وصلتني رسالة علي التليفون المحمول من الصديق الفنان الكبير "توفيق عبدالحميد" مدير عام المسرح القومي، وقبل أن أقرأها تصورت أنها مجرد تهنئة بعيد الفطر المبارك كمعظم الرسائل الواردة في مثل هذه الأيام، لكنها لم تكن كذلك، كان نصها: "كل عام وأنتم بخير، نحن فنانو المسرح القومي نعيش لحظة فارقة، التاريخ لن يرحمنا إذا تخاذلنا أو قصرنا، هذا هو الوقت الذي يجب علينا فيه إظهار الحب والانتماء للمسرح القومي العريق". هذه الرسالة حملت في طياتها تراوحًا بين الشجن والفرح، الشجن لأن عامًا كاملاً مر علي حريق المسرح القومي بكل ما جلبه لنا من حزن وأسي لاحتراق صرح حضاري يعتبر تحفة معمارية متفردة، إنه أقدم المسارح المصرية وأعرقها وأحفلها بالعروض والليالي المسرحية المضيئة منذ كان يعرف بمسرح حديقة الأزبكية.. أما عن الفرح الذي حملته الرسالة فنابع من أن هناك عشاقًا للمسرح كتوفيق عبدالحميد يشعرون بالمسئولية وبأهمية الدور التاريخي لفناني المسرح القومي في اللحظة الراهنة، حيث عليهم الالتفاف حول مسرحهم لينهضوا به في ظروف صعبة يمر بها، فللمسرح القومي فرقة كبيرة تضم نخبة متميزة من فناني المسرح في مصر يمكنها أن تنهض بمواسم مسرحية متألقة حتي قبل الافتتاح المرتقب للمسرح العريق.. وحديث توفيق عن أن "التاريخ لن يرحمنا" يدل علي وعي جاد بعمق المسئولية الملقاة علي عاتق كل عاشق للمسرح.. وعلي ثقافي بالدور الحضاري للمسرح الشامخ.. ووعي تاريخي يدرك معني أن تعود بدايات هذا المسرح إلي النصف الثاني من القرن التاسع.. وجولة سريعة وموجزة في تاريخ هذا المسرح كفيلة بأن تمنح رسالة "توفيق عبدالحميد" أهميتها. التاريخ بدأ حين كان الخديو إسماعيل مولعًا بنقل مظاهر الحياة الأوروبية إلي مصر فقام بتشييد مسرح حديقة الأزبكية، الذي أحيت فيه فرقة أبوخليل القباني موسمها الأول بالقاهرة عام 1885، وبعده عملت فرق عربية ومحلية كثيرة منها فرق: إسكندر فرح وسليمان القرداحي وفرقة الشيخ سلامة حجازي الذي أحيا موسمًا ناجحًا في عام 1905 بمسرحيات: هاملت- اللص الشريف- صلاح الدين الأيوبي- روميو وجوليت وغيرها. وفي نوفمبر 1917 استأجر جورج أبيض مسرح الأزبكية وقدمت فرقته عروضا مهمة منها: الشيخ متلوف- عطيل- أوديب الملك- لويس الحادي عشر. وحفل المسرح علي مدار تاريخه باستقبال عروض متميزة لفرق أجنبية كبيرة.. وفي مايو 1917 استأجرت مسرح الأزبكية شركة "ترقية التمثيل العربي" التي كانت تتبعها فرقة عكاشة، وقررت الفرقة هدم المسرح القديم وإعادة تشييده مع التطوير في نفس الموقع، وافتتحت فرقة عكاشة موسمها الأول في يناير 1921، واستمرت تعمل حتي عام 1928، وكان للمسرحيات الغنائية حظ وافر من عروض الفرقة وقام بتلحينها عمالقة منهم: سيد درويش- داود حسني- كامل الخلعي- زكريا أحمد.. وبعد تدهور أحوال فرقة عكاشة تحول المسرح إلي دار للعرض السينمائي وظلت علي هذا الحال حتي أوائل الأربعينيات عندما نجحت الفرقة القومية في الحصول علي المسرح وتخصيصه لعروضها، وهي الفرقة التي تحول اسمها عام 1942 إلي الفرقة المصرية للتمثيل والسينما وعندما تم دمجها مع فرقة المسرح الحديث عام 1953 أطلق علي الفرقة: الفرقة المصرية الحديثة وأخيرًا أطلق عليها في عام 1958 فرقة "المسرح القومي" وكانت في ذلك الوقت هي الفرقة الرسمية الوحيدة للدولة. لقد حفل المسرح القومي في تاريخه الطويل الذي يزيد علي مائة وعشرين عامًا بأعمال رواد المسرح في مصر من يعقوب صنوع والقباني وفرح أنطون وإبراهيم رمزي وعباس علام والأجيال المتعاقبة من المؤلفين أمثال توفيق الحكيم ونعمان عاشور وسعد وهبة ومحمود دياب وميخائيل رومان والفريد فرج وغيرهم.. أولئك الذين قدموا أدبًا مسرحيا رفيعًا عبر أصدق تعبير عن قضايا الوطن والمجتمع. وفوق خشبة هذا المسرح تفجرت تكوينات عمالقة الإخراج من أجيال متعاقبة مثلما تألق ممثلون عظام شكلوا علامات في فن التمثيل. ما ذكرته لا يعدو أن يكون جانبًا من تاريخ المسرح العريق، ولكنني قصدت أن أسرد جزءًا من هذا التاريخ لتدركوا معني عمق رسالة الفنان "توفيق عبدالحميد" الذي أتمني له وكتيبة فناني المسرح القومي العريق.. كل التوفيق.