منذ سنوات ونحن نكتب ونتحدّث في كلّ مناسبة ممكنة عن معاناة مئات من النساء العربيات، منهنّ أمهات وحوامل وزوجات وبنات، اللّواتي اختطفتهنّ مخابرات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين من بيوتهنّ وأمام أطفالهنّ وأهلهن، وأودعتهنّ غياهب سجونه الوحشية، وهي ممارسة ترتكبها جيوش الاحتلال الأمريكي ضد النساء العراقيات، وقد حاول العديد من الكتاب والجمعيات الأهلية لحقوق الإنسان إقناع شخصيات برلمانية رسمية أمريكية وأوروبية لتبني قضيتهنّ خاصةً أنهن لم توجه إليهنّ أيّ تهمة، ولكن دون جدوى. عدد من هؤلاء النسوة وضعن أطفالهن في السجون وهنّ مقيدات الأيدي والأرجل، علماً أنهن لم يحملن يوماً سلاحاً. ومازلن يقبعن وأطفالهن في أسوأ ظروف اعتقال ليكونوا سجناء محرومين من حق الطفولة والحياة الكريمة والحرية. وهكذا يسجَّل لإسرائيل والولاياتالمتحدة وجود مواليد ورضّع في سجونهما بل لهما الرقم القياسي في وجود أصغر سجين في العالم. وما كتبته والدة الطفل الفلسطيني "نور" (منال ناجي محمود غانم) يصل كلّ عين تقرأ، وكل ضمير، يؤمن بالكرامة الإنسانية.
وبالمقارنة، كرّر الرئيس الأمريكي جورج بوش مرّة أخرى وهو في بلغاريا، طلبه المتكرر بإطلاق سراح الممرضات البلغاريات، المحكومات بالإعدام، واللواتي تمت إدانتهن بتهمة إصابة 426 طفلاً ليبياً تم حقنهم بفيروس الإيدز أثناء عملهن في بنغازي في التسعينيات. وبالطبع لم يذكرالرئيس بوش هؤلاء الأطفال الليبيين لأنهم كما نعرف جميعاً أطفال عرب، وهو لم يدن يوماً مقتل أي طفل عربي بل لم يأسف حتى لذلك. وبعد ذلك توجه وفد من الاتحاد الأوروبي يضم مفوضة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي بتينا فيريرو فالدنر يرافقها وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير الذي تتولى بلاده حالياً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي إلى ليبيا في محاولة للضغط على السلطات لإفشال دور المحكمة الليبيّة والإفراج عن الممرضات البلغاريات. وبغضّ النظر عن الوجهة القانونية لهذه القضية ورغم أن الاتحاد الأوروبي « وعد » ببعض المال لمعالجة بعض الأولاد مما يشكل دليلاً على الاعتراف بوجود جريمة بحق الأطفال العرب، ولكن، رغم ذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه لماذا يتحرك العالم الغربي «الديمقراطي»، المدافع عن حقوق «الإنسان»، لإطلاق سراح ممرضات بلغاريات «الأوروبيات»، ولم يحرّك ساكناً أبداً، رغم المعاناة المؤلمة جدّاً، والطّويلة جدّاً للنساء الفلسطينيات اللواتي لم يرتكبن ذنباً سوى أنهنّ ولدن فلسطينيات على أرض طمع فيها مستوطنون وقدموا لاحتلالها بعد قتل وسجن سكانها الأصليين! إذاً هناك فرق في السياسة الغربية بين سجينات وسجينات بعيداً عن الذنب والتهمة، والفرق هو جنسية تلك النسوة! ولو كانت النساء الفلسطينيات مثلاً يحملن الجنسية البلغارية وتعرّضن لما يتعرّضن له في سجون الاحتلال الإسرائيلي لاتّخذ «المجتمع الدولي والمتحضر» موقفاً مختلفاً. ولكني وأنا أكتب هذه الأسطر أتذكر امرأة أخرى أمريكية دهس جسدها الغض بلدوزر الاحتلال الإسرائيلي ولم تقم الدنيا ولم تقعد، ألا وهي راشيل كوري التي قدمت لحماية المنازل الفلسطينية من الهدم، وأطفال فلسطين من القتل العشوائي على يد قنّاصة الجيش الإسرائيلي، فإذا بها تذهب ضحية جنود الاحتلال الإسرائيلي رغم أنّها تحمل الجنسية الأمريكية. إذاً، هناك أمران، الأول هو أنّ الجنسية العربية لا ترقى إلى الجنسية التي تستحق الدفاع عنها في أنظار السياسيين والإعلاميين في الغرب رغم كل تصريحاتهم الطنانة عن «حقوق الإنسان» و«الحرية» و«الديمقراطية»، هذا من جهة، والأمر الثاني هو أنّ كل ما تقوم به إسرائيل من جرائم ضدّ العرب والإنسانية غير قابل للنقد والاعتراض من جهة أخرى، وإلاّ ستلحق بالناقد أو المعترض تهم الإرهاب السياسي الجاهزة: اللاسامية. أما الأمر الأول ألا وهو العنصرية ضدّ العرب وعدم اعتبار حياتهم مساوية لحياة إنسانية أخرى فقد تجلّى ذلك بوضوح في السنوات الأخيرة عبر مظاهر وممارسات واسعة، من تعذيب العراقيين والعراقيات في أبو غريب، وغيرها من السجون السرّية والعلنية الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية، إلى فضيحة احتجاز معتقلي غوانتانامو لسنوات وكلهم من العرب دون تهم، إلى قتل أطفال وشباب فلسطين يومياً، إلى الحرب الإسرائيلية العدوانية على لبنان، والجرائم التي ارتكبت بحق الأطفال والنساء والرجال المدنيين العزل. كل الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون والأمريكيون ضد المدنيين العرب تمر دون أي «شجب» أو «أسف» ويتجاهلها الحكام الغربيون ويتكتّم عليها الإعلام الغربي«الحر» الذي يستخدم حريته في عدم النّشر وليس في فضح الجرائم المرتكبة ضد العرب. هذه هي العنصرية الغربية التي اتخذت هذه المرّة غطاءً لها في ما سمّي«بالحرب على الإرهاب» بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهي مظهر جديد لعنصرية قديمة قدم التاريخ، أو قدم الحضارة العربية نفسها. إذا ما أردنا أن نبدأ مع البداية فإننا نجد أن المشرق العربيّ، والذي كان لآلاف السنين مركز إشعاع حضاري وعلمي وفكري وفلسفي، أصبح محطّ حقد وأطماع إمبراطوريات الغزو الأوروبية التي واصلت طوال قرون شنّ حملات عسكرية متعاقبة، تحت مسميات وذرائع عديدة، بهدف تدمير وطمس الحضارة العربية، بعد أن نهلت من فكرها ومنتجها الحضاري. وفي كل مرّة تحرز هذه الإمبراطوريات تفوقاً عسكرياً على العرب تتعزّز لديها نظرة التفوق العنصرية ضدّ العرب التي تعبّر عن نفسها بأشكال سياسية وإعلامية وأساليب فكرية وثقافية مختلفة. والعنصرية هي شعور بالتفوق يتحول إلى نظرية إيديولوجية ثم إلى سياسات تؤدي إلى ممارسات همجية تنتهك كرامة الإنسان وحقوقه وحياته. فقبل الميلاد دمّرت الإمبراطورية الرومانية تدْمر والإسكندرية ووقف قيصر روما ليقول إنّ قرطاجة يجب أن تدمّر لأن قرطاجة وروما لايمكن أن تلتقيا في عالم واحد. وفعلاً أحرق قرطاجة كما يعمل الإسرائيليون اليوم على تدمير القدس والاحتلال الأمريكي على تدمير بابل وبغداد والفلوجة وسامراء. وحتى حين وصلت المسيحية العربية إلى أوروبا تم تحريفها واستخدامها مبرّراً للعنصرية، فباسمها تمّت إبادة ملايين الهنود الحمر والأبورجينز، وقبلهم ثمانية ملايين مسلم في اسبانيا حيث كانت محاكم التفتيش تقتل وتحرق المسلمين الذين يعلّمون أبناءهم سراً اللغة العربية.
وبعد ذلك بدأ عصر الاستشراق ليعزّز هذا الشعور العنصري في الغرب الذي لم يسمح لهم بالاعتراف بأنّهم أخذوا ونهلوا من حضارة العرب بينما يعترف العرب دائماً بما أخذوه من الفرس واليونان والهند والصين ويعبّرون عن اعتزازهم بحركة الترجمة ونقل المعارف لأن الدين الإسلامي يخاطب الناس «إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم». وفي عصر الاستشراق أصبحت العنصرية علمانية بدلاً من دينية ومن تحت عباءتها خرجت الصهيونية، والدعوة الاستعمارية، ومن ثمّ الفاشية والنازية والابارتيد، ولحدّ تاريخة تتكرّس فكرة التفوق الغربي على العرب والمسلمين في مناهج التعليم والتّكوين الفكري والأخلاقي للغرب. والجميع يعلم أن القوانين في الولايات كانت عنصرية ضدّ السود حتى ستينيات القرن العشرين، كما كانت عنصرية ضدّ السكان الأصليين من الهنود الحمر الذين تمّت إبادتهم وإبادة حضارتهم ولغاتهم. وفي القرن العشرين وبسبب وجود قوة اشتراكية كبرى تطرح مفاهيم وقيم جديدة تراجعت مظاهر العنصرية في الغرب لتظهر قيم ومفاهيم ليبرالية لمواجهة القيم الاشتراكية، ولكن بعد تفكّك الدول الاشتراكية عادت سطوة وهيمنة المفاهيم التفوّقية في الغرب واندفع الحكام الغربيون لفرض سياساتهم على الشعوب مرّة أخرى بقوة السلاح وخاصة لتدمير حضارة وقيم ومنظومة ثقافات الآخرين كي تكون الثقافة الغربية وأسلوب حياتها هي الوحيدة المعتمدة في العالم. وهذا هو جوهر العنصرية التي يتمّ التعبير عنها بعبارة «من ليس معنا فهو ضدّنا»، وظهرت حركة المحافظين الجدد، والمسيحية الصهيونية مزيجاً من حركة دينية وسياسية لتعيد العمل بالأساليب العنصرية ذاتها مستخدمين قوة السلاح لفرض قيمهم وأفكارهم ومصالحهم بعد أن يتمّ،كما يستهدفون، تدمير حضارات وثقافات العرب والمسلمين. ولهذا لا تتحمّل دولة أوروبية مثل فرنسا، أو بريطانيا، منظر تلميذة محجبة اليوم، ليس لأن الحجاب سلاح جارح، ولكن لأنه يشير إلى دين وقيم مختلفة حاربها الغربيون منذ قرون ولأنهم لايستطيعون قبول الآخر، ولأنهم لا يزالون متمسكين بمفهوم التفوق الغربي العنصري على العرب والمسلمين. ولذلك تنشر الجرائد البريطانية مثلاً عن عدد المسلمين في لندن والتخوفات من أن تكون لندن مدينة مسلمة في المستقبل! تماماً كما تنشر الصحف الإسرائيلية عن عدد السكان العرب في القدس ومحاولتها نزع الطابع العربي عن القدس! ولذالك أيضاً يتحدثون عن ملامح عربية لمفجر في كينيا! رغم أنه وجدَ أشلاء ولا ملامح لديه ولكنه التعبير العنصري عن أن العرب هم المسؤولون عن أيّ تفجير في أيّ مكان. ولذلك يدمّرون الكنائس والمساجد والمكتبات والمدن التي بزغ فجر التاريخ في ساحاتها في بابل ونينوى والمدن التي احتضنت مسيح السلام «بيت لحم» ومدينة الإسراء والمعراج «القدس» دون وجل أو تردد أو شعور بالذنب، أو الخجل. ولذلك أيضاً تراهم جميعاً في الغرب، سياسيين وإعلاميين ومثقفين، لا يرون غرابة في الدفاع عن «الحق في الحرية» لنساء بلغاريات متهمات بارتكاب جرم خطير بينما لا يحرّكون ساكناً من أجل «الحق في الحرية» نفسه لنساء عربيات بريئات معتقلات في سجونهم. ولذلك يتحدّث حكام الغرب عن «الحرية في الغرب» وعن «الديكتاتورية» في الشرق الأوسط. ولذلك لا يأبه العالم الغربي لحياة ومصير ملايين العرب من المدنيين الذين يتساقطون تحت نيران الحقد العنصرية في فلسطين والعراق ولبنان نتيجة حروب الغزو التي هي حلقة أخرى في سلسلة من حروب عنصرية شنتها إمبراطوريات الغرب نفسها عبر مئات السنين لتدمير هوية العرب وحضارتهم وقيمهم وأسلوب حياتهم. والسؤال هو هل يلتفت ذوو الملامح والأقلام العربية إلى هذه الهوية والقيم فيحملونها بفخر واعتزاز ويكفون عن استهداف بعضهم والتواطؤ مع الآخر الذي يستهدفهم جميعاً تحت أي مسمّيات؟ هل سيقف العرب مع أنفسهم، ومع تاريخهم، ومع حضارتهم كي يصبح صوتهم واحداً، ولا يقلّ وزناً على الساحة الدولية عن وزن صوت قادم من واشنطن أو بروكسل؟ حينذاك فقط سيسمع العالم بمعاناة المعتقلات الفلسطينيات وينادي بحريتهن، ونسّجل لأمتنا أمام العالم أننا دعاة حرية إنسانية متساوية لجميع البشر.