعجزها عن معالجة بعض القضايا الملحة كقضية رواتب الموظفني الذين عملوا مع حماس في الفترة التي أعقبت الانفصال. ولا بد من القول هنا بأن اللوم لا يقع فقط على عاتق حكومة رام الله لأن المسألة كانت خارج نطاق قدرتها مع أنها تظل مسؤولة الدخول في وحل غزة ليس كالخروج منه! إلى حد ما باعتبارها العنوان الرسمي للضفة والقطاع إن جاز القول. لقد تم منع السلطة في رام الله من تحويل الرواتب إلى موظفي حماس تحت طائلة التهديد بقطع المساعدات بالكامل عنها إن هي فعلت ذلك، وحين أعلنت قطر استعدادها لدفع رواتب هؤلاء الموظفين وقامت بتحويل الأموال إلى بنوك غزة لتقوم بدفع الرواتب تم تهديد البنوك من قبل أمريكا وأوروبا بأنها إذا تسلمت هذه الأموال فإنه سيتم إدراجها في قائمة البنوك التي تدعم الارهاب وستتخذ الاجراءات ضدها بما في ذلك مقاضاتها والحجز على أموالها في الخارج فاضطرت هذه البنوك إلى رفض التحويلات القطرية وإعادتها إلى مصدرها. فقضية موظفي غزة كانت تجسد مؤامرة أمريكية أوروبية ضد المصالحة واستغلت لمحاولة إفشال المصالحة وإعادة حالة الانقسام إلى ما كانت عليه ، لأنها هي أفضل وضع بالنسبة لاسرائيل. وفي نفس الوقت تحميل حماس عبء هؤلاء الموظفين إعتقادا بأنه إذا ما عجزت عن ذلك فإنهم إما أن يثوروا في وجهها ، أو أنها ستضطر للرضوخ وقبول شروط الرباعية. ولم تكن قضية الموظفين هي المشكلة الوحيدة في القطاع وإنما كان هناك الحصارالخانق والذي زاد ضيقا إثر عملية اختطاف شليط حيث قامت إسرائيل بتوسيع الشريط المحاذي للحدود بحيث منعت الفلسطينيين من الدخول إلى ما يعادل 35 % من أراضي القطاع والتي يوجد فيها ما يعادل 17 % من الأراضي الزراعية ، كما تم تقليص العمق والمساحة البحرية المسموح الصيد فيها إلى أقل من 85 % مما اتفق عليه في أوسلو ، إضافة إلى أزمة الوقود والكهرباء التي تفاقمت وتحولت إلى كابوس قاتل بعد أن قامت مصر بتشديد الرقابة على حدودها مع قطاع غزة وردم مئات الأنفاق التي كانت بمثابة الرئة التي تزود القطاع بالبضائع والمحروقات وغيرها. ولا بد من التنويه هنا بأنني لا أناقش ولا أحاكم الاجراء المصري فهذه مسألة أخرى ليست موضوع هذا المقال علما بأن لمصر ، في رأيي المتواضع ، الحق في اتخاذ كل ما تراه من إجراءات للحفاظ على أمنها القومي وحقها في فرض سيادتها على أراضيها وحدودها وهو أمر لا يخضع للمناقشة ، ولكننا نعتقد في نفس الوقت بأن فتح معبر رفح بالكامل وعلى مدى 24 ساعة يوميا لا يمس بأمن مصر ولا يؤذيها طالما تم تحت إشراف ومشاركة مصرية ، وكان يمكن أن يخفف المصيبة التي ابتلي بها أهلنا في القطاع. هذه بعض ملامح الوضع الم أساوي في القطاع الذي تختلط فيه مياه الشرب بمياه المجاري والذي يفتقر فيه الناس إلى الهواء النظيف وشربة الماء ولقمة الخبز. هذا هو القطاع الذي تحاصره أمريكا وأوروبا وترفض فتح متنفس أمامه للحياة، وهو القطاع الذي تعرض للاغتيالات المستمرة ضد عناصر المقاومة وال ذي يتعرض اليوم لحرب إبادة جماعية بكل ما تعنيه هذه الكلمة وبكل ما لها من مفهوم جرائم الحرب المحرمة دوليا ضد المواطنين المدنين العزل من السلاح. إن حركة حماس التي تعيش في هذه الأجواء لتشعر بأن ليس لديها ما تفقده ، ولعل شعارها وشعار كل فصائل المقاومة في القطاع هو قول المتنبي " وإذا لم يكن من الموت بدّ فمن العار أن تموت جبانا ". ويبقى السؤال الذي يتردد على ألسنة الكل الفلسطيني هذه الأيام : إلى أين ؟ وهل ستمضي إسرائيل في مغامرتها ضد القطاع وتقوم بعملية اجتياح بري أم أنها ستبحث عن مخرج لها قبل الدخول في هذه المغامرة التي لن يكون الخروج منها بأسهل من الدخول فيها. لقد قال لي أكثر من صديق في غزة أمس أن إسرائيل تعيد الآن قصف مواقع قصفتها من قبل وبعضها تم قصفه في حرب 2012 ، وأن هذا يعني أن بنك المعلومات الاستخبارية قد نفد ومع ذلك فما زالت صواريخ المقاومة تنطلق وتضرب العمق الاسرائيلي. إن استمرار القصف من القطاع على إسرائيل يعني أن أعمال الدمار وهدم المنازل على رؤوس أصحابها وتدمير كافة المؤسسات والدوائر الحكومية بل ومستشفى الوفاء للعجزة والمساجد وغير ذلك لم تحقق الهدف الذي وضعته إسرائيل أمامها وهو القضاء على القدرة القتالية لحماس وللمقاومة. واستطيع القول ومن الناحية الاستراتيجية العسكرية أن الذي في المأزق الآن هو إسرائيل وليس حماس والمقاومة في غزة ذلك لأن ليس لدى الغزيين ما يخافون أن يفقدوه بعد كل هذا الدمار والخراب والقتل ، وأما إسرائيل فإنها هي التي تفقد تدريجيا قدرتها على الردع وتواجه التحدي بضرورة القيام بعمل خارق يعيد إليها هيبتها ولو على الأقل أمام شعبها. ولا شك بأن إسرائيل تواجه خيارات صعبة جدا ، فالصمت العالمي إزاء الجرائم البشعة التي ترتكبها ضد المدنيين العزل من السلاح بدأ ينفد وبدأنا نشهد المظاهرات والأحتجاجات في مدن العالم ضد الهجمة الاسرائيلية ، وأية عملية تقوم بها يجب أن تكون سريعة أو خاطفة ، وأن مثلهذه العملية ليست ممكنة لأن الدخول في الوحل الغزي لن يكون سهلا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى وبعد أن استنفذ الطيران الاسرائيلي مهامه فإنه لم يعد أمام إسرائيل سوى الدخول البري بواسطة المدرعات . ولكن استخدام المدرعات الاسرائيلية واجه في الأيام الأخيرة ضوءا أحمر بعد قيام المقاومة باستخدام صاروخ من نوع جورنت المضاد للدبابات والذي يشكل قفزة نوعية بالنسبة لجيل صواريخ المول ودكا القديمة ، والذي لم يكن لدى المقاومة في حرب 2012 والذي يعني استخدامه إلحاق إصابات مؤلمة في القوات البرية الاسرائيلية ، الأمر الذي يجعل إسرائيل تفكر أكثر من مرة قبل الدخول في هذه المغامرة. إضافة إلى كل الاحتياطات اللوجستية وشبكات الاتفاق والمصائد التي أعدتها المقاومة للقوات الغازية. ولا يبقى أمام إسرائيل سوى دخول محدود ينحصر في المناطق الزراعية المكشوفة وعدم التجرؤ على الاقتراب من المناطق السكنية التي ظلت قائمة بعد القصف الجوي. الحرب ليست نزهة ، وإسرائيل جربت هذا الأسلوب مرة تلو المرة فهناك حرب غزة الأولى 2008 وغزة الثانية 2012 وغزة الثالثة التي تدور رحاها هذه الأيام ، وفي كل مرة تجد إسرائيل نفسها في مأزق أصعب من الذي سبقه ، وترتكب جرائم حرب أبشع مما ارتكبته في المرات السابقة. لقد آن لاسرائيل أن تدرك بأنها هي التي ترقص على إيقاع غزة وليس العكس، وأن أسلوب الحرب والقتل والدمار لن يحقق لها الأمن والأمان ، وأن المقاومة تزداد قوة وخبرة في كل مرة تدخل فيها الصراع مع إسرائيل ، وأن غزة تستطيع الاكتفاء الذاتي بما تنتجه من الأسلحة وأن الحل الوحيد هو تغيير المسار 180 درجة في الاتجاه المعاكس. لن تستطيع إسرائيل محو غزة كما يطالب بعض قادة اليمين الأسرائيلي المتطرف، ولن تستطيع أن تنعم بالأمن والسلام طالما ظل شعبنا محروما منه. الحل فقط في نبذ الخيار العسكري الذي فشل في تحقيق الأمن للاسرائيليين ، والاقرار بحق الشعب الفلسطيني في الحياة بحرية وأمن ورخاء والجلوس على مائدة المفاوضات برعاية الأممالمتحدة لوضع التسوية السياسية التي تؤسس لحل عادل يقر بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني ويزيل الاحتلال والاستيطان من فوق أرضه. وعلى القيادة الفلسطينية أن تنظر إلى الموضوع من خلال هذه الزاوية وأن تعيد النظر في المنهج الذي اتبعته والذي بالرغم من كل ما يتحدث عنه من قيم ومثل إنسانية ، عجز عن إحداث تغيري في الفكر والمنهج التوسعي الاستيطاني الاسرائيلي. رابط المقال: الدخول في وحل غزة ليس كالخروج منه