عندما يلتقي الكبار لمناقشة ما علق بينهم من مشاكل حتى لو كانت في مستوى الازمات الحادة عليهم في البداية، ان يكثروا من الابتسامات المصطنعة المتدربين عليها، وان يأتوا بزوجاتهم لاضفاء مناخ من العائلية والتودد. والأهم لا ينبغي لهم ان يخرجوا غير متوافقين حتى لو لم يكونوا متفقين. بل نادراً ما كانت اجتماعات الكبار، بغض النظر عن مسميات اللقاء، تحقق حلاً للازمات الحادة العالقة وانما، وفي أحسن الحالات، يخففون من حدتها، ويعدون بايجاد حلول لها. أما في الغالب فلا حل على الأبواب. هذه إذا لم تتفاقم الأزمات.
تكفي مقارنة سريعة بين مؤتمري قمتي الدول الثماني في يوليو 2006 في روسيا ولقاء هذا الشهر يونيو في ألمانيا حتى نلحظ ان كل الابتسامات وحتى العناق المتبادل بين بوش وبوتين، كما كل الوعود بايجاد الحلول لما دار بينهما من صراع كلامي، أسفر بعد ذلك عن حدة تأزم لم يسبق لها مثيل بين روسيا وأمريكا.
فبدلا من تخفيف الأزمة او حلها وصل التراشق بالتهم إلى مستوى لم تعرفه الحرب الباردة في السنوات العشر الأخيرة منها. فبوتين اعاد استخدام عبارة الامبريالية الأمريكية، واتهم الغرب كله انه أكثر ديمقراطية منه رداً على اتهامه بالتخلي عن النهج الديمقراطي.
والاخطر كانت الأزمة المتولدة عن القرار الأمريكي بنشر عشرة صواريخ مضادة للصواريخ في بولندا مع زراعة رادار ضخم في خدمتها في تشيخيا، وهو ما اعتبره بوتين، بحق، تهديداً للأمن القومي الروسي، واعلانا لبدء مرحلة سباق تسلح ودخولاً في نمط ما من أنماط «الحرب الباردة»، أو بداياتها.
طبعاً أمريكا رفضت اعتبار هذه المجموعة من الصواريخ مهددة لروسيا وادعت أنها دفاعية ضد صواريخ ايرانية، أو كورية شمالية، موجهة إلى أمريكا. وهو ما اعتبره الكثيرون نكتة العام أو «العذر الأقبح من الذنب». ولكن بالتأكيد هذه المجموعة من الصواريخ لا تعطل الرد الروسي الصاروخي إذا تعرضت روسيا لخطر فلماذا اذاً تحاول أمريكا الادعاء انها موجهة ضد «دول مارقة» لا تعتبر روسيا منها؟
ولماذا تعامل معها بوتين باعتبارها خطراً مهدداً لأمن روسيا وقرر التصدي لها ولم يكن مستعداً للقبول بها مع كل التطمينات؟
الجواب أولاً، وبسرعة، أنها بداية، فالتساهل معها يعني ان الحبل على الجرار في زرع اخوان لها. اما ثانيا، وهذا هو الأهم، فان زرع هذه الصواريخ على الحدود الروسية، أو في منطقة مهددة لروسيا هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير. اي انها جاءت لتراكم فوق جملة واسعة من السياسات والإجراءات الأمريكية والأوروبية لتطويق روسيا، وحتى تفكيكها، والعبث بوحدتها وأمنها الداخليين، وذلك إلى جانب سياسات تهميشها دولياً وعدم تذكرها إلا عندما يراد أخذ صوتها في مجلس الأمن.
وبكلمة أخرى، وكما يقول المثل الشعبي «هذه قلوب مليانة وليست رمانة». فالغرب منذ الاطاحة بالاتحاد السوفييتي وتفكيك حلف وارسو، واصل ضم دول حلف دارسو الأوروبية الشرقية إلى حلف الأطلسي. هذا الحلف الذي اسس لمواجهة الاتحاد السوفييتي فلماذا بقاؤه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانضمام روسيا إلى العائلة الغربية، وفرط حلف وارسو وانضمام دوله الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي «من لم ينضم فهو ينتظر» أو حلف الأطلسي؟
بالتأكيد ليست هناك من إجابة مقنعة غير اكمال المهمة ضد روسيا التي ورثت عن الاتحاد السوفييتي كل قدراته النووية والصاروخية والتكنولوجية. صحيح ان بقاءه كان محرجاً من هذه الناحية. كما حاول البعض الادعاء انهم سيوسعون نطاق عمله خارج أوروبا. وبالفعل هو الآن في مهمة في أفغانستان. ولكن هذا التوسع لا يغير حق طبيعته الأولى ما لم تصبح روسيا عضواً كامل العضوية في «الحلف الجديد» والا كيف يمكن أن يعتبر غير طبيعته وليس جلده فقط.
من جهة بوتين افاد خلال الست سنوات الماضية في اثناء انشغال أمريكا في حروبها «الشرق أوسطية» وحاجتها إلى الصوت الروسي في مجلس الأمن. فقام بتطهير الدولة الروسية وعدد من المراكز الاقتصادية والمالية والإعلامية من العناصر الصهيو أمريكية التي تفشت في عهد يلتسين.
فأعاد القوة للدولة بعد تفكك وشبه انحلال، ولاسيما للجيش والأجهزة. وكان من خطة ارتفاع أسعار النفط ليقفز بالاقتصاد الروسي معززاً قبضة العهد الجديد البوتيني «نسبة إلى بوتين».
هنا في بضعة الأشهر الماضية، وبعد ان بان فشل استرايتجية إدارة بوش، ذهبت السكرة وعادت الفكرة. فروسيا أصبحت دولة قوية تطالب بندية في العلاقات الدولية، وفقدت أمريكا والصهيونية أهم مرتكزاتهما في الامساك برقبة النظام الروسي. الأمر الذي دفع إلى نشر تلك الصواريخ وبدء مرحلة سباق تسلح، والتلويح بحرب باردة جديدة. وهذا دفع بوتين للرد بقوة، وإلا ضاع كل ما بناه خلال السنوات الست الماضية. فالمسألة جد.