في لقاء الأسبوع الماضي مع أحد مرشحي الكونجرس الأميركي، تذكرت قوة الأساطير التي تحدد المنطق السائد بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتحديات التي تمثلها على السياق المنطقي. وفي تعاقب سريع، أدلى زائري بعدد من التصريحات التي تنم عن عدم درايته بالصراع ومدى صعوبة الأمر على أولئك الذين يسعون إلى سلام عادل. وبدت آراء ضيفي بشأن الصراع مشوّهة وراسخة، ولكنها أيضاً عكست مواقف كثير من المشرعين في واشنطن، فقد كان مقتنعاً على سبيل المثال بأن عرفات رفض أفضل عرض سلام على الإطلاق ولجأ إلى العنف، وبأن الفلسطينيين لن يقبلوا أبداً أن يعيشوا في سلام مع الإسرائيليين، وبأن الرئيس عباس كان عاجزاً عن ترويج أي اتفاق سلام لشعبه. وعلى رغم تأكيده على هذه الآراء السلبية والمملة، أصر زائري أيضاً على أنه «مؤيد للسلام»، وأعرب عن أمله في أن تؤتي جهود وزير الخارجية الأميركي أكلها في المساعدة على إنهاء الصراع. وبقدر ما يبدو هذا الانفصال عن الواقع غير منطقي ومشوشاً، إلا أنه يمثل لكثير من المرشحين في الكونجرس سبيلاً سهلاً للهروب، إذ يعطيهم موقفاً لا يتعين عليهم فيه تحدي الكوادر المتعصبة بين الناخبين المؤيدين لإسرائيل، بينما لا يزالون في الوقت ذاته يختلقون دعاوى دعم السلام. وتجادلت لبعض الوقت مع زائري، وأنا أدرك تمام الإدراك أنني لن أحدث تغييراً في رأيه قيد أنملة، وبعد أن قررت أننا قد تجادلنا بما يكفي، عزمت على الكتابة بشأن هذا اللقاء المخيب للآمال. وكانت ملاحظتي الأولى هي أن الأساطير التي حددت رؤى زائري إزاء الصراع تبدو منافية للتاريخ، وخير مثال على ذلك هو المفهوم الذي يقتنع به بحماس شديد ومؤداه أن «عرفات ضيع أفضل عرض من أجل السلام على الإطلاق ولجأ إلى العنف». وكان أول من قال ذلك هو الرئيس الأسبق بيل كلينتون في عام 2000، وعلى رغم أن هذا التصريح لقي ترحيباً كبيراً حينها، إلا أنه كان خاطئاً تماماً، وقد فند روب مايلي مسؤول مجلس الأمن القومي في عهد كلينتون، الذي حضر أيضاً مفاوضات كامب ديفيد، أسطورة أفضل عرض سلام على الإطلاق، في نقاشه الذكي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك في مطبوعة «نيويورك رفيو أوف بوكس» في التاسع من أغسطس 2001. وفند أيضاً تقرير ميتشل، الذي أمر به كلينتون وتم تقديمه إلى بوش في عام 2001، شطر «اللجوء للعنف» في هذه الأسطورة. ويبدو أن الواقع أكثر تعقيداً مما تشي به الأسطورة، فعرض إيهود باراك في كامب ديفيد لم يكن واضحاً أبداً، فهو لم يلتزم به كتابة، وعلى رغم الوصول إلى طريق مسدود في تلك الجولة، فقد واصل الفريقان الفلسطيني والإسرائيلي خوض مفاوضات مطولة في طابا، وأوشكا على التوصل إلى اتفاق. ولكن مع اقتراب الانتخابات، علق باراك محادثات طابا، وخسر الاستحقاق، وكانت هذه هي نهاية المفاوضات، ولم يرفض عرفات أي اتفاق، كما أن المفاوضات تم التخلي عنها قبل التوصل إلى مثل هذا «الاتفاق». ولم يكن عرفات هو من بدأ العنف رداً على كامب ديفيد، وإنما أشعل ظهور شارون الاستفزازي في حرم القدس الشريف شرارة الانتفاضة الثانية، وبعد أن قتل الحرس الإسرائيلي المتظاهرين الفلسطينيين، انتفض الشارع الفلسطيني في آن واحد، بسبب مشاعر الإحباط التي لم يعد يمكن السيطرة عليها نتيجة ممارسات الاحتلال وإخفاق عملية السلام في تقديم التغيير المنشود. وفي هذه الأثناء، تبدو الأساطير أيضاً عنصرية بشكل مثير للقلق، لاسيما أنها تشير ضمناً إلى أن الفلسطينيين بطبيعتهم غاضبون ومحبون للعنف ولا يمكن الوثوق بهم، ويبدو انتشار هذه الأسطورة في حد ذاتها بين السياسيين من بين العقبات الرئيسة على طريق التوصل إلى السلام. والواقع أن الفلسطينيين شعب مسالم تحمل الترحيل وانتزاع ملكيته وعقوداً من الاحتلال الوحشي، وبالطبع هم حانقون وغاضبون، ولكن ليس بطبيعتهم وإنما بسبب واقع ظروفهم. وبزعم إلى أن هذه الأسطورة هي طبيعة الفلسطينيين، تعفي هذه الأسطورة الإسرائيليين من أية مسؤولية، وتشير ضمناً إلى أنه بغض النظر عن التغييرات التي ربما تحدث، سيبقى الفلسطينيون دائماً يمثلون تهديداً. وتبدو أساطير زائري أيضاً بعيدة عن السياسة، إذ إنه يشير إلى أن الصراع أزلي وليس شأناً سياسياً يمكن أن يحل، والمشكلة في الطريقة التي تم تأطير الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بها في الغرب هي أنه ينظر للإسرائيليين على أنهم بشر «كاملون» لديهم آمال وحقوق وحاجة للأمن، في الوقت الذي يعتبر فيه الفلسطينيون مشكلة تتم إدارتها والتعامل معها كي يتمكن الإسرائيليون من العيش في سلام. ولن يُمكن التوصل إلى حلول لقضايا مثل حقوق الملكية والسيادة وتقرير المصير، ما لم يتم الاعتراف بحقوق الفلسطينيين. وطالما تعيق هذه الحقوق المخاوف الإسرائيلية، فإن المخاوف الفلسطينية سيتم تجاهلها أو النظر إليها في الغرب نظرة قاصرة. وبقدر ما تلبي الحلول المقترحة احتياجات الإسرائيليين فقط، سيرفضها الفلسطينيون، ولن يتمكن أي زعيم فلسطيني يحترم نفسه من طرح هذا «الفتات» على شعبه. وفي النهاية، تعتبر هذه الأساطير بمثابة تبرير وهزيمة ذاتية، فإذا كنا نقول إننا نريد السلام، لكن نعامل الفلسطينيين على أنهم يستحقون حقوقاً أقل من الشعب الآخر، ومن ثم، نقدم لهم مقترحات مذلة، فلاشك في أنها ستقابل بالرفض. ويمكن حينئذ أن يلتمس المؤمنون بالأساطير لأنفسهم تبريراً بأن الفلسطينيين لا يريدون السلام حقاً وأن الصراع سيستمر. ولهذا السبب، فإن الإصرار على هذه الآراء بشأن الفلسطينيين، مع استمرار زعم دعم السلام وحل الدولتين، يعتبر أيضاً هزيمة ذاتية. والتحدي الحقيقي الذي يواجه صناع السلام ينطلق من الرؤية التي أعرب عنها أوباما في خطابيه في القاهرةوالقدس بإدراك أن التساوي بين البشر وحقوق كلا الشعبين ووضع حلول تعتمد على هذا الواقع وليس على الأساطير. نوع المقال: الولاياتالمتحدةالامريكية القضية الفلسطينية