يحسُن أن نذكّر بأن ما نتابع حلقاته ليس بأول الخلافات بين الجماعتين الكبيرتين (الإخوان والدعوة السلفية)، بل تاريخهم في العمل الدعوي والاجتماعي قد شهد ما هو أكثر حدة من ذلك بمراحل، لكن لكون الخلاف اليوم سياسيا، ولكون أحد الطرفين في السلطة بالفعل والثاني صاحب أكبر وزن سياسي بعده بحسب نتائج الصندوق، ولاستفادة أطراف عدة من اختلاف الفصيلَين الإسلاميَيْن الأكبر، فإنه قد شَغَل حيزا من الاهتمام بل شكّل ما هو أقرب إلى قضية الرأي العام. ولقد مرت من قبل أمثال هذه الخلافات وألّف الله بين القلوب وتعاون الفريقان في مواطن عدة قبل الثورة وبعدها، وحققوا نجاحات ومكاسب مشتركة. فليت الأفاضل من قيادات الفريقين الكبيرين ومتحدّثيهم الرسميين يكفون عن التلاسن عبر المؤتمرات الصحفية ووسائل الإعلام، فهذا باب شر محض، وعلى كل من الطرفين قطع هذه المادة فورا إن كانوا صادقين في طلب حل الأزمة، إذ لا يرجى أدنى إصلاح في شأن يشاع هكذا، لا سيما إن خلت الإشاعة من شبهة دليل! بل كلا الطرفين يهدد ويتوعد! فلا تمنحوا الإعلام المادة، ثم تقولون: حرّش الشيطان بيننا. لكن الأشد إيلاما في الواقع، هو هذا الشعور الذي يعتري بعض الإخوة باليأس من إقامة مشروع سياسي إسلامي خالص في الظروف الحالية، إذ ليس من دليل أبلغ على استحالة ذلك من تنازع الفصائل الإسلامية وتفرقها شيعا. والواقع أن الخلاف بين الفصائل ذات المنهج الواحد أو المتبنية لطريق إصلاحي واحد لم يكن يوما دليلا يُعتد به لا على فساد المنهج ولا على خطأ الطريق، وإلا لاستُدِل باختلاف الصحابة على بطلان منهجهم، وهذا لا يقول به أحد، ولاستُدِل على خطأ طريق الجهاد بالخلافات التي وصلت إلى الاقتتال بين فصائل الجهاد الأفغاني، أو بالخلاف الذي بلغ الذروة بين فصائل الجهاد العراقي في الأعوام السابقة للربيع العربي، وهم ليسوا في السلطة بعد، بل كانوا تحت النيران الأمريكية! لازلت أزعم أن مقومات نجاح مشروع سياسي إسلامي متوفرة الآن بحمد الله، خصوصا إذا دُعمت بمسارات ثقافية واجتماعية، وببعض التعديلات سوف تكون النتائج أفضل من ذلك بكثير. وإن كنا لا نرضى بالنماذج القائمة، فليس السبيل أبدا أن نهتبل الفرص لنردم إنجازاتهم التي قد نختلف في مقدارها، بل الصواب أن نسعى في جبر النقص وسد الثغرات وإبراز الإيجابيات، وفي النهاية ربك وحده يخلق ما يشاء ويختار، لا ندري من هو هذا الفصيل أو الشخص الذي سيفتح الله على يديه. الذي أخشاه، أن يتسلل إلى قلوب بعضنا نوع من الهوى الخفي، يتمثّل في الرغبة في رؤية الوضع أسود ما يكون، وتكلّف إقناع النفس بأن الساحة تخلو إلا من مجموعة من الفاشلين، حتى نقنع بأن الحمل ثقيل والهم كبير، والعالم ينتظرنا لفتحه بالإسلام الخالص! وكأن إثبات فشل كل العاملين اليوم شرط للنهوض لتحمّل المسئولية! وكأنني لا يمكنني أن أتحرك للعمل إلا بعد أن أرى بعيني فشل الجميع! هذا مسلك خطير جدا، وقلّما يوفّق صاحبه إلى أي نجاح، بل يظل في أغلب وقته ينتقد من على الساحة جميعهم دون أن يتمكّن من إيجاد البديل الذي يكشف الله على يديه الغمة، وسيقع في مزالق الغلو في النقد والبغي في الحكم وهضم الحق وبخس الناس أشياءهم، فيظلم إخوانه وقد يقول فيهم ما لا يقوله أشد خصومهم بغيا ومجانبة للإنصاف. ولم يكن هذا حال سلفنا الصالح، بل كان الواحد منهم تغمره الفرحة حين يعلم بنجاح أخيه في مجال من المجالات، إذ كان يرى في ذلك رفعا لقدر من الحمل من على كاهله، الذي لم يكن ليحمله أصلا إلا مضطرا. الباب مفتوح والطريق دوما يسع الجميع، شريطة أن يكونوا لله مخلصين ولقضيتهم بتجرّد عن الأهواء عاملين. وفق الله الجميع, وألّف بين القلوب.