يتصور كثير من الأخوة فى قيادة الحركات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان أن حزب العمل غير حصيف بحديثه عن العداء للحلف الصهيونى الأمريكى، وأن هذا ليس وقته وأننا لسنا فى حال تسمح لنا بمواجهة هؤلاء المردة، كما أن مصر لديها أولويات البناء والتنمية وتثبيت أركان أول حاكم إسلامى، وهذه الرؤية من وجهة نظرنا خاطئة، بل هى المسئولة عما نحن فيه من ورطة حالية للمشروع الإسلامى وليس للإخوان المسلمين، وذلك للأسباب التالية: أولا: الفصل بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية مفهوم قاصر للغاية فى أمور السياسة، وأول درس علمه لنا الدكتور إبراهيم صقر أستاذ العلاقات الدولية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية: أن السياسة الخارجية هى امتداد للسياسة الداخلية، وقد برهنت الأيام على صحة هذه المقولة فعلا، خاصة عندما نتحدث عن دولة خاضعة للنفوذ الأمريكى الصهيونى كمصر فى عهد مبارك، فكيف يمكن أن نتصور خروج مصر من أزمتها الطاحنة بعيدا عن هذا العامل الرئيسى الذى أجهض طموحاتها كدولة محورية وقائدة فى منطقتها، ولم تزدهر داخليا عبر التاريخ إلا بقدر ما مارست هذا الدور القيادى، لأنها إذا لم تمارسه تأتى دولة عظمى تستولى عليها، وتوظف مكانة مصر الإستراتيجية لصالحها. ثانيا : أخطأ الإخوان ومن أيدهم من الإسلاميين عندما أعلنوا الاكتفاء بالسلطة التشريعية بعد سقوط مبارك، وقد كان هذا خطأ مروعا، ومسجل فى بياناتنا رفضا له، إذ ترك الإخوان أهم أركان النظام البائد كما هى: القضاء – المجلس العسكرى – الإعلام – الشرطة، بل تركوا السلطة التنفيذية، وهى أهم السلطات، بأسرها فى يد العسكر! ولا ألوم الإخوان على تحولهم لفكرة الترشح للرئاسة؛ لأن هذا كان فى رأى حزب العمل هو الصواب: أى تقديم مرشح إسلامى، ولكن جاءت الفكرة متأخرة بعد ترك السلطة التنفيذية فى يد العسكر لمدة عام ونصف العام، مما ساعد على إعادة تماسك النظام. ثالثا: المشروع الإسلامى بطبيعته -فى الأساس- مشروع استقلالى، لا يمكن أن يقام فى ظل نفس علاقات التبعية مع أكبر قوة معادية للإسلام فى العالم ومتحالفة تحالفا إستراتيجيا مع الكيان الصهيونى الواقع على حدودنا المباشر، الذى يحتل كل فلسطين عدا غزة ويستولى على القدس والمسجد الأقصى أحد الرموز الأساسية للمسلمين، بل يتخذ من فلسطينالمحتلة قاعدة لضرب أى مكامن للقوة تظهر فى الوطن العربى والمنطقة. إن تصور أن مصر ستترك للبناء والتنمية والاستقرار حتى تقوى وتضرب إسرائيل يوما ما أو تنافسها علميا وتكنولوجيا، هو أضغاث أحلام، وهذا لا يعنى تأجيل عملية التنمية، ولكن يعنى أهمية الاعتماد بصورة غير عادية على النفس وعلى المخلصين من العرب والمسلمين، ويعنى تنمية وسائل القوة العسكرية بالتوازى مع التنمية الاقتصادية لحمايتها وردع المعتدين، وهذا يعنى أن الاعتماد على القروض والمنح الغربية والتسليح الأمريكى المجانى هو انتحار سريع، بل هو أمر مجرب طوال ثلاثة عقود فى ظل المخلوع، فكيف نكرره تحت راية الإسلام ونظن أنه سيصلح؟!! بل إن السيسى نفسه هو ثمرة هذه العلاقات العميقة مع الولاياتالمتحدة فى المجال العسكرى! رابعا: نسى الإخوان أن التفاهمات مع أمريكا ستقيدهم وستضر بشعبيتهم، ومن المهم أن نقتبس هنا من المعتز بالله عبد الفتاح هذا الكلام المهم الذى أتفق معه كتحليل ومعلومات دقيقة أعرفها من مصادر عدة: الولاياتالمتحدة تعرف ما الذى تريد من مصر، والإخوان مستعدون للتلاقى مع الولاياتالمتحدة على هذه الأمور، الأمريكان مستعدون للتعاون مع أى حكومة تستوفى خمسة شروط: تحقيق أمن إسرائيل، تقاوم القوى المناوئة للغرب فى المنطقة (وعلى رأسها إيران)، تضمن العبور الآمن فى قناة السويس، تلتزم بأى صيغة من صيغ اقتصاد السوق، تلتزم بالحقوق والحريات الأساسية للمرأة والأقليات ليس عن التزام حقيقى بهذه الحقوق من قبل الولاياتالمتحدة، ولكنها الأداة الأسهل لشيطنة نظم الحكم التى لا تلتزم بها.
الأمريكان يعرفون المأزق الاقتصادى الذى تمر به مصر: سكان كثيرون.. وموارد قليلة.. وسوء إدارة لكل منهما، إذن لا ينبغى أن تغرق مصر، لا بد أن تطفو فقط، ولكن لا بد ألا تسبح بسرعة عالية حتى لا تكون مركز قوة؛ لا بد أن تظل رجل المنطقة المريض، لا تصحو ولا تموت، لا بد أن يكون سكانها كثيرين وغير متعلمين وأن تتسول من الآخرين، وهذا مضمون من وجهة نظر الأمريكان، ولن يستطيع تغييره الإخوان، على الأقل على المدى القصير).
النقاط الخمس التى أشار إليها المعتز بالله هى فى واقع الأمر اتفاق مكتوب أو شفوى بين أمريكا والإخوان، ولكن أضيف إليه: ضمان مصالح الولاياتالمتحدة فى مصر والمنطقة، وهذا السبب الأخير أدى إلى عدم اتخاذ أى موقف من الاتفاقات المذلة واللصوصية فى مجال البترول مع شركات أمريكية وبريطانية، وقد كتبت عن ذلك (مقال عن بريتش بتروليم) وزعل بعض الإخوان، ولكن الرئيس مرسى ذكر ذلك فى خطابه الأخير ولكنه قال إن مصر لا بد أن تلتزم بالعقود، وهذا غير صحيح لا بالمعنى الثورى أو القانونى، فيمكن تعديل العقود أو إلغاؤها فى زمن الثورات وحتى فى الأيام المعتادة!
خامسا: لا يجوز للإسلاميين أن يكرروا مقولة "احنا مش قد أمريكا أو إسرائيل"، فهذا كان شعار نظام مبارك، وهذه هى ثقافة كامب ديفيد التى أذلت مصر وألغت الجهاد، وعلى الإسلاميين أن يدركوا أنهم لا يملكون أن يلغوا الجهاد وليس لديهم أى رخصة فى هذا الصدد، وفلسطين محتلة وسيناء منزوعة السلاح، وإلا فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدرك العواقب السياسية، عندما أرسل غزوة مؤتة ثم تبوك ثم بعثة أسامة رغم التفاوت الهائل فى موازين القوى بين الدويلة الصحراوية وإمبراطورية الرومان الجبارة والعظمى، وهل كان عمر بن الخطاب متهورا وغير حصيف حين قاتل الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية فى وقت واحد وانتصر عليهما ودخل القدس!
سيموت كثيرون منا ونحن لم نجاهد كما جاهد رسول الله بالسلاح، مع أن سيرته هى المشكاة التى يجب أن نتبعها، والمظالم والاحتلال الذى يتعرض له المسلمون موجود على أبوابنا، بل نحن فى عقر دارنا مسلوبو الإرادة ونخاف من أمريكا التى تحولت إلى عفريت فى نظر كثيرين.
سادسا: سمعت وكيل المخابرات السابق (ثروت) يقول فى هذه الأزمة: إن القرار يتخذ فى أمريكا فى 3 مراكز: البيت الأبيض وهو مع مرسى، والكونجرس والبنتاجون وهما معنا، ونحن نبذل كل الجهد ليصبح الطرف الثالث (البيت الأبيض) معنا، هذه هى مأساة المخابرات التى تلتزم بالتبعية الأبدية لأمريكا، ثم تعيب على الإخوان وغيرهم من القوى السياسية مجرد عقد لقاءات مع أى طرف أمريكى، على طريقة مبارك فى الإصرار على احتكار التبعية لأمريكا لنفسه وأسرته، بينما قال محمود زاهر وهو من أشهر المتحدثين باسم المخابرات (وكان قد أقنعنا فى زمن ماض بأنه من ألد أعداء أمريكا): إننا متمسكون بالمعونة الأمريكية وهى حقنا. وقال أيضا: إن المصالح القومية المشتركة بين مصر وأمريكا كبيرة ووثيقة للغاية!! ولا أدرى لماذا كان يكلف خاطره ويكتب من قبل بصورة رمزية ضد مبارك وأسرته الكريمة!
فى معارك الحق والباطل لا يجوز أن يكون العدو الرئيسى مجهولا أو غائما أو رمزيا، لا يمكن حشد الجماهير حول كلمة أصابع خارجية أو الخطر الخارجى بادعاء أن ذلك مفهوما لدى الناس، فهذا غير صحيح، فهناك كثير من الناس لا تفهم شيئا من هذه الغمغمات، وبذلك تصبح مشكلتنا مع شفيق ودحلان وخلفان ومكرم محمد أحمد وهذا تهييف للقضية، فلا يمكن لنظام أن يهتز من هذه الشخصيات، إن الذى يحاربك هى أمريكا لكى تتأكد من اتفاقاتها معك، ورغم الالتزام بكامب ديفيد إلا أن أمريكا طالبت بتطبيع سياسى مباشر مع إسرائيل، وطالبت بعداء أكثر ضد إيران، وطالبت بتنازلات أكثر لمطالب العلمانيين، والغضب الأمريكى من مرسى يحسب له، وقد قلت له ذلك وحييته عليه، ولكن المشكلة ظلت فى استمرار نظام مرسى يحاول تحسين شروط التبعية وهو مكبل بشباكها، والخروج التدريجى غير ممكن، والخروج الجوهرى والسريع والقافز ممكن فى زمن الثورة، وأقول ذلك كدروس للمعركة الراهنة والمعارك القادمة.
أما أخوة الإنقاذ فهم غارقون فى أحضان أمريكا وسفيرتها وكل سفراء أوروبا، وهم لم يغضبوا من السفيرة الأمريكية إلا لأنها صرحت بضرورة احترام الصناديق، وهو نفس ما صرح به السيسى وعاد وانقلب عليه، ومن ثم فإن شتيمة بعض عناصر الإنقاذ للسفيرة نوع من الشجار الذى يحدث أحيانا بين الأزواج ولكنه لا يؤدى إلى الطلاق.
لذلك يقف حزب العمل فى مربع متميز، فى موقف الوسط المركب، لا رغبة فى التفرد، ولا كما يفعل البعض حين يرغب فى مسك العصا من المنتصف ليرضى الجميع، فنحن بلا مواربة مع ضرورة استكمال الرئيس لفترته، مع إلغاء آثار هذا الانقلاب الفاشل والمدمر لكل قيم وأهداف الثورة، ونحن لا نخفى هويتنا الإسلامية، ولكن التمسك بالشرعية مسألة وطنية لصالح مصر، وهى مسألة إسلامية من زاوية أن الشورى فريضة، وهذا رأى مسجل فى وثائق حزب العمل منذ سنوات لا علاقة له بهذه الأزمة بالذات، فاحترام نتائج الانتخابات بالنسبة لنا فريضة دينية، وليست مسألة تكتيكية.
نحن نكاد نتفرد -وهذا لا يسعدنا ألبتة لأننا نريد الجميع معنا- بالاهتمام بالتخلص من النفوذ الصهيونى الأمريكى باعتبار ذلك مفتاح التقدم بالنسبة لمصر كدولة مستقلة قائدة ورائدة فى منطقتها، أما الخلافات الطاحنة الراهنة بين العلمانية والإسلامية، وعلى الرغم من أنها حقيقية، وعلى الرغم من أننا إسلاميون لا نساوم فيما نعتقد، إلا أن الخلاف الأساسى ليس على هذا المحور، بل على محور: الاستقلال والتبعية، وفى معسكر الاستقلال يوجد الإسلامى والقومى واليسارى والليبرالى والمسيحى، وفى معسكر التبعية يوجد "الإسلامى" واليسارى والقومى والليبرالى والمسيحى، ولا بد أن يكون الفرز على هذا الأساس.
عندما نسقط الانقلاب إن شاء الله ونعيد الشرعية، ونتأكد من وجود انتخابات نزيهة سنتقدم بقائمة مستقلة نحن وحلفاؤنا إن شاء الله بمشروعنا الاستقلالى الحضارى لنهضة وإنقاذ مصر.