صعد الخطيب المنبر، أخرج ورقة مطوية من جيبه؛ بعد أن حمد الله وأثنى عليه، راح يقرأ سطورها فى خشوع وتدبر: (وأطيعوا الله والرسول وأولى الأمر منكم) قرأ علينا الآية الكريمة مرات عدة،وهو ينظر إلى الرجل الجالس بجانبى فى سعادة،والذى راح يحرك رأسه من أعلى إلى أسفل فى بطء وكبرياء ظلت عين الخطيب تتقافز بين السطور، وما بين اللحظة والأخرى ينظر تارة إلى الرجل الذى ما زال يحرك رأسه من أعلى إلى أسفل فى آلية منتظمة، وتارة أخرى ينظر إلى الشباك الصغير والوحيد داخل المسجد، والذى نجحت أشعة الشمس فى أن تخترق أعمدته الحديدية السميكة. _ 2 _ صعد الخطيب المنبر، قال فى سعادة وشجاعة؛ بعد أن حمد الله: (يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شىء قدير).. راح يرددها خطيب المسجد،وهو ينظر فى سعادة إلى النوافذ الكثيرة كبيرة الحجم المفتوحة على مصراعيها،والتى امتلأت بها حيطان المسجد. (2) حرية.. حرية! رأيته وهو يمشى فى زهو وتفاخر..لفت نظرى شىء هام جدا لا يجب السكوت عليه..استوقفته..رد عليه فى عجرفة وكبرياء: - نعم.. فيه حاجه؟ دنوت منه أكثر، ورحت أقول فى خجل بصوت مهموس لا يسمعه غيره؛ بعد أن تلفت يمنة ويسرى: - أنا عاوز أقولك أن سستة بنطلونك مفتوحة على الآخر.. صرخ فى وجهى: - أنا حر.. شعرت وكأن الأرض قد اهتزت من تحتى..فجأة..وجدت المارة وقد تجمعوا على صوته..غسلنى خجلى من جراء النظرات الحارقة للملتفين من حولى..أردف يقول فى زهو وثقة: - أنا حر يا آخى.. أفتح السسته على آخرها..أو أقفلها..أو حتى أمشى من غير بنطلون خالص.. أنا حر.. وإحنا فى زمن الحرية.. انت ما سمعتش عن حاجه اسمها ثورة 25 يناير؟! - هاء.. هاء.. هاء.. هاء.. هاء.. كرشه المنفوخ الممتد أمامه راح يعلو ويهبط كأرجوحة ؛ من جراء ضحكاته المتتالية..رويدا..رويدا..توقفت ضحكاته..صمت برهة، وراح يحدق فى وجهى الذى اغتسل بعرق خجلى، ثم راح يقول: - انت شكلك مش عاجبنى.. شكلك كده فل.. أيوه فل من فلول النظام.. - هاء.. - هاء.. - هاء.. - هاء.. - هاء.. - هاء.. لفتنى ضحكات المارة التى خرجت متوحدة.. قوية فى وقت واحد..رويدا..رويدا..وجدتنى أنسحب كجندى هارب من معركةخاسرة..رحت أخطو خطوات بطيئة متثاقلة وأنا أهذى كالمجنون.. - حرية.. حرية.. حرية.. (3) صورة لم تكتمل بعد! خارجها.. صعدت الأتوبيس المزدحم براكبيه-غير مصدق أننى حقا خارج وحدتى العسكرية ذات الأسوار العالية، وأن هذا أول يوم إجازة لى بعد قرابة خمسة وأربعين يوما؛ هى فترة التدريب- وما أن وطئت قدماى داخله حتى وجدت الركاب الواقفين فى (طرقته) يبتعدون شيئا فشيئا متراجعين إلى الخلف، تعجبت ووجدتنى أنظر إلى نفسى؛ لعلى أجد شيئا فى نفسى دفعهم دفعا إلى فعلتهم هذه، لم أتوصل إلى شىء، رميتهم بابتسامة صافية لعلها تمحو الذعر الشديد المقروء بوضوح على صفحات وجوههم، لم يتغير شىء.. الذعر سيد الموقف، أسئلة كثيرة طفت فجأة.. راحت تحوم من حولى دون الوصول إلى إجابة، قررتالاستفسار عن السبب، منعنى خجلى، تألمت وبشدة عندما اتضح لى شىءٌ لم ألتفت إليه منذ دخولى الأتوبيس، الخائفون.. المتراجعون للخلف نساء وفتيات فقط، ازدت غضبا وحزنا، قررت تجاهل الموقف بالنظر إلى خارج الأتوبيس. نزل أحد الركاب،مبتسما التففتُّ إليهن حتى تأتى إحداهن لتجلس،فلم تتقدم واحدة منهن، بل ازددن رعبا من جراء ابتسامتى، جلست وأنا أستشيط غيظا، الرجل الطاعن فى السن الجالس بجوارى رمانى بابتسامة لم أعرف مغزاها، ثم قال فى ثقة: - هل أنت عسكرى مستجد؟! قلت فى ضيق من أمرى: - نعم.. - الآن عرفت سبب ضيقك.. - ماذا تقصد؟! اقترب فمه من أذنى وراح يقول بصوت مهموس: - إنهن يبتعدن عنك خائفات من التحرش الجنسى منك ومن غيرك من العساكر المجندة؛ فالمجند منكم يعيش وسط الجبال شهرا أو شهرين، وربما أكثر دون أن يرى وجه فتاة، تماما كالأسد المفترس المحبوس منذ فترة طويلة، ثم خرج فجأة، ليجد فريسته، فماذا عساه أن يفعل..؟! و... قاطعته فى حدة: - ولكنى... قاطعنى مبتسما فى ثقة: - ولكنك لست من هؤلاء العساكر المتحرشين.. أومأت برأسى.. أردف يقول: - ولكن الغالبية العظمى منكم هكذا. داخلها.. - الجيش والشعب يد واحدة.. فرحين.. مهللين.. مصفقين.. راح يرددها جموع غفيرة من الشعب؛ سعداء بتنحى الرئيس، وبنجاح ثورة ال25 من يناير.. دمعت عيناى وأنا أرى النساء والفتيات وهن يلتصقن وبشدة من جسدى، وأنا أقف فى شموخ حاملا سلاحى، ومن خلفى تقف الدبابة فى ثقة، يأخذون معى تباعا الصور التذكارية. خارجها.. - يسقط.. يسقط حكم العسكر.. - الثورة مستمرة..