ختام أنشطة البرنامج التدريبى للطاقة الشمسية فى بنبان بأسوان    رئيس جامعة كفر الشيخ يتفقد مطعم المدن الجامعية للاطمئنان على جودة التغذية| صور    مدير التربية والتعليم يتفقد ورش تدريب المعلمين الجدد بالإسكندرية | صور    محافظ بني سويف يطمئن على الاستعداد لاحتفالات العام الميلادي الجديد    الفلاح المصرى.. عصب التنمية.. من عرق الأرض إلى بناء الجمهورية الجديدة    حياة كريمة «الدير»إعادة إعمار شاملة    الاعتدال كلمة السر ضد من يتطاول على مصر    خالد عكاشة: مصر أنجزت السلام بجهد وطني وتُدير أزمات الإقليم بصلابة    مالي وبوركينا فاسو تفرضان قيودًا على دخول الأمريكيين ردًا على حظر واشنطن    الرئيس الإيراني يدعو إلى التضامن بدلا من الاحتجاجات    عمر جابر: التاريخ كتبه الزمالك ونحن أبناؤه مهما حدث    محافظ سوهاج يشهد فعاليات المهرجان الرياضي لذوي الإعاقة "قادرون باختلاف"    ليفربول يتلقى ردا رسميا بشأن عودة كلوب    عبد المجيد عبد الله: حادثة مصحة المريوطية «جرس إنذار».. وليست واقعة معزولة    بالأسماء.. إصابة 3 سيدات بينهن طفلة في حادث انقلاب سيارة ملاكي بترعة بالمنصورة    أم الدنيا    حفلات رأس السنة 2026 تشعل مصر والعالم العربي    الإفتاء: الدعاءُ في آخر العام بالمغفرة وفي أولِه بالإعانة من جملة الدعاء المشروع    الاجتماع الشهري لفرق مكافحة العدوى بالإدارات الصحية ومستشفيات صحة قنا    العملة الإيرانية تهوي إلى أدنى مستوى تاريخي وتفاقم الضغوط على الأسواق    حجز محاكمة 3 متهمات بالاعتداء على الطالبة كارما داخل مدرسة بالتجمع لجلسة 28 يناير    العثور على جثة شخص أمام مسجد عبد الرحيم القنائي بقنا    محافظ الغربية: طريق مصرف الزهار هدية طال انتظارها لأهالي مركز قطور    أسواق اليوم الواحد حققت نجاحًا كبيرًا.. وافتتاح سوق جديد بإمبابة الأسبوع المقبل    كنوز| مصطفى أمين الشاهد الأمين على كرم «صاحبة العصمة»    «بحاول أرمم حاجات اتكسرت»| أحمد السقا يحسم جدل عودته ل مها الصغير    معتز التوني: أذهب للجيم للكلام فقط.. ومهنة المذيع أصعب من الإخراج    كنوز| «الضاحك الباكي» يغرد في حفل تكريم كوكب الشرق    حصاد 2025.. عام استثنائي من العمل والنجاحات بمديرية الشباب والرياضة بالجيزة    الضفة.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يقتحم مسجدا ويلحق به أضرارا جسيمة    وزير العمل يعلن صرف 299.2 مليون جنيه منحة عيد الميلاد للعمالة غير المنتظمة    إكسترا نيوز: التصويت بانتخابات النواب يسير بسلاسة ويسر    ظهور مميز ل رامز جلال من داخل الحرم المكي    هل يجوز الحرمان من الميراث بسبب الجحود أو شهادة الزور؟.. أمين الفتوى يجيب    مدافع جنوب إفريقيا: علينا تصحيح بعض الأمور حتى نواصل المشوار إلى أبعد حد ممكن    وزير «الصحة» يتابع تنفيذ خطة التأمين الطبي لإحتفالات رأس السنة وأعياد الميلاد    خالد الجندي: الله يُكلم كل عبد بلغته يوم القيامة.. فيديو    "التعليم الفلسطينية": 7486 طالبًا استشهدوا في غزة والضفة الغربية منذ بداية 2025    وزير الصحة يتابع تنفيذ خطة التأمين الطبي لاحتفالات رأس السنة وأعياد الميلاد المجيد    الداخلية تضبط تشكيلًا عصابيًا للنصب بانتحال صفة موظفي بنوك    بشرى سارة لأهالي أبو المطامير: بدء تنفيذ مستشفي مركزي على مساحة 5 أفدنة    حصاد 2025.. جامعة العاصمة ترسخ الوعي الوطني من خلال حصادًا نوعيًا للأنشطة العسكرية والتثقيفية    ذات يوم 31 ديسمبر 1915.. السلطان حسين كامل يستقبل الطالب طه حسين.. اتهامات لخطيب الجمعة بالكفر لإساءة استخدامه سورة "عبس وتولى" نفاقا للسلطان الذى قابل "الأعمى"    دون أي مجاملات.. السيسي: انتقاء أفضل العناصر للالتحاق بدورات الأكاديمية العسكرية المصرية    حصاد 2025| منتخب مصر يتأهل للمونديال ويتألق في أمم أفريقيا.. ووداع كأس العرب النقطة السلبية    دينيس براون: الأوضاع الإنسانية الراهنة في السودان صادمة للغاية    إيمري يوضح سبب عدم مصافحته أرتيتا بعد رباعية أرسنال    إجازة السبت والأحد لطلاب مدارس جولة الإعادة في انتخابات النواب بأسوان    وزارة الصحة: صرف الألبان العلاجية للمصابين بأمراض التمثيل الغذائى بالمجان    رابط التقديم للطلاب في المدارس المصرية اليابانية للعام الدراسي 2026/2027.. يبدأ غدا    إصابة 8 عاملات في حادث انقلاب ميكروباص بالطريق الصحراوي القاهرة–الإسكندرية بالبحيرة    "القومي للمسرح" يطلق مبادرة"2026.. عامًا للاحتفاء بالفنانين المعاصرين"    مواعيد مباريات الأربعاء 31 ديسمبر - الجزائر وكوت ديفوار والسودان في أمم إفريقيا.. وكأس عاصمة مصر    محافظ أسيوط: عام 2025 شهد تقديم أكثر من 14 مليون خدمة طبية للمواطنين بالمحافظة    «اتصال» وImpact Management توقعان مذكرة تفاهم لدعم التوسع الإقليمي لشركات تكنولوجيا المعلومات المصرية    مصرع طفل صدمه قطار أثناء عبوره مزلقان العامرية بالفيوم    توتر متصاعد في البحر الأسود بعد هجوم مسيّرات على ميناء توابسه    رضوى الشربيني عن قرار المتحدة بمقاطعة مشاهير اللايفات: انتصار للمجتهدين ضد صناع الضجيج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معركة الذاتية الإسلامية
نشر في الشعب يوم 15 - 09 - 2007


yehia_hashem@ hotmail .com
[email protected]

إذا كان من أبرز التحديات التي يطرحها الفكر المعاصر أمام الفكر الإسلامي : قضية الحرية فقد أشرنا في المقال السابق إلى أن المفتاح الإسلامي هنا ، هو : إفراد الله بالعبودية .. في التوحيد
تلك هي البداية
والحل الإسلامي لهذه المشكلة - من منطلق الذاتية الإسلامية - إنما يبدأ من معالجته لقضية سابقة : هي قضية العبودية
***
ولنتفق على مسمى العبودية أولا ذلك أنه مهما يقع حوله من خلاف فإنه لا خلاف على كونه : تسليم النفس للغير جبرا أواختيارا . في هذا الإطار نقول :إنه إذا تم معالجة هذه القضية إسلاميا ظهر لنا تلقائيا الحل الإسلامي لمشكلة الحرية .

المنطلق الإسلامي هو في المبادرة إلى تنفيذ العبودية . العبودية لله وحده .
وركيزة هذا الحل ترجع إلى مسلمة ؛ تلك هي : أن العبودية حاجة إنسانية ، موازية تماما لحاجة الإنسان إلى الحرية . وإذا كان العصر الحاضر قد رفع شعار الحرية فقد دلف منها - لعدم ارتباطه بالمنهج الرباني- إلى واقع العبودية دون قصد أو دون إدراك . وموقفه اليوم أشبه بمن يمد الجسم بهرمون صناعي ليعالج المرض بعد وقوعه واستفحاله .
أما الإسلام فانه عندما رفع شعار العبودية لله وحده ، فقد دلف منها _ بقصد وعلم - إلى واقع كمال العبودية ، وكمال الحرية معا . وموقفه أشبه بمن يبني الجسم بالغذاء الصحيح ابتداء
إن العبودية طبيعة أولى في نفس الإنسان : بدليل أنه مخلوق لا يملك لنفسه شيئا في ألصق الأشياء به وأكثرها حميمية إليه .
لذا فانه إذا لم يبدأ باختيار معبوده - الذي هو الله في الوضع الصحيح - بوعي صادق ، فانه يقع في العبودية لغير الله بوعي أو بغير وعي .
إنه يقع في العبودية للآباء والأجداد ، أو لأرواح الآباء والأجداد .أو لزعيم متجبر .أو لفيلسوف متقعر . أو لما يسمى ( العقل ) [ طالع أرسطو ومدرسة العقليين ] أو لما يسمى المثل العليا [ طالع أفلاطون ومدرسة المثاليين ] . أو لما يسمى ( الإنسانية الخالدة ) [ طالع أو جست كونت ومدرسة الوضعيين ] . أو لما يسمى ( روح المجتمع ) [ طالع دوركايم ومدرسة الاجتماعيين ] . أو لما يسمى ( الجوهر ) المادي، أو ما يسمى الطبيعة .[ طالع فلسفة الطبيعيين قديما وحديثا ] .أو لشهوة ، أو مخدر [ طالع مذهب اللذة في الأخلاق ] . أو لما يسمى ( عبودية العدالة ) [ طالع مونتسكيو في قوله : إذا تحررنا من عبودية الدين فيجب ألا نتحرر من عبودية العدالة )[1]. أو لعادات اليوم والساعة [ لاحظ مسلك اللاأدريين ] إلى آخر ما اخترعه الإنسان في تاريخ ضلاله الطويل .
في كل هذه الطرق يتم تسليم النفس . وما ذاك إلا لأن نداء العبودية كامن في أعماق البشر جميعا ...
ولذا جاء عرض هذه الحقائق عن عبودية الإنسان - كفطرة - بإلحاح في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة ..
يقول تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) 56 الذاريات .
وفي التصور الإسلامي تأتي العبودية صفة لازمة لجميع الخلق : ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا )93 مريم ، غاية ما في الأمر أن الإنسان قد تميز بان أعطيت له كرامة المسئولية ، وأمانة الاختيار ؛ بأن يتجه في عبادته باختيار ووعي وإرادة : ( فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) 17 الزمر .
وفي القاموس العربي- في تشابكه مع القاموس الإسلامي - : ( العبد الإنسان : حرا كان أو رقيقا ) ‍‍‍

ومنطقيا : فان كل مخلوق لا يسعه إلا أن يكون عبدا لخالقه .
أنظر لنفسك ، واستحضر أن لك جسدا ، وأن لك نفسا ، وأن لك بصرا ، وأن لك حركة ، وأن لك ولدا ، وأن لك طعاما وشرابا ... الخ ... ماذا يكون شعورك الحق لامتلاكك هذه الأشياء ؟ ومن أين حصلت عليها ؟ لاشك أن المرء عندئذ يوقن بأنه ليس له من أمر نفسه شيء ، وأنه بضاعة مستوردة لم يدفع لها ثمنا بعد ، وأنه لا يملك لنفسه شيئا . وليس هناك كلمة تعبر عن هذا الإحساس إلا ( العبودية ) .
العبودية المطلقة للخالق المالك : ( قل اللهم مالك الملك ) 26 آل عمران .
فهي عبودية لازمة للإنسان في كل حركة من حركاته ، وكل سكنة من سكناته : في دار التكليف في هذه الحياة الدنيا .ثم تستمر معه في البرزخ ، ثم تلزمه يوم القيامة حيث يدعى الخلق جميعا للسجود ، فيسجد المؤمنون ، ويبقى الكفار لا يستطيعون : ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) 42 القلم .
فإذا دخلوا دار الجزاء : انقطع التكليف هناك ، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحا مقرونا بأنفاسهم لا يجدون له تعبا ولانصبا .
( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) 2.6 الأعراف .

وتأتي العبادات الإسلامية لترسخ معنى العبودية لله : في طريقة الوضوء ، لماذا ؟ في التيمم ، لماذا ؟ في عدد الصلوات ، ؟ في أيام الصيام ؟ في أنصبة الزكاة ؟ في أيام الحج ؟ في عدد مرات الطواف ؟ في التردد المعين بين الصفا والمروة ؟ في حروف فواتح السور ؟ .إنها أوامر المعبود إلى العابد ليتحقق بها كمال العبودية ، وكمال الامتثال : ( لبيك بحجة حقا ، وتعبدا ، ورقا ) .
عندئذ يكون الحل في ( إياك نعبد ) ولا نعبد سواك .

وعندئذ يتحقق للإنسان كمال العبودية ؛ فيتحقق له كمال الحرية : يتحقق له كمال العبودية لأنه إنما يتعبد لله المتصف بصفات الكمال .
إنه لا يتعبد لباحث عن عون أو إمداد ، أو بعبارة أخرى : إنه لا يتعبد لناقص في صفة الوجود ، أو لناقص في صفة الإرادة ، أو لناقص في صفة القدرة ، أو لناقص في حسن الاسم وحسن الصفة وحسن الفعل .
ويتحقق له أسمى درجات الحرية البشرية . فهو حر إزاء كل صنوف القهر التي تعرض له. إنه لا يستشعر القهر أمام موجود غير الله . لا يستشعر القهر أمام الطبيعة ، أو أمام البيئة ، أو أمام النفس ، أو أمام الأسرة ، أو المجتمع ، أو أمام الزعيم ،أو أمام المال ، أو أمام الشهوة ، أو أمام الحرمان ، أو أمام السجن ، أو أمام الموت . إنه لا يستشعر القهر أمام شيء من ذلك ، لأنه قد استفرغ حاجته للعبودية في توجهه لله وحده ، فاستشعر الحرية كاملة في أسمى درجاتها البشرية ، وأصفي معانيها الإنسانية .
وهو عندما يمارس الطاعة لمصدر من المصادر الواجب طاعتها فإنما يفعل ذلك ضمن دائرة طاعته لله وحده .الطاعة إنما هي لله . قد يطيع المسلم - ظاهرا - غير الله ، لكن من باب طاعته لله . هكذا هو في طاعته للرسول - صلى اله عليه وسلم - وأولي الأمر . وهكذا هو في طاعته للوالدين ، ... الخ .إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . تلك هي حقيقة العبودية لله ...العبودية لله وحده لا شريك له .
إن لفظ " الحرية " لم يأت مرة واحدة في القران الكريم ، بينما وردت كلمة العبودية وما يشتق منها أكثر من مائة وأربعين مرة . ولا نكاد نجد كلمة الحرية في التراث إلا قليلا نادرا . ولكن هذه الحرية تتحقق منهجيا بأسمى صورها عن طريق إفراده سبحانه وتعالى بالعبودية وتسليم النفس .
فمن عبوديتنا له انعم علينا بالحرية : وهذه الحرية إذ تأتي في إطار العبودية لله فإنها لن تكون شيئا إلا الحرية المسئولة بتبعاتها وحساباتها أمام الله تعالى ،
أنعم علينا بالحرية المسئولة في العقيدة : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) 99 يونس ، ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) 29 الكهف ( لا إكراه في الدين ) بعد أن يكون ( قد تبين الرشد من الغي ) 256 البقرة ، وهي مسئولة امام الله بالجزاء عن ممارستها للحرية إذ يقول تعالى في السياق نفسه : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) 257 البقرة
ومسئوليتها تنحصر أمام الله إن انحصرت ممارستها في القلب ومسئولة أيضا أمام السلطة الإسلامية إن تعدته إلى الفعل المكشوف وهنا يأتي – في نطاق العقيدة – حد الردة الثابت بالسنة النبوية القولية والعملية

وهو من ثم قد انعم علينا بفروع هذه الحرية المشمولة بالمسئولية . .
أنعم علينا بحرية الفكر المسئول : يقول تعالى : ( قل إنما أعظكم بواحدة ؛ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ، ثم تتفكروا ... )46 سبأ
وأنعم علينا بحرية البحث العلمي المسئول : ( ومن آياته خلق السماوات والأرض ، واختلاف ألسنتكم وألوانكم ، إن في ذلك لآيات للعالمين ) 22 الروم
وأنعم علينا بالحرية المسئولة في العبادة ، فقد جاء في أمان عمر لأهل إيلياء ( إنه لا تسكن كنائسهم ، ولا تهدم ولا ينقص منها ، ولا من أموالها ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحدهم ) .
وأنعم علينا بالحرية السياسية المسئولة أيضا : يقول أبو بكر رضي اله عنه في أول خطبة له بعد إن تولى الخلافة : ( أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم ، فان أحسنت فتابعوني ، وإن صدفت فقوموني ، القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه ، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، وإن عصيت فلا طاعة لي عليكم )
الشورى :

وتأتي هذه الحرية السياسية من أوسع أبوابها في الشورى : والشورى جزء من التكاليف الشرعية في الإسلام ، وليست ترفا يمارسه الفرد أو الجماعة بمحض المزاج العام أو الخاص
، يقول تعالى : ( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا ، وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة ، وأمرهم شورى بينهم ، ومما رزقناهم ينفقون ، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ) 36- 39 الشورى .
وكما أن الصلاة مسئولية المسلم أمام ربه فكذلك الشورى مسئولية المسلم أمام مولاه سبحانه وتعالى ، وتصبح الشورى من ثم واجبا دينيا قبل أن تكون مزاجا شخصيا أو مزاجا اجتماعيا ... أو طورا من أطوار التنمية السياسية .
وهي كذلك ليست حركة من حركات التحرر على مستوى الفرد أو مستوى المجتمع أو مستوى الإنسان يملك الفرد أو المجتمع إقامتها وإهدارها حسب الأحوال والظروف ، وإنما هي واجب من واجبات العبودية لله تعالى باعتبارها تكليفا إلهيا صادرا من المعبود بحق ، إلى عباده المفردين عبوديتهم له وحده .
وهو تكليف صادر للمؤمنين على وجه العموم ، كما هو صادر لقائدهم رسول الله أو من يخلفه على وجه الخصوص ، ولذا جاء قوله تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم ، واستغفر لهم ،وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت فتوكل على الله ‘ إن الله يحب المتوكلين ) 159 آل عمران .
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتلقى الوحي ساعة من ليل ، أو ساعة من نهار ، مكلفا بهذه الشورى فهي في حق غيره من الأفراد والمسئولين والجماعات والمجتمعات ألزم وأوجب .
ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر الناس استشارة لأصحابه ، كما يقول عنه أبو هريرة رضي الله عنه - فيما رواه البخاري بسنده في صحيحه - ( ما رأيت أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . ووقائع الشورى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة في سيرته عليه الصلاة والسلام :
في غزوة بدر وفي غزوة أحد وفي غزوة الخندق
وكان حول النبي صلى الله عليه وسلم شيوخ المهاجرين والأنصار ، يستشيرهم فيما ليس من الوحي ، كما أن هؤلاء الشيوخ كانوا يرجعون إلى عشائرهم وجماعاتهم ، وفي ذلك جاء قوله لهم ذات مرة : ( إنا لا ندري من أذن لكم ممن لم يأذن ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم ، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه بأنهم قد أذنوا ) رواه البخاري بسنده في باب المساقاة .
وكذلك كان الخلفاء الراشدون يستشيرون كبار الصحابة المشهود لهم بالرأي والجهاد والعلم والرأي .
وإذا كان البعض يتساءل اليوم حول فريضة الشورى في الإسلام مشككا فيها لحساب أنظمة أخرى لا تعبر عن الذاتية الإسلامية ... :
أهي شورى ملزمة ؟ أم معلمة ؟ يعني : أهي ملزمة للمستشير ؟ أم هي رأي يساق إليه لإعلامه به ، فيعمل به أولا يعمل ؟‍‍
فإننا نقول لهم ببساطة شديدة : ليست الشورى ملزمة في جميع الأحوال ، ولا هي معلمة في جميع الأحوال ، حتى في أعرق الأنظمة أخذا بمبادئ ما يسمى بالديموقراطية ، ويكفي على سبيل المثال لا الحصر أن نسأل : أليس على الوزير في تلك الأنظمة أن يستشير وكلاءه ومدراءه بحكم اللائحة ؟ فإذا كان الجواب : نعم ، فهل لقائل أن يقول : إنها ملزمة في مثل هذه الحالة ؟ لا أحد يقول بذلك .
ولنقرأ ما كتبه روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأسبق في الولايات المتحدة الأمريكية في كتابه ( صحوة ضمير ) الذي أصدره بعد مرور سبعة وعشرين عاما لزم فيها الصمت حول مأساة حرب فيتنام ولم ينس ماكنمارا للرئيس الراحل - بالرغم من مرور هذه المدة الطويلة - .. الأكاذيب التي كان يطلقها حول هذه الحرب أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في الستينات ، ويستعرض ماكنمارا أساليب المناورة التي كان جونسون يلجأ إليها داخل البيت الأبيض ومن بينها ( رفضه إن يستشير مجلس النواب الأمريكي حول حرب فيتنام ، وقد دفع الشعب الأمريكي ثمنا باهظا لذلك ) [2]هكذا

وفي الجو الإسلامي فإنه لم يكن ما يستقل الحاكم بإبرامه بعد الشورى يتعدى ما هو من صلاحية السلطة التنفيذية اليوم في إصدار اللوائح والقرارات والمراسيم الرئاسية والإدارية ، وذلك لسبب بسيط في هيكلية النظام الإسلامي يجهله دراويش النظام الغربي ، وهو أنه قد تم الفصل فيه بين السلطة التشريعية فهي لله وحده ، والسلطة التنفيذية ، وبالتالي تم فصل القضاء ، لضرورة أن القاضي إنما يحكم بشرع خارج عن نطاق السلطة التنفيذية ، والذي لا يفهمه هؤلاء الدراويش أن ذلك يتم حتى في الحالات الاستثنائية أو الاضطرارية التي تولى فيها الخليفة شيئا من القضاء ، لأنه هنا لا يجرؤ على مخالفة الحكم للشرع ، وهو واقع تحت رقابة صارمة من سلطان العلماء .
ومن هنا فالحسم في هذه القضية : متى تكون ملزمة ؟ ومتى تكون معلمة ؟ يرجع بدوره إلى الأمة – والأمة الإسلامية كذلك – التي عليها أن ترجع في ذلك إلى مبدأ الشورى نفسه ، لتختار في قانونها الأساسي – الدستور مثلا – على أساس هذا المبدأ نفسه في أي المسائل ، وفي أي المستويات ، وفي أي التطبيقات تكون الشورى ملزمة ، وفي أيها تكون معلمة .وفي حدود التسليم لشريهة الله
وهنا نلمح خاصة من خواص الذاتية الإسلامية من حيث كونه الصالح لكل زمان ومكان ، والذي - بناء على ذلك - ترك في هذا الباب تحديد التفاصيل ، ليضعها المسلمون وفق أحوالهم وأزمانهم ، آخذين في كل حال بمبادئ الشريعة الإسلامية .
وهنا تظهر خاصة أخرى من خواص الذاتية الإسلامية تبرز في موضوع الشورى ، حيث لا تكون الشورى في أمر حسمته الشريعة الإسلامية ، فتستبعد من ثم كل الموضوعات التي تعارضها فلا يستشار فيها ، وإنما هي لازمة بغير الشورى ، والشورى غير صالحة لان تمسها بتغيير .
وإذا كان هذا يعني أن الشورى في الإسلام ليست مطلقة فكذلك الأمر في الديموقراطية ، فإن حرية الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية إنما تكون فقط – وفقا لأحكام المحكمة العليا – إنما تكون فقط للحرية التي تحترم القيم الأساسية للمجتمع .والديموقراطية في الهند لا تسمح بالإساءة للبقرة .[3]
والديموقراطية الحديثة هي تلك التي تعلن على الأشهاد في حياتنا المعاصرة أنها لا تسمح في مجال نفوذها بشيء من الديموقراطية للتيار الإسلامي أو التيار غير العلماني بوجه عام ، فإذا قيل : إنه في الإسلام لا شورى للعلمانية ، فمن الصحيح وبنفس القدر أنه في العلمانية لا ديموقراطية للإسلام ، وهي حقيقة تظل قائمة برغم كافة التبريرات ..
يبقى الفرق الذاتي قائما في : التقيد بالشريعة في الحالة الإسلامية ، يقول تعالى ( ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون ) ، ( ... فأولئك هم الفاسقون ) ، ( ... فأولئك هم الفاسقون ).
ويبقى التقيد بالعلمانية في الحالة الديموقراطية، مع النزول على حكم الأغلبية المطلقة - و قل استبدادها - : لها الحق في أن تشرع ما تشاء .
وينبني على الفرق الذاتي المتقدم أن تكون الشورى الإسلامية بحثا عن آراء ، بينما الأمر في الديموقراطية يكون بحثا عن إرادات ، إنه في الشورى تتراجع الإرادة حيث توصم بالهوى ، لتفسح المجال للرأي حيث تكون وظيفته الكشف عن حكم الله : في نموذج الأحكام الخمسة - الواجب ، والمحرم ، والمسنون ،والمكروه ، والمباح - متصلا ذلك كله بأصول الشريعة في الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصالح المرسلة والاستحسان وسد الذرائع .. الخ ؛ متصلا كذلك بمقاصد الشريعة في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، ليقوم بذلك من يملك النظر والخبرة والترجيح من أهل الرأي ...
بينما الأمر في الديموقراطية : يتراجع الرأي - بعد أن تتاح له فرصة مريضة في مهرجان الدعايات الانتخابية - ليفسح المجال لأعداد صماء ، يسفر عنها إحصاء الإرادات التي تظهر في الانتخاب أو الاستفتاء ، الذي هو حق لكل مواطن .
ففي قلب الديموقراطية الأثينية التي تعتبر نموذج الديموقراطية في التاريخ ( كان يصح نفي أي فرد بموافقة الشعب ، وكانت الحياة الخاصة للأفراد تحت سلطة الدولة ، فقد كان لها صلاحية أن تحرم على إنسان - مثلا - أن يتزوج ، ويبقى عزبا ، وكان على الفرد أن يعتنق دين الدولة ، وكانت ثروته تحت تصرفها ، ولها إذا احتاجت للمال أن تأمر النساء بتسليم المجوهرات ، وأن تأمر الدائنين أن يتنازلوا عن ديونهم لها )[4] ، واليوم يكون للديموقراطية نفس الشيء مع اختلاف الاختيارات ، فلها أن تبيح الإجهاض ، وأن تبيح الشذوذ ، وأن تبيح الخمر ، وأن تمنع بناء المساجد ، وتمنع التعليم الديني وهكذا تتضح الصورة
يتبع .
------------------------------------------------------------------------
[1] انظر هرمان راندال في كتابه " تكوين العقل الحديث في بحثه عن تأثير مونتسكيو وبتنام في حركة التشريع في القرن الثامن عشر .
[2] أنظر تلخيص الكتاب بجريد الخليج بتاريخ 5 9 1995
[3] أنظر مقال فهمي هويدي : الخليج 1031998
[4] أنظر كتاب ( الشورى ) للدكتور عبد الحميد الأنصاري ص 37


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.