لم تكن جعبة الثقافة فى مصر خاوية قبل الثالث والعشرين من يوليو 1952، بل كانت مليئة مكتظة مكدسة بخيرات العقل المصرى وأطايبه التى بدأ غرسها مع تأسيس الدولة الحديثة على يد «محمد على» الذى أحب هذا البلد الغريب عنه وارتضاه موطنا ومقاما وحقلا خصبا يغرس فى تربته بذور عبقرية متمكنة، ويحقق فيه أحلام وأمنيات خيال مدهش داعب رأس جندى ألبانى لا يعرف لغته. ورغم أنه لم يتعلم (كيف يفك الخط) كما يقولون؛ فإنه استطاع أن يضع الأساس لدولة قوية ناهضة وأن يرهص بها ويبشر بتحققها فيقلق الدول العظمى المتحكمة فى المنطقة أو فى العالم وقتها. ذلك لأنه حين مدّ بصره بعيدا رأى إلى أين ينبغى أن تمتد حدودها وأين يجب أن تتمركز خطوط دفاعها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وحين جسد له خياله «العلمى المبكر» المستقبل مستبقا الواقع عابرا عوائق التحقق، رأى كيف يمكن لهذه الدولة المرتجاة أن تكون -بكل ما تملكه من ثروات أهمها البشر والموقع والتاريخ والحضارة- ذات ثقل بشرى وعسكرى واقتصادى وثقافى ودينى واستراتيجى قادرة على تغيير وقلب موازين تلك القوى وتحجيم وجودها وإضعاف سيطرتها ليس على الشرق الأوسط وحده بل على دول إفريقيا وأسيا بأكملها. ومن هنا جاء ترصدها، فاتفقت الخطط على إحباط مشروعه الحضارى والسياسى المستقبلى فيها بتحطيم جيشه واحتلال وطنه ثم إغراقه بالديون وتفتيته بالمؤامرات وإضعاف عقله بالأمية وإنهاك جسده بالفقر والجهل والمرض. لكن تشبثا رائعا فى هذا الشعب بتحقيق حلم التقدم كان قد بدأ واستمر -لا تفلح فى إثنائه أو اعتراضه قوة المحتل ولا دهائه، ولا استبداد الحاكم وطغيانه وتعدد أساليب تعويقه- فبدأ فى صنع نهضته الفكرية الثقافية والعلمية والدينية والفنية والاقتصادية معا؛ بينما هو جاثم تحت كاهل الاحتلال واقع بين فكيه وأسير قبضته. ومن هذه الإرادة ظهر مشروع التجديد الدينى على يد الشيخ محمد عبده -تلميذ الثائر جمال الدين الأفغانى- لتتبعه اجتهادات مثّلها الشيخ رشيد رضا والشيخ حسن البنا تنويعاتٍ تاريخيةً على مشروع التجديد الإسلامى الذى لم تتوقف مصر عنده كى تجادل وتناقش وتثرثر وتسفسط وتختصم نظريا مجافية الواقع ومترفعة على متاعبه وبعيدة عن مشكلاته؛ بل سارت كل مشاريع الإصلاح وخططه متزامنة وفى الوقت نفسه وبالمنسوب نفسه، وكأنها (الأنابيب المستطرقة) يرتفع فى فروعها المؤشر بالدرجة نفسها؛ ويعلن عن تطورها بالمقدار نفسه كاشفا عن نهضة فى الاقتصاد يبشر بها ويحققها فكر طلعت باشا حرب ومشاريعه التى لم تقتصر على إقامة (بنك مصر) أول مصرف مصرى يتم تمويله شعبيا، وشركة مصر للغزل والنسج بالمحلة الكبرى حسب دراسة علمية ناجحة تخيرت الموقع والمكان وحسبت حسابات إنتاج القطن طويل التيلة محصول مصر الأول، واستوديو مصر للإنتاج السينمائى. (ملاحظة أولى: لاحظ تكرار كلمة «مصر» وتسمية كل مشروعات النهضة لها مع تحقق كل ذلك ونجاحه بأن تكون مصر ثانى دولة فى العالم تنتج فيلما سينمائيا تجاريا وتسوقه بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية). وإلى جانب ذلك ومتزامنا معه يتم بناء مسرح الأزبكية تحفةً فنية معمارية فى قلب القاهرة تفتتح بمسرحية لأمير الشعراء أحمد شوقى بك وتسند إدارته ويا للعجب والروعة -ليس لفنان أو أديب أو إدارى مصرى كما هو متوقع بل ومقبول تماما- بل إلى خليل بك مطران الملقب بشاعر القطرين وهو مسيحى مارونى لبنانى، فى أروع إشارة تدل على التسامح والإخاء والتحضر واحترام القيمة فكرا وعملا. ومتزامنا أيضا مع ذلك يتم إنشاء فرقة أنصار التمثيل والسينما ودعمها فتشهد مصر نهضة مسرحية «شعبية حقيقية» حين تضيئ ليالى القاهرة والإسكندرية أجواق/ فرق مسرحية متعددة من مهاجرين شوام - لبنانيين وسوريين - وفدت منذ حضر «مارون النقاش» التاجر اللبنانى – بعد زيارته التاريخية إلى إيطاليا عام 1848–عاشقا المسرح قادما من بيروت إلى عروس البحر الأبيض المتوسط حاملا معه أحلامه فى رؤية مسرح عربى على غرار ما شاهده فى أوروبا وإيطاليا بالتحديد. وليتبعه فنانون وفرق وموهوبون يجدون فى رحابة مصر الفكرية والدينية وفى كرم ضيافتها وتقبلها من يحبها نموذجا لما أسميناه «الدولة الحاضنة» فيؤسسون فيها جرائد ومجلات ودور نشر.. نيقولا حداد مؤسس الأهرام، وجورجى زيدان الأديب الروائى المؤرخ مؤسس دار الهلال، وأنطون وإسكندر فرح المسرحيان 1900– 1905، وسليم قرداحى وجورج وسعاد أبيض ثم أسيا داغر ومارى كوينى ونور الهدى وبديعة مصابنى وبشارة وأكيم اللبنانيين، ونجيب الريحانى العراقى، وأنور وجدى السورى، وليلى مراد ثم عبد السلام النابلسى وصباح وسعاد محمد ونجاح سلام، وتوجو مزراحى الإيطالى، وعائلة فيروز ونيللى ولبلبة الأرمن المصريين حقا وحقيقة، وغيرهم من الفنانين يبدعون متكاتفين فى منافسة حرة رائعة مع فنانين من أهل مصر الرواد أمثال يوسف بك وهبى وعلى الكسار وفاطمة رشدى وأمينة رزق... مجرد أمثلة على ما يمكن تسميته «المسرح الجماهيرى» آنذاك أو المسرح الشعبى. وإلى جوار تلك الباقة من الفنانين – مغنيين وممثلين – كانت هناك باقة أخرى من المؤلفين المصريين والمتمصرين تكتب لها وتمدها بكل ما هو جديد تأليفا وتعريبا واقتباسا أمثال الشيخ سلامة حجازى 1905، وأنطون فرح وأمين عطا الله وإلياس فياض وبديع خيرى وإبراهيم رمزى ومحمد تيمور وأبو السعود الإبيارى. وفى المقابل كان توفيق الحكيم قد بدأ مشروعه الأدبى الفنى بتأليف مسرحيات تلتزم اللغة العربية الفصحى، وإنما وفق نموذج وسطى ثالث دعا إليه وأسماه «اللغة الثالثة»، وبدأ بذلك مسرحا عربيا للقراءة أو المناقشة أو ما سمى «مسرح القضية» والمسرح الذهنى، دليلا على رفاهة فى الإبداع وتنوع وخصوبة فيه. (ملاحظة ثانية: من الطريف -دلالةً على النشاط المسرحى آنذاك- كتب ناقد جريدة «المحروسة» فى 9/4/1904 معترضا: «الغريب أن القاهرة على اتساعها ورغم غناها وكثرة سكانها لا يوجد فيها سوى ثلاثة مراسح/ مسارح فقط؛ اثنان منها للحكومة والآخر لأحد الرعايا الأوروبيين وكلها مشغولة بالأجواق الأوروبية». قارن ذلك بعدد المسارح فى القاهرة وفى محيط القلب على مساحة ستة كيلومترات وهى: مسرح الأزبكية: محترق ومنهوب وأنفق عليه 25 مليون جنيه ومتوقف لاحتياجه إلى المبلغ نفسه، مسرح السلام بشارع قصر العينى: مستأجر من وزارة التعليم العالى ومغلق للتحسينات إلى أجل غير مسمى، مسرح الطليعة بالعتبة: وهو على رغم صغر حجمه ودوره وأهميته وتاريخه فإن الباعة الجائلين المحيطين به يجعلون الوصول إليه مغامرة خطرة، ثم مسرح الغد على النيل: وهو مسرح متواضع سعته نحو مائتى متفرج، ومسرح الهناجر كذلك، ثم قاعة مركز الإبداع: وحجمها محدود مثلهم تماما. ما يعنى أنه فى وزارة فاروق حسنى التى امتدت إلى ثلاثة وعشرين عاما وفى ظل أكثر من اثنى عشر مليونا سنويا أنفقت على المهرجان التجريبى لمدة واحد وعشرين عاما أو أكثر، لم يبن مسرح جديد)! هذا عن المسرح. ويبقى الحديث عن الموسيقى والغناء وعن الفن التشكيلى وفن العمارة، ثم عن الذوق المصرى العام والأخلاق المصرية والعادات والتقاليد والأعراف المصرية التى كانت هى الرافد والمنبع لنهضة الستينيات وكيف ظلت مصونة حتى هزيمة 1967، ثم كيف بدأت تواجه التهديد وتقاوم إلى أن استسلمت ووصلت إلى حد الانهيار الخطر الذى نعيشه الآن ؟ (يتبع)