هناك حكمة سياسية تقول أن الإبقاء على نظام سياسي ديكتاتوري يكون أفضل إذا كان خيار التخلص من هذا النظام باهظاً للغاية ويفوق ثمنه ما يمكن أن يتم جنيه من ثمار كإرساء الديمقراطية أو تحقيق التقدم الاقتصادي. ولا ريب أن الثمن الذي دفعه الشعب السوري حتى الآن باهظ للغاية بل ويفوق الثمن الذي دفعه في كل الحروب التي خاضها في العصر الحديث مجتمعه بمائة ألف قتيل، وجرحى يعلم الله فقط عددهم، ومشردين يزيدون عن 3 ملايين أصبحوا لاجئين في أركان الدنيا الأربعة، هذا بالإضافة إلى الدمار المادي والنفسي الذي لحق بالبلاد ويحتاج إلى عشرات السنين لكي تلتئم. وهناك حقيقة ساطعة يتجاهلها العرب وهي أن إسرائيل بصفة أساسية هي اللاعب الرئيسي في سوريا وليس غيرها، وتعاونها بالطبع المخابرات المركزية الأمريكية بكل إمكانياتها الهائلة وعملائها المنتشرين في كل ربوع الأراضي العربية من المحيط إلى الخليج.
وربما تقوم الأيدي العربية الفاعلة التي تعبث في سوريا اليوم بالعض على بنان الندم في القريب العاجل، ويومئذ لن ينفع الندم - وهناك مثل إنجليزي ينطبق تماماً على موقف هؤلاء العرب وفحواه - كالديك الرومي الذي يسعى جاهداً من أجل أن يأتي الكريسماس مبكراً – حيث يكون الديك الرومي هو الغذاء الرئيسي على رأس كل مائدة في الكريسماس. بل وأزيد فأقول، وربما تقوم القوى الغربية التي تحرضهم على ذلك بالعض على بنان الندم على تدمير سوريا حينما يجدون حماس أخرى أمامهم، أو تنظيم القاعدة، أو طالبان أخرى بجوار إسرائيل التي يسعون إلى حمايتها من إيران وحماس الآن، وقد كانوا يسعون إلى حمايتها من تنامي قوة العراق من قبل.
ولا شك أن هدف كل طرف من الأطراف التي تسعى إلى تحطيم سوريا مختلف تماماً عن الآخر – فماذا يريد العرب؟ وماذا يريد الغرب؟ وإن كان أوان التحذير قد فات وبدأ التخريب يؤتي ثماره في الداخل ولن تسترد سوريا عافيتها بسهولة حتى لو توقفت الأحداث اليوم قبل الغد.
ماذا تريد الأطراف العربية الفاعلة في سوريا؟
معظم الأطراف العربية التي تؤثر في سوريا بالمال والسلاح تفعل ذلك كراهية في بشار الأسد والنظام السوري – لا حباً في ديمقراطية يجب أن تسود سوريا – فليست سوريا هي الدولة العربية الوحيدة التي تفتقر إلى الديمقراطية ولا نظام بشار الأسد هو النظام القمعي الوحيد الباقي في الوطن العربي. وتنبع مشاعر الكراهية الأساسية لدى العرب من سوريا للتقارب الذي تبديه مع إيران، ويقوم الغرب نيابة عن إسرائيل بتغذية هذه الكراهية ضد إيران بالأساس بدعوى أنها تقوم بنشر المذهب الشيعي؟ وكأن الغرب يعتنق المذهب السني!! ثم يقومون بتأجيج هذه الكراهية ضد سوريا بدعوى تقاربها مع إيران .. وكأن إيران هي الأخطر على العرب والمسلمين من إسرائيل. ويقومون باستخدام نفس الوسائل الساذجة بالتخويف من خطر المد الشيعي..!! وكأن الشيعة ولدوا اليوم ولم يكونوا هناك منذ أكثر من ألف ومائتي عام، ويعيشون في كل الدول الإسلامية والعربية، وفي دول الخليج بالذات. وبعد ذلك يبدءون في تحذيرنا من الأقباط، أو تحذير الأقباط من المسلمين، وكأننا دائماً في حاجة لمن يقوم بتحذيرنا من الأخطار المُحدقة بنا. لقد انتهت المعارك الدينية في الغرب منذ القرون الوسطى، ويعيشون هناك معاً دون خوف أو تخويف من مذاهب أو معتقدات دينية، بل إن الملحدين والذين لا يؤمنون بأي دين يعيشون معهم جنباً إلى جنب.
وماذا يريد الغرب من تحطيم سوريا؟
تتسم السياسات الإستراتيجية الغربية بطول المدى الزمني، وتجنب التدخل العسكري ما أمكن ذلك، والاعتماد على العديد من الإستراتيجيات القصيرة المدى من التخويف من المد الشيعي أو المد الإيراني، والأحداث الصغيرة التي تبدو وكأنه لا رابط بينها، وبحيث لا يُدرك العرب أو غيرهم من ذوي النظرة القصيرة الأهداف البعيدة المدى لهذه السياسات القصيرة المدى، والتي يبدو لأول وهلة أن لا رابط بينها. وربما غداً ربما يبدءون في تحذيرنا من المد الوهابي في مصر. وتستهدف هذه الإستراتيجيات قصيرة المدى إلى التخويف من التقارب السوري الإيراني، أو المد الشيعي، أو الأطماع الإيرانية، بالتحريض ضد سوريا وتحطيمها لعزل إيران أولاً للانفراد بها ثم الانقضاض عليها أو تفكيكها شيئاً فشيئاً.
وهو قصور نظر إستراتيجي خطير من دول الخليج، فالتخلص من إيران وسوريا معاً معناه أن تنفرد إسرائيل بالعالم العربي، بعد أن تخلصت من العراق ثم سوريا، وتقسيم السودان وفي غياب مصر الغارقة في همومها الداخلية.
كيف تم التخلص من العراق لحساب إسرائيل وعلى مدى عقدين فقط من الزمان؟
قامت الثورة الإيرانية ذات الصبغة الإسلامية الوليدة آنذاك بتوجيه ما شعرت الولاياتالمتحدةالأمريكية إنها إهانة بالغة لها كدولة عظمى حينما قام الطلبة الإيرانيون باحتلال سفارتها ومحاصرة من فيها كرهائن وكان لا بد للولايات المتحدة أن تنتقم من ذلك كدأب سياستها عبر التاريخ، وحاولت تخليص الرهائن بعملية عسكرية كُتب عليها الفشل. وبدأت في تحريض صدام حسين بأساليب مخابراتية ساذجة، عندما قامت بتسريب تقارير سرية مزيفة بأن الجيش الإيراني أصبح متهالكاً بعد الثورة الإسلامية، وأنها لا تجد قطع غيار لأسلحتها الأمريكية، وأن الفرصة سانحة للعراق لاسترداد الجزر التي كانت تستولي عليها إيران، وانطلت الحيلة بالطبع على صدام حسين الذي يفتقر إلى الثقافة وإلى الفكر وقراءة التاريخ، ويتميز بالعناد الأقرب للغباء.
وتم استدراج العراق والقيادة العراقية الجاهلة بأساليب مخابراتية لا يمكن أن تنطلي إلا على قيادة جاهلة لا تقرأ ولا تفهم، وتتسم فقط بالعجرفة والخواء الذي يميز الجهلة دوناً عن غيرهم، وبطريقة تعني أن من فعلوها درسوا صفاته جيداً والحماقة التي تتصف بها قيادته. واشتعلت حرب مدمرة، قام الغرب فيها بإمداد الطرفين بالأسلحة وبطريقة خبيثة، وكلما رجحت كفة أحدهم، قاموا بإمداد الطرف الآخر بأسلحة تجعله يستمر في العناد ويعتقد أن النصر قريب منه، وفي النهاية خسر الطرفان الحرب اقتصادياً وبشرياً وإستراتيجياً.
وكان الغرض منه تحقيق هدف مزدوج بتحطيم كل من إيران والعراق. لتأديب الأولى لأنها تجرأت على الرعايا الأمريكيين في سفارتها بإيران، وكان ذلك أيضاً خطأ من القيادة الإيرانية آنذاك، واستنزاف ثرواتهما البترولية المكدسة في البنوك الغربية، وكان على إيران أن تدفع الثمن باهظاً باستخدام جارتها اللدود العراق.
وذلك يعني أن العرب لم يعوا بعد دروس التاريخ ويحركهم الآخرون بدلاً من أن يتحركوا لحماية مصالح أوطانهم الخاصة، فكما أن مصلحتهم الخاصة لم يكن في تحطيم العراق.
ورد على تصريحات إسرائيلية بأنها ستقوم بضرب المفاعل النووي العراقي، صدر عن صدام حسين أغبى تصريح يمكن أن يصدر من رئيس دولة على الإطلاق فقال: "إنه إذا هاجمت إسرائيل المفاعل العراقي، فإنه سيقوم بحرق ثلث إسرائيل بالأسلحة الكيماوية"، وبعد الضجة التي أثارها التصريح ليوم واحد، كفت وسائل الإعلام الغربية بأكملها عن التعليق عليها بطريقة مريبة، ولم يكن ذلك إلا لأنه يتم إعداد فخ لصدام حسين والعراق وتحطيمهما للأبد وإخراج دولة عربية كبيرة من ميزان القوى العربية. وتم ذلك بعد 6 أشهر فقط من صدور أغبى تصريح سياسي من رئيس عربي. وكان ذلك بالتنسيق بين المخابرات الإسرائيلية والمخابرات الأمريكيةوالغربية من جهة أخرى، وتم استدراج العراق والقيادة العراقية قصيرة النظر للدخول في الكويت بطريقة ساذجة ولكنها كانت كافية لخداع القيادة العراقية الأكثر سذاجة، وبدأت تلك الخطة بتحريض العراق ضد الكويت بدعوى أن الكويت تقوم باستنزاف البترول العراقي من بئر الرميلة باستخدام تقنية أمريكية متقدمة، وقامت السفيرة الأمريكية في العراق آنذاك بباقي المطلوب منها تماماً، وحذرت صدام حسين من الدخول للمملكة العربية السعودية لأن هناك معاهدة دفاع معها!!، أما الكويت فليست هناك معاهدة دفاع معها (يعني بالبلدي خش هنا وليس هناك)، وابتلع صدام الطعم، وكان الأشرار يعرفون رد فعله تماماً وينتظرون وراء الستار بعد أن قاموا بإعداد كافة الخطوات اللازمة.
وللأسف الشديد تم استخدام الرئيس المصري السابق حسني مبارك ومصر أسوأ استخدام باستغلال كراهيته لصدام حسين أولاً، وجهله السياسي المطبق من ناحية أخرى. وبدلاً من أن يقوم بزيارة للعراق يقنعه فيه بسحب قواته، ويوضح له الأخطار المحدقة به سراً وفي هدوء، بدأ في توجيه نداءات غبية بأنهم سيقومون بضرب العراق وتحطيمه بقوة عسكرية هائلة، وهو يعرف أن صدام حسين بشخصيته العنيدة لن يستجيب لمثل هذه التهديدات العلنية. ودفع الشعب العراقي، والجيش العراقي، كما دفع الشعب الكويتي، والشعب والجيش الإيراني من قبلهما ثمناً باهظاً لغباء القيادة السياسة في العراق.
هذه هي قصة تحطيم الثور الأحمر، آسف.. أقصد العراق، ثم محاولات تحطيم الثور الأبيض، آسف مرة أخرى .. أقصد سوريا، ثم يأتي بعد ذلك الثور الأسود، وباقي الثيران الصغيرة.
وأعتقد إنه إذا كان هناك مجرم أساسي في النكبة الثانية والتي تجري وقائعها في الوطن العربي في الثلاثين عاماً الماضية، فهو حسني مبارك وبلا جدال، وبدرجة أو بأخرى من أختاره لهذا المنصب. فطوال توليه مهام منصبه الخطير، والذي لم يكن يدرك أهميته، وأهمية مصر للوطن العربي وللأمة الإسلامية، وظلت مصر تنحدر من سيء إلى أسوأ، ويتعرض أمنها القومي سواء في الشمال (العراق وسوريا)، أو جنوباً (السودان وأثيوبيا وسائر دول إفريقيا)، أو غرباً (ليبيا) لأفدح الأخطار.
وربما كان حسني مبارك قائداً عسكرياً جيداً، وبالتأكيد كان كذلك، لأنه وصل إلى قمة العسكرية المصرية. وساهم ضمن من ساهموا، وبالطبع لم يكن الوحيد - في بناء الجيش وفي تحقيق انتصار حرب أكتوبر 1973. كما أنه ليس من المستغرب أن يتحول قائد عسكري إلى قائد سياسي إذا كان يملك الثقافة السياسية والعقلية الفكرية التي تؤهله لذلك، فذلك يحدث في الشرق والغرب على حد سواء كان في أمريكا وبريطانيا وروسيا، وإسرائيل التي كل قادتها عسكريون في الأساس، ولكن اقتصار ثقافته على الثقافة العسكرية هو أمر خطير. كما أن اقتصار ثقافة أي رئيس على نوعية واحدة من الثقافة التي تخصص فيها طوال حياته، سواء كانت ثقافة عسكرية أو اقتصادية أو دينية أو قانونية لا يعرف غيرها لهو أمر في غاية الخطورة بالنسبة لمنصب الرئيس في بلد في أهمية وخطورة مصر وللوظيفة رقم 1 كما يطلقون على المنصب في أمريكا. ولا شك أن الإحاطة بتاريخ البلاد العربية، وبموجز لتاريخ العالم بأسره والثقافة السياسية، والثقافة الموسوعية العامة، إلى جانب القدرة على القيادة، والقدرة على الإقناع، وقوة الشخصية لهو أمر حتمي لكل من يتولى هذا المنصب الخطير. وكما يقول الغربيون العلم القليل أخطر من الجهل – وكما نرى الآن في الساحة جهلاء يقدمون فتاوى في أمور الدين والدنيا – وهنا منبع الخطر على الوطن – ولكن ذلك حديث آخر.
فإذا كان أول أمر إلهي لنبينا الكريم هو "اقرأ"، وأول أمر إلهي للمسلمين هو "اقرأ"، وقد كف المسلمين عن القراءة، وتوقفوا عند قراءة تراث القرن الرابع عشر فقط دون تفكير أو اجتهاد لمسايرة العصر حتى أصبحنا نستورد ما نأكل وما نلبس وما ندافع به عن أنفسنا واختصرنا الإسلام في تشذيب اللحية والشارب والجلباب.
فويل لأمة لا يقرأ قادتها، والويل كل الويل لأمة لا يقرأ قادتها التاريخ، ويستوعبون دروس وعبر التاريخ