إذا كان من أبرز التحديات التي يطرحها الفكر المعاصر أمام الفكر الإسلامي : قضية الحرية فقد أشرنا في المقال السابق إلى أن المفتاح الإسلامي هنا ، هو : إفراد الله بالعبودية .. في التوحيد تلك هي البداية والحل الإسلامي لهذه المشكلة - من منطلق الذاتية الإسلامية - إنما يبدأ من معالجته لقضية سابقة : هي قضية العبودية *** ولنتفق على مسمى العبودية أولا ذلك أنه مهما يقع حوله من خلاف فإنه لا خلاف على كونه : تسليم النفس للغير جبرا أواختيارا . في هذا الإطار نقول :إنه إذا تم معالجة هذه القضية إسلاميا ظهر لنا تلقائيا الحل الإسلامي لمشكلة الحرية .
المنطلق الإسلامي هو في المبادرة إلى تنفيذ العبودية . العبودية لله وحده . وركيزة هذا الحل ترجع إلى مسلمة ؛ تلك هي : أن العبودية حاجة إنسانية ، موازية تماما لحاجة الإنسان إلى الحرية . وإذا كان العصر الحاضر قد رفع شعار الحرية فقد دلف منها - لعدم ارتباطه بالمنهج الرباني- إلى واقع العبودية دون قصد أو دون إدراك . وموقفه اليوم أشبه بمن يمد الجسم بهرمون صناعي ليعالج المرض بعد وقوعه واستفحاله . أما الإسلام فانه عندما رفع شعار العبودية لله وحده ، فقد دلف منها _ بقصد وعلم - إلى واقع كمال العبودية ، وكمال الحرية معا . وموقفه أشبه بمن يبني الجسم بالغذاء الصحيح ابتداء إن العبودية طبيعة أولى في نفس الإنسان : بدليل أنه مخلوق لا يملك لنفسه شيئا في ألصق الأشياء به وأكثرها حميمية إليه . لذا فانه إذا لم يبدأ باختيار معبوده - الذي هو الله في الوضع الصحيح - بوعي صادق ، فانه يقع في العبودية لغير الله بوعي أو بغير وعي . إنه يقع في العبودية للآباء والأجداد ، أو لأرواح الآباء والأجداد .أو لزعيم متجبر .أو لفيلسوف متقعر . أو لما يسمى ( العقل ) [ طالع أرسطو ومدرسة العقليين ] أو لما يسمى المثل العليا [ طالع أفلاطون ومدرسة المثاليين ] . أو لما يسمى ( الإنسانية الخالدة ) [ طالع أو جست كونت ومدرسة الوضعيين ] . أو لما يسمى ( روح المجتمع ) [ طالع دوركايم ومدرسة الاجتماعيين ] . أو لما يسمى ( الجوهر ) المادي، أو ما يسمى الطبيعة .[ طالع فلسفة الطبيعيين قديما وحديثا ] .أو لشهوة ، أو مخدر [ طالع مذهب اللذة في الأخلاق ] . أو لما يسمى ( عبودية العدالة ) [ طالع مونتسكيو في قوله : إذا تحررنا من عبودية الدين فيجب ألا نتحرر من عبودية العدالة )[1]. أو لعادات اليوم والساعة [ لاحظ مسلك اللاأدريين ] إلى آخر ما اخترعه الإنسان في تاريخ ضلاله الطويل . في كل هذه الطرق يتم تسليم النفس . وما ذاك إلا لأن نداء العبودية كامن في أعماق البشر جميعا ... ولذا جاء عرض هذه الحقائق عن عبودية الإنسان - كفطرة - بإلحاح في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة .. يقول تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) 56 الذاريات . وفي التصور الإسلامي تأتي العبودية صفة لازمة لجميع الخلق : ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا )93 مريم ، غاية ما في الأمر أن الإنسان قد تميز بان أعطيت له كرامة المسئولية ، وأمانة الاختيار ؛ بأن يتجه في عبادته باختيار ووعي وإرادة : ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) 17 الزمر . وفي القاموس العربي- في تشابكه مع القاموس الإسلامي - : ( العبد الإنسان : حرا كان أو رقيقا )
ومنطقيا : فان كل مخلوق لا يسعه إلا أن يكون عبدا لخالقه . أنظر لنفسك ، واستحضر أن لك جسدا ، وأن لك نفسا ، وأن لك بصرا ، وأن لك حركة ، وأن لك ولدا ، وأن لك طعاما وشرابا ... الخ ... ماذا يكون شعورك الحق لامتلاكك هذه الأشياء ؟ ومن أين حصلت عليها ؟ لاشك أن المرء عندئذ يوقن بأنه ليس له من أمر نفسه شيء ، وأنه بضاعة مستوردة لم يدفع لها ثمنا بعد ، وأنه لا يملك لنفسه شيئا . وليس هناك كلمة تعبر عن هذا الإحساس إلا ( العبودية ) . العبودية المطلقة للخالق المالك : ( قل اللهم مالك الملك ) 26 آل عمران . فهي عبودية لازمة للإنسان في كل حركة من حركاته ، وكل سكنة من سكناته : في دار التكليف في هذه الحياة الدنيا .ثم تستمر معه في البرزخ ، ثم تلزمه يوم القيامة حيث يدعى الخلق جميعا للسجود ، فيسجد المؤمنون ، ويبقى الكفار لا يستطيعون : ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) 42 القلم . فإذا دخلوا دار الجزاء : انقطع التكليف هناك ، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولانصبا . ( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) 2.6 الأعراف .
وتأتي العبادات الإسلامية لترسخ معنى العبودية لله : في طريقة الوضوء ، لماذا ؟ في التيمم ، لماذا ؟ في عدد الصلوات ، ؟ في أيام الصيام ؟ في أنصبة الزكاة ؟ في أيام الحج ؟ في عدد مرات الطواف ؟ في التردد المعين بين الصفا والمروة ؟ في حروف فواتح السور ؟ .إنها أوامر المعبود إلى العابد ليتحقق بها كمال العبودية ، وكمال الامتثال : ( لبيك بحجة حقا ، وتعبدا ، ورقا ) . عندئذ يكون الحل في ( إياك نعبد ) ولا نعبد سواك .
وعندئذ يتحقق للإنسان كمال العبودية ؛ فيتحقق له كمال الحرية : يتحقق له كمال العبودية لأنه إنما يتعبد لله المتصف بصفات الكمال . إنه لا يتعبد لباحث عن عون أو إمداد ، أو بعبارة أخرى : إنه لا يتعبد لناقص في صفة الوجود ، أو لناقص في صفة الإرادة ، أو لناقص في صفة القدرة ، أو لناقص في حسن الاسم وحسن الصفة وحسن الفعل . ويتحقق له أسمى درجات الحرية البشرية . فهو حر إزاء كل صنوف القهر التي تعرض له. إنه لا يستشعر القهر أمام موجود غير الله . لا يستشعر القهر أمام الطبيعة ، أو أمام البيئة ، أو أمام النفس ، أو أمام الأسرة ، أو المجتمع ، أو أمام الزعيم ،أو أمام المال ، أو أمام الشهوة ، أو أمام الحرمان ، أو أمام السجن ، أو أمام الموت . إنه لا يستشعر القهر أمام شيء من ذلك ، لأنه قد استفرغ حاجته للعبودية في توجهه لله وحده ، فاستشعر الحرية كاملة في أسمى درجاتها البشرية ، وأصفي معانيها الإنسانية . وهو عندما يمارس الطاعة لمصدر من المصادر الواجب طاعتها فإنما يفعل ذلك ضمن دائرة طاعته لله وحده .الطاعة إنما هي لله . قد يطيع المسلم - ظاهرا - غير الله ، لكن من باب طاعته لله . هكذا هو في طاعته للرسول - صلى اله عليه وسلم - وأولي الأمر . وهكذا هو في طاعته للوالدين ، ... الخ .إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . تلك هي حقيقة العبودية لله ...العبودية لله وحده لا شريك له . إن لفظ " الحرية " لم يأت مرة واحدة في القران الكريم ، بينما وردت كلمة العبودية وما يشتق منها أكثر من مائة وأربعين مرة . ولا نكاد نجد كلمة الحرية في التراث إلا قليلا نادرا . ولكن هذه الحرية تتحقق منهجيا بأسمى صورها عن طريق إفراده سبحانه وتعالى بالعبودية وتسليم النفس . فمن عبوديتنا له انعم علينا بالحرية : وهذه الحرية إذ تأتي في إطار العبودية لله فإنها لن تكون شيئا إلا الحرية المسئولة بتبعاتها وحساباتها أمام الله تعالى ، أنعم علينا بالحرية المسئولة في العقيدة : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) 99 يونس ، ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) 29 الكهف ( لا إكراه في الدين ) بعد أن يكون ( قد تبين الرشد من الغي ) 256 البقرة ، وهي مسئولة امام الله بالجزاء عن ممارستها للحرية إذ يقول تعالى في السياق نفسه : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) 257 البقرة ومسئوليتها تنحصر أمام الله إن انحصرت ممارستها في القلب ومسئولة أيضا أمام السلطة الإسلامية إن تعدته إلى الفعل المكشوف وهنا يأتي – في نطاق العقيدة – حد الردة الثابت بالسنة النبوية القولية والعملية
وهو من ثم قد انعم علينا بفروع هذه الحرية المشمولة بالمسئولية . . أنعم علينا بحرية الفكر المسئول : يقول تعالى : ( قل إنما أعظكم بواحدة ؛ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ، ثم تتفكروا ... )46 سبأ وأنعم علينا بحرية البحث العلمي المسئول : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض ، واختلاف ألسنتكم وألوانكم ، إن في ذلك لآيات للعالمين ) 22 الروم وأنعم علينا بالحرية المسئولة في العبادة ، فقد جاء في أمان عمر لأهل إيلياء ( إنه لا تسكن كنائسهم ، ولا تهدم ولا ينقص منها ، ولا من أموالها ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحدهم ) . وأنعم علينا بالحرية السياسية المسئولة أيضا : يقول أبو بكر رضي اله عنه في أول خطبة له بعد إن تولى الخلافة : ( أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فان أحسنت فتابعوني ، وإن صدفت فقوموني ، القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه ، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، وإن عصيت فلا طاعة لي عليكم ) الشورى :
وتأتي هذه الحرية السياسية من أوسع أبوابها في الشورى : والشورى جزء من التكاليف الشرعية في الإسلام ، وليست ترفا يمارسه الفرد أو الجماعة بمحض المزاج العام أو الخاص ، يقول تعالى : ( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة ، وأمرهم شورى بينهم ، ومما رزقناهم ينفقون ، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) 36- 39 الشورى . وكما أن الصلاة مسئولية المسلم أمام ربه فكذلك الشورى مسئولية المسلم أمام مولاه سبحانه وتعالى ، وتصبح الشورى من ثم واجبا دينيا قبل أن تكون مزاجا شخصيا أو مزاجا اجتماعيا ... أو طورا من أطوار التنمية السياسية . وهي كذلك ليست حركة من حركات التحرر على مستوى الفرد أو مستوى المجتمع أو مستوى الإنسان يملك الفرد أو المجتمع إقامتها وإهدارها حسب الأحوال والظروف ، وإنما هي واجب من واجبات العبودية لله تعالى باعتبارها تكليفا إلهيا صادرا من المعبود بحق ، إلى عباده المفردين عبوديتهم له وحده . وهو تكليف صادر للمؤمنين على وجه العموم ، كما هو صادر لقائدهم رسول الله أو من يخلفه على وجه الخصوص ، ولذا جاء قوله تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم ،وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله ‘ إن الله يحب المتوكلين ) 159 آل عمران . وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى الوحي ساعة من ليل ، أو ساعة من نهار ، مكلفا بهذه الشورى فهي في حق غيره من الأفراد والمسئولين والجماعات والمجتمعات ألزم وأوجب . ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس استشارة لأصحابه ، كما يقول عنه أبو هريرة رضي الله عنه - فيما رواه البخاري بسنده في صحيحه - ( ما رأيت أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . ووقائع الشورى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة في سيرته عليه الصلاة والسلام : في غزوة بدر وفي غزوة أحد وفي غزوة الخندق وكان حول النبي صلى الله عليه وسلم شيوخ المهاجرين والأنصار ، يستشيرهم فيما ليس من الوحي ، كما أن هؤلاء الشيوخ كانوا يرجعون إلى عشائرهم وجماعاتهم ، وفي ذلك جاء قوله لهم ذات مرة : ( إنا لا ندري من أذن لكم ممن لم يأذن ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه بأنهم قد أذنوا ) رواه البخاري بسنده في باب المساقاة . وكذلك كان الخلفاء الراشدون يستشيرون كبار الصحابة المشهود لهم بالرأي والجهاد والعلم والرأي . وإذا كان البعض يتساءل اليوم حول فريضة الشورى في الإسلام مشككا فيها لحساب أنظمة أخرى لا تعبر عن الذاتية الإسلامية ... : أهي شورى ملزمة ؟ أم معلمة ؟ يعني : أهي ملزمة للمستشير ؟ أم هي رأي يساق إليه لإعلامه به ، فيعمل به أولا يعمل ؟ فإننا نقول لهم ببساطة شديدة : ليست الشورى ملزمة في جميع الأحوال ، ولا هي معلمة في جميع الأحوال ، حتى في أعرق الأنظمة أخذا بمبادئ ما يسمى بالديموقراطية ، ويكفي على سبيل المثال لا الحصر أن نسأل : أليس على الوزير في تلك الأنظمة أن يستشير وكلاءه ومدراءه بحكم اللائحة ؟ فإذا كان الجواب : نعم ، فهل لقائل أن يقول : إنها ملزمة في مثل هذه الحالة ؟ لا أحد يقول بذلك . ولنقرأ ما كتبه روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأسبق في الولاياتالمتحدةالأمريكية في كتابه ( صحوة ضمير ) الذي أصدره بعد مرور سبعة وعشرين عاما لزم فيها الصمت حول مأساة حرب فيتنام ولم ينس ماكنمارا للرئيس الراحل - بالرغم من مرور هذه المدة الطويلة - .. الأكاذيب التي كان يطلقها حول هذه الحرب أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في الستينات ، ويستعرض ماكنمارا أساليب المناورة التي كان جونسون يلجأ إليها داخل البيت الأبيض ومن بينها ( رفضه إن يستشير مجلس النواب الأمريكي حول حرب فيتنام ، وقد دفع الشعب الأمريكي ثمنا باهظا لذلك ) [2]هكذا
وفي الجو الإسلامي فإنه لم يكن ما يستقل الحاكم بإبرامه بعد الشورى يتعدى ما هو من صلاحية السلطة التنفيذية اليوم في إصدار اللوائح والقرارات والمراسيم الرئاسية والإدارية ، وذلك لسبب بسيط في هيكلية النظام الإسلامي يجهله دراويش النظام الغربي ، وهو أنه قد تم الفصل فيه بين السلطة التشريعية فهي لله وحده ، والسلطة التنفيذية ، وبالتالي تم فصل القضاء ، لضرورة أن القاضي إنما يحكم بشرع خارج عن نطاق السلطة التنفيذية ، والذي لا يفهمه هؤلاء الدراويش أن ذلك يتم حتى في الحالات الاستثنائية أو الاضطرارية التي تولى فيها الخليفة شيئا من القضاء ، لأنه هنا لا يجرؤ على مخالفة الحكم للشرع ، وهو واقع تحت رقابة صارمة من سلطان العلماء . ومن هنا فالحسم في هذه القضية : متى تكون ملزمة ؟ ومتى تكون معلمة ؟ يرجع بدوره إلى الأمة – والأمة الإسلامية كذلك – التي عليها أن ترجع في ذلك إلى مبدأ الشورى نفسه ، لتختار في قانونها الأساسي – الدستور مثلا – على أساس هذا المبدأ نفسه في أي المسائل ، وفي أي المستويات ، وفي أي التطبيقات تكون الشورى ملزمة ، وفي أيها تكون معلمة .وفي حدود التسليم لشريهة الله وهنا نلمح خاصة من خواص الذاتية الإسلامية من حيث كونه الصالح لكل زمان ومكان ، والذي - بناء على ذلك - ترك في هذا الباب تحديد التفاصيل ، ليضعها المسلمون وفق أحوالهم وأزمانهم ، آخذين في كل حال بمبادئ الشريعة الإسلامية . وهنا تظهر خاصة أخرى من خواص الذاتية الإسلامية تبرز في موضوع الشورى ، حيث لا تكون الشورى في أمر حسمته الشريعة الإسلامية ، فتستبعد من ثم كل الموضوعات التي تعارضها فلا يستشار فيها ، وإنما هي لازمة بغير الشورى ، والشورى غير صالحة لان تمسها بتغيير . وإذا كان هذا يعني أن الشورى في الإسلام ليست مطلقة فكذلك الأمر في الديموقراطية ، فإن حرية الرأي في الولاياتالمتحدةالأمريكية إنما تكون فقط – وفقا لأحكام المحكمة العليا – إنما تكون فقط للحرية التي تحترم القيم الأساسية للمجتمع .والديموقراطية في الهند لا تسمح بالإساءة للبقرة .[3] والديموقراطية الحديثة هي تلك التي تعلن على الأشهاد في حياتنا المعاصرة أنها لا تسمح في مجال نفوذها بشيء من الديموقراطية للتيار الإسلامي أو التيار غير العلماني بوجه عام ، فإذا قيل : إنه في الإسلام لا شورى للعلمانية ، فمن الصحيح وبنفس القدر أنه في العلمانية لا ديموقراطية للإسلام ، وهي حقيقة تظل قائمة برغم كافة التبريرات .. يبقى الفرق الذاتي قائما في : التقيد بالشريعة في الحالة الإسلامية ، يقول تعالى ( ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( ... فأولئك هم الفاسقون ) ، ( ... فأولئك هم الفاسقون ). ويبقى التقيد بالعلمانية في الحالة الديموقراطية، مع النزول على حكم الأغلبية المطلقة - و قل استبدادها - : لها الحق في أن تشرع ما تشاء . وينبني على الفرق الذاتي المتقدم أن تكون الشورى الإسلامية بحثا عن آراء ، بينما الأمر في الديموقراطية يكون بحثا عن إرادات ، إنه في الشورى تتراجع الإرادة حيث توصم بالهوى ، لتفسح المجال للرأي حيث تكون وظيفته الكشف عن حكم الله : في نموذج الأحكام الخمسة - الواجب ، والمحرم ، والمسنون ،والمكروه ، والمباح - متصلا ذلك كله بأصول الشريعة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصالح المرسلة والاستحسان وسد الذرائع .. الخ ؛ متصلا كذلك بمقاصد الشريعة في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، ليقوم بذلك من يملك النظر والخبرة والترجيح من أهل الرأي ... بينما الأمر في الديموقراطية : يتراجع الرأي - بعد أن تتاح له فرصة مريضة في مهرجان الدعايات الانتخابية - ليفسح المجال لأعداد صماء ، يسفر عنها إحصاء الإرادات التي تظهر في الانتخاب أو الاستفتاء ، الذي هو حق لكل مواطن . ففي قلب الديموقراطية الأثينية التي تعتبر نموذج الديموقراطية في التاريخ ( كان يصح نفي أي فرد بموافقة الشعب ، وكانت الحياة الخاصة للأفراد تحت سلطة الدولة ، فقد كان لها صلاحية أن تحرم على إنسان - مثلا - أن يتزوج ، ويبقى عزبا ، وكان على الفرد أن يعتنق دين الدولة ، وكانت ثروته تحت تصرفها ، ولها إذا احتاجت للمال أن تأمر النساء بتسليم المجوهرات ، وأن تأمر الدائنين أن يتنازلوا عن ديونهم لها )[4] ، واليوم يكون للديموقراطية نفس الشيء مع اختلاف الاختيارات ، فلها أن تبيح الإجهاض ، وأن تبيح الشذوذ ، وأن تبيح الخمر ، وأن تمنع بناء المساجد ، وتمنع التعليم الديني وهكذا تتضح الصورة يتبع . ------------------------------------------------------------------------ [1] انظر هرمان راندال في كتابه " تكوين العقل الحديث في بحثه عن تأثير مونتسكيو وبتنام في حركة التشريع في القرن الثامن عشر . [2] أنظر تلخيص الكتاب بجريد الخليج بتاريخ 5 9 1995 [3] أنظر مقال فهمي هويدي : الخليج 1031998 [4] أنظر كتاب ( الشورى ) للدكتور عبد الحميد الأنصاري ص 37