على مدار 60 عاماً، أخذت الدولة المصرية أشكالاً وألواناً مختلفة، ما بين اشتراكية ورأسمالية وعلمانية وحتى إسلامية «في مشروع لم يكتمل»، ولكن هذه الأشكال، كانت كلها تدور في فلك واحد... العسكر. إنها دولة العسكر، دولة وضع أركانها انقلاب جاء في الثالث والعشرين من يوليو 1952، أراد أن يجعل من انقلابه ثورة شعبية، فتحدث عن الديمقراطية والحرية، حتى إذا بات له ما أراد، كانا أول ضحاياه. يظن البعض أن دولة العسكر، التي تجذرت في الأرض المصرية لعقود وعقود، إنما هي تلك الدولة المتسلطة التي يسيطر فيها الجيش على سدة الحكم، إلا أن الموضوع في حقيقته أعمق وأشمل من السيطرة السياسية، فلعل عامل آخر هو الذي يحرك الجيش ويجعله أكثر فزعاً حين يرى أن رجلاً من خارج المؤسسة العسكرية _ أو بالأحرى مدنياً حقيقية يؤمن بمدنية الدولة _ يمكن أن يصل لسدة الحكم، ذلك العامل هو «الاقتصاد»... لأول وهلة يرى البعض أن اقتصاد الجيش هو ذلك المتمثل في مصانع الأغذية والأدوات الكهربائية وغير ذلك، إلا أن اقتصاد «بيزنس» العسكر يتعدى بكثير هذا الأمر، إذ لا يعتبر اقتصاد دولة داخل الدولة فحسب، بل إن الأذرع العسكرية متغلغلة في الاقتصاد الوطني بصورة شبه كاملة. في الفصل ال 15 من باب المؤسسة العسكرية والمنشور بموقع الهيئة العامة للاستعلامات، يلقى الضوء على الشركات والهيئات الاقتصادية التابعة للقوات المسلحة والتي ومن نظرة عامة عليها يتضح مدى تغلغل الجيش في كل المجالات الاقتصادية في الدولة وسيطرته عليها بشكل او بآخر. ورغم أن هذه الشركات والهيئات من المفترض أنه تم إنشائها لتحقيق الاكتفاء الذاتي داخل المؤسسة العسكرية، إلا أن دورها الحالي تعدى ذلك الأمر إذ بدا كما لو أن هناك كياناً اقتصادياً قائماً بذاته بعيداً عن الدولة. http://www.sis.gov.eg/Ar/Templates/Articles/tmpArticles.aspx?ArtID=67648 التهرب الشرعي من الضرائب ولا أحد ينسى التصريحات الشهيرة للواء محمود نصر مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية والمحاسبية وعضو المجلس العسكري -آنذاك- والتي قال فيها إن ما لدى القوات المسلحة «ليست أموال الدولة وإنما عرق وزارة الدفاع من عائد مشروعاتها»، وإنها تدفع عليها ضرائب وجمارك. ثم أضاف أن «القوات المسلحة ستقاتل من أجل مشروعاتها الاقتصادية... ولن تتركها لأى شخص أو جهة». حكاية الضرائب والجمارك التي تحدث عنها اللواء نصر، ليست إلا محض خيال، إذ أن هناك قوانين وضعتها دولة العسكر على مدار عقود، جعلتها رسمياً متهرباً من الضرائب، فوزارتي الدفاع والإنتاج الحربي، فكلتاهما معفيتان من الجمارك، بنص المادة (1) من قانون الإعفاءات الجمركية رقم 186 لعام 1986: «يعفى من الضرائب الجمركية...1-ما تستورده وزارة الدفاع والشركات والوحدات والهيئات التابعة لوزارة الإنتاج الحربى لأغراض التسليح من أسلحة وذخائر وتجهيزات ووسائل نقل ومواد وأدوات وآلات ومهمات وأجهزة طبية وأدوية. 2-ما تستورده الحكومات والمؤسسات الأجنبية، تنفيذاً لعقود تبرمها مع وزارة الدفاع لأغراض التسليح». وبالطبع أي شيء وكل شيء يمكن إدراجه تحت بند الحاجة له في أغراض التسليح. والدليل الرسمي على ذلك صدر على لسان اللواء على صبري، وزير الإنتاج الحربي، حيث صرح في الشهر الماضي بأن بعض منتجات الوزارة المدنية من «الصلب والمنتجات الهندسية والإلكترونية معفاة من الجمارك أو تُفرض عليها رسوم زهيدة». أما جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، التابع لوزارة الدفاع، فهو معفى من الضرائب على الدخل، بنص المادة (47) من قانون رقم 91 لسنة 2005 للضريبة: «تُفرض ضريبة سنوية على صافى الأرباح الكلية للأشخاص الاعتبارية أياً كان غرضها، وتسرى الضريبة على...عدا جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بوزارة الدفاع». مشروعات العسكر معفاة أيضاً من ضريبة المبيعات، بنص المادة (29) لقانون رقم 11 لسنة 1991 للضريبة العامة على المبيعات: «تُعفى من الضريبة كل السلع والمعدات والأجهزة والخدمات المعنية في هذا القانون اللازمة لأغراض التسليح للدفاع والأمن القومي وكذلك الخامات ومستلزمات الإنتاج والأجزاء الداخلة في تصنيعها». ثم تشرحها المادة رقم 23 من اللائحة التنفيذية لعام 2001 مفصلة: «تسرى أحكام هذه المادة على جميع قيادات القوات وهيئات وإدارات وأجهزة القوات المسلحة والصناديق التابعة لوزارة الدفاع أو الملحقة بها»، ويتضمن ذلك، حسب نص المادة، «الشركات والوحدات والهيئات التابعة لوزارة الإنتاج الحربى» و«الهيئة العربية للتصنيع». مرة أخرى، بالطبع أي شيء يمكن تأويله على أنه أجزاء تدخل في صناعة التسليح. قانون وزارة الدفاع زينب أبو المجد.. أستاذ التاريخ والاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية، كانت لها سلسلة مقالات بعد ثورة 25 يناير، كشفت فيها الوجه الحقيقي ل «العسكر» خاصة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، حيث تحدثت باستفاضة عن «بيزنس العسكر»، قائلة إن وزارة الدفاع هي الكل في الكل في البلد دي، بالنصوص القانونية تتحكم في كل شيء في حياتك، من وإنت طالب جامعة وبعد ما تتخرج، وإذا أردت زراعة قطعة أرض، وإذا أردت إنشاء مشروع صغير، وإن أردت بناء منزل، وزارة الدفاع على الطرق السريعة وفي ساحات انتظار السيارات والبنزينات، هي في طعامك وشرابك أنى ذهبت، فقيراً كنت أو طبقة وسطى أو ثرياً، وزارة الدفاع حولك في كل مكان. وأضافت البنية القانونية للدولة، التي وضعها ثلاثة رؤساء عسكريين، ثم أضيف لها بأريحية شديدة مجلس عسكري لم ينتخبه أحد، تؤسس لوضعية عليا فوق الممتازة لوزارة الدفاع في حياتك اليومية كمواطن. دعونا ننظر فيما يلي لبعض النصوص الصارخة، التي لن يصدقها عقل بني آدم على كوكب الأرض: سوف أبدأ بمعلومة خفيفة كده، هل تعلمون أنه خمسة أيام فقط بعد خلع مبارك، بينما نحن مشغولون بالرقص ولم الزبالة سعداء في ميدان التحرير، قام العسكر بتمرير قانون برفع معاشاتهم بنسبة 15 بالمائة مرة واحدة؟ نعم، حدث ذلك يوم 16 فبراير 2011، حيث استغل المجلس العسكري فرصة حل مجلس الشعب ومنح لنفسه سلطاته، وقام أول حاجة بتعديل قانون المعاشات بتاعهم. في هذا التاريخ، نشر العدد 6 مكرر (ج) من الجريدة الرسمية الآتي: «مرسوم بقانون 3...المادة الأولى...ُتزاد بنسبة 15٪ المعاشات المستحقة...وفقاً لأحكام قانون التقاعد التأمين والمعاشات للقوات المسلحة...المادة الثانية...يُمنح علاوة على المعاش تعويض تقاعد شهري لمن تنتهي خدمته بغير طلب منه..». ثم انخرطت فئة العسكر بعد ذلك في لوم كل أصحاب المطالب الفئوية المشابهة، واتهامهم بالانتهازية وعدم الوطنية، لأن البلد في حالة أزمة. وتابعت «ندخل دلوقتي على الكلام التقيل، جميعنا يعرف أن معظم مساحة مصر غير معمورة، على مشارف وحدود المدن والقرى أو صحراوية لا يمتلكها أحد، ووزارة الدفاع تملك هيمنة كاملة على تلك الأراضي، وكله بالقانون. أصدر «مبارك» في بداية عهده تشريعًا لاستخدام تلك الأراضي، لم يمنح هذا القانون وزارة الدفاع فقط حق التصرف المطلق فيها، ولكن أيضاً أجبر جميع المواطنين والجهات على الحصول على رضائها قبل الشراء. تنص مادة 10 من قانون رقم 143 لسنة 1981 على أنه: «يحظر على أي شخص طبيعي أو معنوي أن يحوز أو يضع اليد أو يتعدى على جزء من الأراضي الخاضعة لهذا القانون...فيما عدا ما تقوم به القوات المسلحة تنفيذاً لخطة الدفاع عن الدولة. وتوجب مادة 2 منه ضرورة «التنسيق» مع وزارة الدفاع في استخدامات الأراضي». بحجة تنفيذ خطة الدفاع عن الدولة، تضع القوات المسلحة يدها على جميع المناطق الساحلية والسياحية المربحة في البلاد، وإما تبنى عليها مشروعاتها الخاصة الفاخرة، أو «تنسق» مع رجال الأعمال لأجل بناء مشروعاتهم عليها، ولا نعرف ما هي بالضبط طبيعة هذا التنسيق. وعندما أصدر المخلوع قانوناً لإنشاء هيئات تدير أراضي الدولة، لم تكن مفاجأة لأحد أن العسكر احتفظوا بموقعهم فوق الممتاز على رأس كل منها. أنشأ المخلوع ثلاث هيئات رئيسية لهذا الغرض في مجالات السياحة والصناعة والزراعة، ويتربع على عرش ثلاثتهم اليوم لواءات. تقول المادة 2 من قانون رقم 7 لعام 1991«إن هيئة التنمية السياحية تقوم على التصرف في الأراضي المخصصة للسياحة، وهيئة التعمير والتنمية الزراعية تتولى الأراضي المخصصة للاستصلاح، ثم هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة تقوم على أراضي المجتمعات العمرانية الجديدة، وهي أيضاً تقيم المناطق الصناعية والأسواق». اليوم، رئيس الهيئة الأولى هو اللواء طارق سعد الدين، والثانية هو اللواء كمال الدين حسين، ومدير الثالثة هو اللواء إبراهيم العجمي. لو ترجمنا هذا لكلام مفهوم، يعني من الآخر لو إنت شاب وعايز أرض علشان تعمل مشروع سياحي أو تستصلحلك كام فدان في الصحرا اللي في ضهر بلدكم، أو عايز تقيم ورشة صغيرة في المنطقة الصناعية داخل المدينة التي تقطن بها أو حتى تنصب فرشة خضار في السوق الجديد اللي اتفتح، لازم تاخد إمضاء سيادة لواء ما أو آخر على ورقك. المعونة الأمريكية وجمهورية الموز العسكرية واعتبرت أبو المجد في إحدى مقالاتها أن قضية التمويل الأجنبي الشهيرة التي اتهم فيها عدد من الأمريكيين، كشفت عن حجم وأهمية المعونة الأمريكية لمصر، إذ أن هذه الورقة لوحت بها الإدارة الأمريكية للإفراج عن رعاياها وهو الأمر الذي تم في جنح الليل بعد أن خرج المتهون من زنازينهم إلى طائرتهم التي توجهت لأمريكا. وقالت أبو المجد إن ما تحققه النخبة العسكرية في مصر والنخبة الرأسمالية الصناعية في الولاياتالمتحدة من أرباح مالية طائلة من خلف المعونة يجعل خلافهم عليها مجرد مزحة سخيفة. بالإضافة لذلك، القصة بتفاصيلها الملحمية وضعت مصر باقتدار في مصاف «جمهوريات الموز الوهمية». وتقتضي المعونة العسكرية أن يقوم الجيش المصري بشراء أسلحة وذخائر أمريكية الصنع فقط ومن شركات أمريكية. ولذلك سرعان ما صارت المعونة العسكرية وسيلة طيبة تُفيد بها الحكومة الأمريكية من تختاره من الشركات الكبرى المنتجة السلاح، والتي تحصل على طلبيات ثابتة ومضمونه من الجيش المصري كل عام، بعض تلك الشركات قد يتعرض لتوقف إنتاجه بل إغلاق أبواب مصانعه تماماً لولا طلبيات مصر. تقوم تلك الشركات بالتأكيد برد الجميل للحكومة من خلال تمويل الحملات الانتخابية للمرشحين في الكونجرس والرئاسة. كما تساعد أموال المعونة جنرالات العسكر في مصر على إقامة علاقات بيزنس مدني غير حربي مع شركات رأسمالية أمريكية صانعة لسلع استهلاكية. والمثال الصارخ على هذا هو سيارات الجيب بجميع موديلاتها الفاخرة التي ينتجها العسكر بالشراكة مع «كرايسلر» الأمريكية، تفتخر «الشركة العربية الأمريكية للسيارات» - التابعة للهيئة العربية للتصنيع وهي بدورها تابعة للقوات المسلحة المصرية- بما أنتجته عبر الخمسة عشر سنة الماضية بشراكتها مع «كرايسلر» لتجميع سيارات «جيب شيروكي» و«رانجلر» و«جيب 8»...إلخ.. وذلك بحسب مقالة نشرت بمجلة فورين بوليسي. وبالعودة ل «دولة العسكر» وجد أن الشبكة الأخطبوطية أذرعها في كل شبر بالدولة، إذ لا تكاد تخلو أي مؤسسة أو هيئة بالدولة من وجود عسكري بها حتى إن متقاعدي الجيش مكانهم دائماً محفوظ بتلك المؤسسات، حتى تلك التي لا يفقهون من أمرها شيئاً بداية من مصلحة مياه الشرب والصرف الصحي- بجد مش هزار- وانتهاءً بشركات الأتوبيس ومصلحة التليفونات لقناة السويس وشركات البترول وحي العمرانية والدقي ونادي المقاصة الرياضي!». يحتلون بكل عدم استحقاق أماكن «المهندسين والأطباء والمحامين والمحاسبين، بل أماكن السباكين والسائقين والبائعين ولاعبي كرة القدم وبتوع التليفونات!». لمتابعة مقالات د. زينب أبو المجد حول «بيزنس العسكر» http://www.almasryalyoum.com/staff/%D8%B2%D9%8A%D9%86%D8%A8-%D8%A3%D8%A8...