للمرة السادسة منذ انطلاق الثورة المصرية، أعلنت وكالة «ستاندرد آند بورز» العالمية للتصنيف الائتمانى، تخفيض تصنيف الديون السيادية الطويلة الآجلة بالعملتين الأجنبية والمحلية من (B-) إلى (C+) مع نظرة مستقبلية سلبية. وأشارت الوكالة إلى أن تخفيض التصنيف الائتمانى جاء على خلفية تصاعد المخاطر الخاصة بالمالية العامة للدولة؛ إذ يبدو الوضع المالى للدولة غير مستدام. ولم تكتف الوكالة بذلك، بل أعلنت الخميس الماضى تخفيض تصنيفها 4 بنوك محلية؛ هى: «الأهلى المصرى»، و«مصر»، و«التجارى الدولى»، و«الأهلى سوسيتيه جنرال». وأرجعت الوكالة فى بيان لها، السبب وراء التخفيض إلى ما سمته مخاطر قد تتعرض لها هذه البنوك من استثماراتها فى الدين الحكومى المحلى. بالطبع سارع كثير من خبراء الاقتصاد إلى إبراز المخاوف بشأن تردى الأوضاع المالية فى مصر عقب هذا التخفيض، فى إشارة إلى أن الخبر سينعكس سلبا على الاستثمارات المحلية والأجنبية، بالإضافة إلى مفاوضات صندوق النقد الدولى مع مصر، وربما انهيار الاحتياطى النقدى؛ فهل لهذا التهويل ما يبرره؟ وماذا يعنى خفض التصنيف الائتمانى للدولة؟ وما أبرز الوكالات القائمة بهذا الدور؟ وكيف تؤدى عملها؟ وهل تحكم هذه الوكالات قبضتها على اقتصاد الدول؟ وما حقيقة دورها المشبوه فى تدمير الاقتصاد؟ شهادة ثقة اقتصادية التصنيف الائتمانى أو درجة الجدارة لأى جهة، يقصد به تقدير صلاحيتها للحصول على قروض وقدرتها المالية على تسديدها. وتضطلع بهذا الدور وكالات متخصصة للتصنيف، تعود نشأتها إلى عام 1975، استجابة لطلبات شركات التأمين الأمريكية من هيئة الأوراق المالية الأمريكية لتحديد حجم المخاطر التأمينية. ومع الوقت أصبحت هذه الوكالات تصنف الجدارة الائتمانية للدول كذلك. وتحتكر السوق العالمية فى مجال التصنيف الائتمانى ثلاث وكالات؛ هى: «ستاندرد آند بورز»، و«فيتش» ووكالة «موديز». ويستحوذ الثلاثة الكبار على أكثر من 90% من السوق. وتتراوح درجة التصنيف بين جدارة ائتمانية عالية AAA تدل على استقرار الدولة المصدرة للسندات أو الصكوك، ثم جدارة متوسطة تبدأ من BBB، ثم CCC التى تحمل درجة مخاطرة عالية، وأخيرا D التى تشير إلى تعثر الدولة أو اقترابها من حافة الإفلاس. وبما أن الأسباب المعتادة لتخفيض تصنيف الدول تتلخص فى انخفاض الاحتياطى النقدى وعدم الاستقرار السياسى والانفلات الأمنى وغيرها من المؤشرات؛ فإن التخفيض الأخير لمصر تقف وراءه أسباب سياسية بالتأكيد؛ فلا يخفى على أحد أن هذا الإعلان جاء عقب ارتفاع الاحتياطى النقدى بمقدار مليار دولار خلال شهر أبريل، فكيف يخفض التصنيف الائتمانى مع ارتفاع الاحتياطى؟! إضافة إلى الهدوء النسبى الذى تشهده البلاد. من هنا لا يمكن قراءة هذا الإعلان الأخير عن تخفيض التصنيف الائتمانى لمصر إلا فى ضوء الموافقة على قانون الصكوك، والإعلان عن البدء فى مشروع تنمية إقليم قناة السويس، وزيارات الرئيس الأخيرة إلى دول البريكس، وإبداء رغبته فى انضمام مصر إلى المجموعة؛ فهذا التقييم جاء بعد يوم واحد فقط من زيارة مرسى إلى البرازيل، كما تأتى مع ارتفاع توريدات القمح التى تؤذن بانخفاض وراداته من الخارج، خاصة من الولاياتالمتحدة أكبر مورد للقمح إلى مصر؛ ما يثير الشك حول عمل هذه الوكالات، فى خطوة تبدو استباقية لإخافة المستثمرين من الإقبال على مشروع تنمية القناة أو الصكوك أو الإقدام على أى استثمارات فى مصر، وكأنها تعاقب مصر على كل ما سبق ذكره من خطوات. يعزز ذلك ما أعلنته «ستاندرد آند بورز»: «نعتقد أن مصر على المحك، وتحتاج إلى حد كبير من التوافق السياسى والاقتصادى لتتمكن من الوفاء بخدمة ديونها»، وهو تدخل سياسى سافر. لعبة التصنيف فلنعد إلى مقولة توماس فريدمان الذى قال منذ أكثر من ثلاثة عقود: «إذا كانت أمريكا تستطيع أن تدمر أى دولة بقوتها العسكرية فإن (موديز) تستطيع تدمير أى دولة من خلال تصنيف سنداتها ومنعها من الاقتراض من أسواق المال العالمية». وهذه المقولة صادقة تماما؛ فقد لعبت هذه الوكالات دورا مشبوها فى تدمير الدول، حيث التلاعب بالتصنيف الذى على إثره يتخذ المستثمرون قراراتهم بالاستثمار فى دولة ما أو التراجع عن ذلك الاستثمار. تكفى الإشارة إلى أنه فى فترة السبعينيات كان المستثمرون أنفسهم يدفعون المال لوكالات التصنيف مقابل الحصول على التقارير، إلا أنه بمرور الوقت أصبح مصدرو السندات أو المؤسسات الخاضعة للتقييم هى التى تدفع لهذه الوكالات؛ ما يجعل مصداقيتها على المحك. وهناك أمر آخر يجعلنا نتشكك فى مصداقية هذه الوكالات؛ فسوق التصنيف يسيطر عليها ما يسمى «احتكار القلة»؛ فالوكالات الثلاث الكبرى استحوذت بمرور الزمن على الوكالات الصغيرة المنافسة، كما أن هناك تدخلا حكوميا سافرا يعزز هيمنة هذه الوكالات على السوق؛ ففى الولاياتالمتحدةالأمريكية لا يجوز إصدار وتداول سندات الدين فى الأسواق ما لم تصنف هذه السندات وكالتان على أدنى تقدير، من الوكالات التى تعترف بها «اللجنة الأمريكية للأوراق المالية والتحويل الأجنبى»، إضافة إلى ما يكتنف عمل هذه الوكالات من عدم شفافية. من أجل هذا كله، أخذ كثير من وزراء المال الأوروبيين فى التشكيك فى هذه الوكالات عقب تخفيض الثلاثة الكبار تصنيف الوضع الائتمانى للعديد من دول اليورو؛ ما دفع الأوروبيين إلى الحديث عن إمكانية إنشاء وكالة تصنيف جديدة تواجه احتكار الثلاثة الكبار؛ فقد دعا رئيس المفوضية الأوربية خوسيه مانويل روسو إلى تأسيس وكالة تصنيف ائتمانية أوروبية للفكاك والتحرر من السيطرة الأمريكية. وكانت الصين قد تنبهت إلى هذه السيطرة الأمريكية فسارعت بإنشاء وكالة «داجونج» للتصنيف الائتمانى عام 1994. وكشف البعض عن انهيار سمعة هذه الوكالات عقب الأزمة المالية العالمية عام 2008؛ إذ انهارت مؤسسات مالية كبرى وبيوتات تجارية عملاقة وشركات صناعية عالمية كانت قد حصلت من الثلاثة الكبار على تصنيفات مالية ممتازة، فأصبحت سمعة هذه الوكالات محل شك. الخلاصة أنه لا يجب النظر إلى تصنيفات الوكالات على أنها صكوك ثقة وشهادات مصداقية، ولا يجب أن نعطيها كل هذا القدر من الأهمية دون النظر إلى ما يحيط بها من شبهات وما قامت به من دور مشبوه على مدى تاريخها فى معاقبة الدول أو الأنظمة بتفزيع المستثمرين باستخدام لعبة التصنيف.