تابعت بقلق بالغ قيام البطلة المصريّة منى الطّحاوي بالتّصدّي لحملات بني صهيون ضدّ المسلمين في أمريكا، ومسارعة شرطة نيويورك في القبض عليها. لو أخلص جميع العرب والمسلمين لقضاياهم مثل منى الطّحاوي، لتبخّرت إشكاليّة الصّهاينة من الوجود. لكن جهل المسلمين من ناحية، وضعفهم وتخاذلهم من ناحية أخرى شجّع كلّ وغد دنئ على شتم الإسلام، واتّخاذه مطية للشّهرة وتحقيق المطامع الشّخصيّة، والأهداف السّياسيّة، وبعد. في يوم ربيعي مشمس ذهبت لتناول طعام الغذاء في أحد مطاعم مدينة زيورخ الشّهيرة. لم أكد أطلب من النّادل طبقي المفضّل، حتّى لمحت حسناء ممشوقة القوام، ذات حسن وجمال، تأتي مسرعة إلى مائدتي: «هل تسمح لي بالجلوس معك؟» تعجّبت من جرأتها وثقتها في نفسها. فحديقة المطعم كان بها موائد أخرى خالية، فلماذا مائدتي أنا بالذّات؟تحسّست وجهي، ومسحت على رأسي، لأتأكّد أنّني مازالت أنا، ولم أتحوّل إلى چيمس بوند، أو كازانوفا، أو عمر الشّريف في شبابه. قلت لصاحبتي: «تفضّلي. من أين أنت؟» قالت: «سويديّة». قلت: «أنا مولود في مصر، وأعيش هنا منذ سنوات طويلة». وبعد مقدّمات طويلة، دخلت صاحبتنا في الموضوع: «لماذا يقوم العرب بممارسة الإرهاب؟» قلت: «كرّري من فضلك ما ذكرتِ»! بالطّبع لم أصدّق نفسي. فواصلت كلامها، قائلة: «أنا يهوديّة سويديّة. وعندي أصدقاء يعملون في سفارة السّويد بالقاهرة، ولا يكّفون عن الشّكوى من عنصريّة المصريّين، وعدائهم لليهود»!! قلت: «اسمعي، وانصتي. أنت تتحدّثين عن الإرهاب، أليس كذلك؟» قالت: «نعم». قلت: «ليس يوجد كتاب إرهابي، دموي، بغيض، مثل العهد القديم. هل تعرفين هذا؟» كالعادة، سارعت إلى المراوغة. قلت لها بحزم: «لا تراوغي. هذه حقيقة دامغة. لابدّ إذن أن تكفّوا عن مهاجمة الإسلام. من الأفضل لكم أن تصحّحوا خزعبلاتكم أوّلًا، قبل اتّهام الأبرياء بالأباطيل. مفهوم؟»!! وبعد. فلتعلم، أيّها القارئ الكريم، أنّه لولا ضعف المسلمين، وجهلهم، وتفرّقهم، لما تجرأ أحد على مهاجمتهم، مثلما يفعل اليهود معنا منذ قرون. لكن في عصر الثّورات العربيّة المباركة سوف تتبدّل، إن شاء اللّه أمور كثيرة، ولسوف يستردّ المسلمون مكانتهم المفقودة، ويردّون الصّاع صاعين، بإذن اللّه. هذه مجرّد مقدّمة وجيزة لما أريد ذكره في هذه السّطور. هل سمعتَ، أيّها القارئ الكريم، عن مفكّر ألمانيّ معاصر اسمه كارل هاينتس ديشنر؟ إنّه عملاق من عملاقة الفكر الألمانيّ الحديث. ذاعت شهرة ديشنر بعدما نشر موسوعة عظيمة بعنوان «التّاريخ الإجرامي للمسيحيّة». ديشنر حقّق نجاحًا غير مسبوق عندما بدأ ينشر موسوعته هذه. وحدث بينه وبين صديقي هانس كينج ما يحدث بين العلماء من تنافس وغيرة. وهو ما لم أكن أعرفه، حتّى صدمني كينج ذات يوم، قائلًا: «لا أريد رؤية اسم هذا الرّجل في أي بحث تنشره عنّي»!! سألت العملاق ديشنر عن رأيه في مسألة الإرهاب، ونصيب الصّهاينة منه وهم الّذين لا يتوقّفون عن اتّهام المسلمين كذبًا وبهتانًا بالإرهاب. وإليك، أيّها القارئ الكريم، بردّ عملاق الفكر الألمانيّ الحديث كارل هاينتس ديشنر على مسألة إرهاب اليهود، وحبّهم لسفك الدّماء. يقول ديشنر: «عقوبة الإعدام و"الحرب المقدّسة": بجانب القتل الجماعي في الحروب كانت عقوبة الإعدام شائعة بطبيعة الحال. بيد أنّ توقيعها - عادة ما تنفذ بالرجم، أو بحرق الجسم حيًا في حالات استثنائية - لم تكن محفوظة لجهة معينة. فهذه العقوبة - االّتي أجازها القانون الموسوي اليهودي، وتمّ تبريرها دينيًا - قد طُبّقت في شتى المجالات. فليس يكفي تطبيق عقوبة الإعدام على القاتل، بل ينبغي تطبيقها أيضًا على: السارق أو كلّ مَن يضرب أباه أو أمه، بل مَن يشتمهما. كانت عقوبة الإعدام تطبّق أيضًا على: مرتكب الخيانة الزوجية (بالطبع إذا ارتكبت الزوجة الخيانة، تطبق العقوبة عليها فقط مع عشيقها)، ومَن يمارس الجماع أثناء فترة الحيض، وبنت القسيس إذا مارست الدعارة، والخطيبة إذا امتنعت عن الصياح في حال اغتضابها - وكذلك: زنى ذوي القربى، والشذوذ الجنسي، وممارسة الجنس مع الحيوانات حيث كانت عقوبة الإعدام تنفّذ أيضًا في الحيوانات الفاجرة. بل إنّ الإعدام كان أيضًا مصير أي امرأة تقترب من "أي حيوان" وهي غير طاهرة - "والبهيمة أيضًا" (التوراة، سفر اللاويين، 02: 61). فالنساء - اللواتي كان يُنظرُ إليهن على أنهن طائشات ولا سبيل إلى إصلاحهن - لم يَكُنَّ يتمتعن باحترام كبير عند اليهود، كما يُعَبّرُ الجمع بين: "النساء، والعبيد، والأطفال" (الشائع في اليهودية). فكثيرًا ما شُوّهت سمعتهن، وتعرضن للسخرية والظلم، وأقصين عن الحياة العامة، وعُدّت الأمومةُ المعنى الوحيد لوجودهن - وبعد ذلك عادت كلّ هذه التصوّرات إلى المسيحية. وبطبيعة الحال كانت عقوبة الشرك بالرب هي الإعدام، وكذلك التجديف (الكفر بالله)، فضلا عن ترك الختان، وممارسة السحر والتكهن بالغيب، ولمس جبل سيناء. أيضًا كان الاقتراب من المسكن (= في اليهودية: معبد على هيئة خيمة في الصحراء) عاقبته الموت، وكذلك عدم التزام كبير الكهنة بارتداء الزي الرسمي في المعبد، والعمل أيّام السبت، وتناول الفطير في عيد الفصح، وتأخير تقديم الأضاحي في عيد الفصح، وتناول لحم الاُضحية بعد ثلاثة أيّام، والإخلال عمدًا بنظام تقديم الأضاحي، وعدم طاعة الكهنة والقضاة، وكثير غير ذلك. كانت عقوبة الإعدام - الّتي كثيرًا ما فُرِضت على أمور تافهة، أو بدافع لذة محضة - لها طابع ديني. ذلك لأنّه كما أن الكذب والغش كانا يتمّان بروح الرب - مثلما فعلت ثامار مع يهوذا (انظر التوراة، سفر التكوين، 82)، ورفقة مع عيسوه (انظر التوراة، سفر التكوين، 72-82)، وقابلتا العبرانيات شفرة وفوعة مع فرعون مصر (انظر: التوراة، سفر الخروج، الأصحاح الأوّل)، ولابان مع يعقوب (انظر: التوراة، سفر التكوين، الأصحاح التاسع والعشرون)، ومثلما قام يعقوب بدوره (ويعقوب يعني: المحتال) بخداع "رجل مؤدب" - فقد كان القتل يتمّ أيضًا بروح الرب. نعم، إنّ الرب نفسه (في اليهودية) يلتهم، ويبصق نارًا، ويبعث بالفيضانات، ويُقَتِّلُ بلا نهاية - ليس أفرادًا فقط، بل أيضًا جماعات بأكملها: جميع أبكار المصريين، وكلّ العصاة وفاقدي العفة في الصحراء، وثلاثة آلاف من عبدة العجل - "وتكلّم الرب، إله إسرائيل: فليتقلّد كلّ واحد سيفه، ويقتل أخاه، وصديقه، وجاره". لقد قتل الرب " جيش فرعون بأكمله ... بحيث لم يتبقَّ منهم أحد ... إنّه عمل رائع". وقتل الرب أسرة كبير الكهنة عالي، وأسر الملوك يَرُبْعَام، وبعشا، وآخاب - ودمّر مدنًا، مثل سَدوم وعمورة: "فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء"(سفر التكوين، الأصحاح 91: 42)، وأفنى الإنسانية بأسرها من خلال الفيضان. "إنّ الكتاب المقدّس يحتوي على قصة الأعمال العظيمة الّتي قام بها الرب في الكون والتاريخ"(دانيلو، الوثنيون المقدّسون في العهد القديم، ص51). ولأنّ الرب يفعلُ كلّ هذا، ولأنّه يُشجعُ إسرائيل بصورة دائمة: "في هذا اليوم أبتدئُ أجعلُ خشيتك وخوفك أمامَ وجوه الشعوب تحت كلّ السماء. الّذين يسمعون خبرك يرتعدون ويجزعون أمامك"(سفر التثنية، الأصحاح الثاني: 52)، ولأن الرب يزمجر كالرعد قائلا: "وتطردون أعداءكم، فيسقطون أمامكم بالسيف. يطردُ خمسةٌ منكم مئة، ومئة منكم يطردون ربوة (= عشرة آلاف)، ويسقطُ أعداؤكم أمامكم بالسيف"(سفر اللاويين، الأصحاح 62: 7-8)، فإنّ كلّ هذا لا يمكنُ أن يكون إجراميًا على الإطلاق، بل هو حسن، وديني الجوهر، والحرب نفسها هي عمل صالح، شيء مقدّس، ومعسكر الحرب يكاد يكون أقدم المقدسات. "فالحروب تُشنُّ في الغالب على أنّها حروب مقدّسة ... والحرب تصير قضية تخصّ الرب نفسه"(جروس). وتُنسبُ جميع نجاحات المعارك إلى مقدرة الرب وحده. فالانتصارات هي انتصارات الرب، والحروب هي حروب الرب، والأعداء هم أعداء الرب، والقتلة من بني إسرائيل هم "شعب الرب"، والغنيمة بطبيعة الحال هي أيضًا غنيمة الرب. كلّ المحاربين ينبغي أن يكونوا أطهارًا عند العبادة، ومتوكلين على الإله، ويباركُ الرب الجميعَ، والأسلحة أيضًا. وقبل المذابح تقدّم الأضحية. فهناك رجال دين منظمون ويتمتعون بنفوذ كبير. واستخارة الرب قبل المعركة لها أهمية خاصة. ويضمن تابوت العهد حضور الرب، ويرافق الجنود. ويقوم كاهن بتشجيعهم، مخلصًا إياهم من الخوف، وجالبًا الشجاعة لهم: "ذلك لأنّ الرب، إلهكم، يسير معكم ..."، "الرب، راية الحرب الخاصّة بي". ما أكثر ما عاد من كلّ هذا إلى المسيحية! إذ لا ينقصُ أي شيء، فلابدّ أن يُقتلَ أعداء الرب، حتّى يحيا "شعب العهد"، آداة (الرب) المختارة لخلاص العالم. وكان الإسرائيليون قد دمّروا في عصر موسى مملكتي سِيحُون وعوج العظيمتين في شمال مُوآب. وقد قاموا بتصفية سِيحُون ملك الأموريين: "ثمّ تحوّلنا وصعدنا في طريق باشان فخرج عوجُ ملك باشان للقائنا هو وجميع قومه للحرب في إذرعي. فقال لي الرب لا تخف منه لأنّي قد دفعته إلى يدك وجميع قومه وأرضه. فتفعلُ به كما فعلتَ بسيحون ملك الأموريين الّذي كان ساكنًا في حشبون. فدفع الرّبّ إلهنا إلى أيدينا عوجَ أيضًا ملك باشان وجميع قومه فضربناه حتّى لم يبقَ له شارد. وأخذنا كلّ مدنه في ذلك الوقت. لم تكن قرية لم نأخذها منهم. ستون مدينة كلّ كورة أرجوب مملكة عوج في باشان. كلّ هذه كانت مدنًا محصّنة بأسوار شامخة وأبواب ومزاليج سوى قرى الصحراء الكثيرة جدًّا. فحرّمناها كما فعلنا بسيحون ملك حشبون محرّمين كلَّ مدينةٍ الرجال والنساء والأطفال. لكنّ كلّ البهائم وغنيمة المدن نهبناها لأنفسنا"(سفر التثنية، الأصحاح الثالث: 1-7). ولم تختلف حربهم ضد عوج ملك باشان "فدفع الرب إلهنا إلى أيدينا عوج أيضًا ملك باشان للقائنا هو وجميع قومه فضربناه حتّى لم يبقَ له شارد". "وأخذنا كلّ مدنه في ذلك الوقت. لم تكن قرية لم نأخذها منهم. ستون مدينة كلّ كورة أرجوب مملكة عوج في باشان. كلّ هذه كانت مدنًا محصّنة بأسوار شامخة وأبواب ومزاليج سوى قرى الصحراء الكثيرة جدًّا. فحرّمناها كما فعلنا بسيحون ملك حشبون محرّمين كلَّ مدينةٍ الرجال والنساء والأطفال. لكنّ كلّ البهائم وغنيمة المدن نهبناها لأنفسنا". ويذكر "الكتاب المقدّس" أيضًا انتصار بني إسرائيل على المديانيين (سفر العدد، الأصحاح الحادي والثلاثون، 1-21): "وكلّم الرّبُّ موسى قائلا انتقمْ نقمةً لبني إسرائيل منَ المديانيين ثم تُضمُّ إلى قومك. فكلّم موسى الشعبَ قائلا. جرّدوا منكم رجالا للجند فيكونوا على مديان ليجعلوا نقمة الرب على مديان. ألفًا واحدًا من كلّ سبط من جميع أسباط إسرائيل ترسلون للحرب. فاختير من ألوف إسرائيل ألفٌ من كلّ سبط. اثنا عشر ألفًا مجرّدون للحرب. فأرسلهم موسى ألفًا من كلّ سبط إلى الحرب هم وفينحاس بن ألعازار الكاهن إلى الحرب وأمتعة القدّس وأبواق الهتاف في يده. فتجنّدوا على مديان كما أمر الرّبّ وقتلوا كلّ ذكر. وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم. أوي وراقم وصور وحور ورابع. خمسة ملوك مديان. وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف. وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكلّ أملاكهم. وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار. وأخذوا كلّ الغنيمة وكلّ النهب من الناس والبهائم. وأتوا إلى موسى وألعازار الكاهن وإلى جماعة بني إسرائيل بالسبي والنهب والغنيمة إلى المحلة إلى عربات موآب الّتي على أردن أريحا". ولكن حتّى هذا لم يكن كافيًا لموسى، الّذي كان قد اتهم في كتاب "المحتالين الثلاثة" سنة 8951م بأعظم الجرائم وأبشعها. فقد "غضب"، لأنّ النساء كنّ مازلن على قيد الحياة، وكذلك الصبيان، يقول سفر العدد، الأصحاح الحادي والثلاثون، 41-53: "فسخط موسى على وكلاء الجيش رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من جند الحرب. وقال لهم موسى هل أبقيتم كلّ أنثى حيّة. إنّ هؤلاء كنّ لبني إسرائيل حسب كلام بلعام سبب خيانة للرب في أمر فغور فكان الوبا في جماعة الرب. فالآن اقتلوا كلّ ذكر من الأطفال. وكلّ امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها. لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم حيّات. وأمّا أنتم فانزلوا خارج المحلة سبعة أيّام. وتطهّروا كلّ من قتل نفسًا وكلّ من مسّ قتيلا في اليوم الثالث وفي السابع أنتم وسبيكم. وكلّ ثوب وكلّ متاع من جلد وكلّ مصنوع من شعر معزٍ وكلّ متاع من خشب تطهرونه. وقال ألعازار الكاهن لرجال الجند الّذين ذهبوا للحرب هذه فريضة الشريعة الّتي أمر بها الرّبّ موسى. الذّهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والرصاص كلّ ما يدخلُ النار تُجيزونه في النار، فيكون طاهرًا غير أنّه يتطهّر بماء النجاسة. وأمّا كلّ ما لا يدخل النار فتجيزونه في الماء. وتغسلون ثيابكم في اليوم السابع فتكونون طاهرين وبعد ذلك تدخلون المحلة. وكلّم الرب موسى قائلا احصِ النهب المسبي من الناس والبهائم أنت وألعازار الكاهن ورؤوس آباء الجماعة. ونصف النهب بين الّذين باشروا القتال الخارجين إلى الحرب وبين كلّ الجماعة. وارفع زكاة للرب من رجال الحرب الخارجين إلى القتال واحدة. نفسًا من كلّ خمس مئة من الناس والبقر والحمير والغنم. من نصفهم تأخذونها وتعطونها لألعازار الكاهن رفيعةً للرب. ومن نصف بني إسرائيل تأخذ واحدة مأخوذة من كلّ خمسين من الناس والبقر والحمير والغنم من جميع البهائم وتعطيها للاويين الحافظين شعائر مسكن الرب. ففعلَ موسى وألعازار الكاهن كما أمرَ الرّبّ موسى. وكان النهبُ فَضْلَهُ الغنيمة الّتي اغتنمها رجال الجند من الغنم ست مئة وخمسة وسبعين ألفًا ومنَ البقر اثنين وسبعين إلفًا. ومنَ الحمير واحدًا وستين ألفًا. ومن نفوس الناس من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر جميع النفوس اثنين وثلاثين ألفًا". وأعمال القتل والسلب باستخدام العنف هي بالمناسبة جميعًا أعمال تخالف وصيتي موسى نفسه الخامسة والسابعة. بهذه الطريقة دمّر «شعب الإله» في الفترة الواقعة بين سنة 0521 قبل الميلاد و5221 قبل الميلاد تقريبًا الجزء الأكبر من أرض كنعان، وقتل - في الغالب تحت هتافات دينية (مثل: "السيف للرب ولِجِدْعُون") - "بشجاعة" كلّ الأشرار، وساقوا في أحسن الأحوال النساء والأطفال، ولكن دائمًا القطعان - باختصار: تُرتكبُ أفظع الأعمال الوحشية، ثمّ تُمتدحُ، وكثيرًا ما تُحرق قرى ومدنٌ بأكملها. وفي حفريات المناطق الكنعانية مازالت طبقة رماد سميكة تشهد بصورة متكرّرة على الدمار بالحرق. وهكذا تمّ حرق مدينة أشدود عن آخرها - وهي تقعُ على طريق البحر الدولي - وبحسب المقاييس الفلسطينية تُعدُّ إحدى كبريات المدن في عصر الحديد، وصارت فيما بعد عاصمة عهد المدن الخمس الخاصّة بالفلسطينيين، وذلك في القرن الثالث عشر. والمرجح أنّ الشيء نفسه حدث لمدينة تل مورة المجاورة. وكذلك حاصور، أحد أعظم الأماكن المحصّنة في أرض كنعان، بين بحيرة الحولة، وبحيرة جنيسارت، دمّرتها النيران كلية. وفضلا عن ذلك تمّ تدمير: مدينة لخيش ذات الموقع الاستراتيجي الهام، وإحدى أحسن مدن فلسطين تحصينًا، وكذلك مدينة دبير، ومدينة عجلون، وغيرها. بيد أنّه لا توجد براهين أكيدة على أنّ المعتدين الإسرائيليين هم الّذين قاموا بأعمال الحرق والتدمير هذه. ولكن: "من المحقّق أن هناك تعصبًا عِرقيًا على امتداد تاريخ إسرائيل كلّه"(باركيس). بل إنّ التدمير كان يشمل أحيانًا قبائل كاملة. فقد كان الأعداء يقدّمون بصورة متكرّرة إلى الرب ك "نُذُور"، ك"قربان محرقة" هائلة، من خلال ما يُعرفُ في اليهودية باسم "الحِرْم" - وهو لفظ مشتق من جذر يعني عند الساميين الغربيين "مقدّس" - وهو أصرم أشكال الحروب الّتي ينادي الرب بها. فلم يكن من قبيل الصدفة أن تُعقد مقارنة بين وصف الكتاب المقدّس لهذا "الاستيلاء على الأرض"، وبين الانتصارات المتواصلة الّتي حقّقها الإسلام فيما بعدُ والّتي كانت أقلّ سفكًا للدماء، مع التأكيد أنّ الفاتحين لابدّ أنّهم قد شعروا بأنّهم "حملة كلمة الرب"، وأنّهم يشنون "حربًا مقدّسة". "الحروب المقدّسة فقط، وليس الحروب الدنيوية العادية، هي الّتي كانت تنتهي بال"حرم"، وكانت تعني: "دائمًا إبادة كلّ ما هو حيّ بأمر الرّبّ" (جَمّ). بل إنّها تسمح مباشرة: "بالشمول الّذي لا هوادةَ فيه لأعمال التدمير ... وتفسير هذا بالغلو الديني للإسرائيليين" (كورنفلد/ بوترڤيك). فالرّبّ يأمر صراحةً في هذه الحالات: "(سفر التثنية، الأصحاح العشرون، 01-02: حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكلّ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبدُ لك. وإن لم تُسالمْكَ بل عملت معك حربًا فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذُكُورها بحدّ السيف. وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك الّتي أعطاك الرّبّ إلهاك. هكذا تفعلُ بجميع المدن البعيدة منك جدًّا الّتي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. وأمّا مدن هؤلاء الشعوب الّتي يُعطيك الرّبّ إلهك نصيبًا فلا تستبقِ منها نسمة ما. بل تُحرّمها تحريمًا الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين كما أمرك الرّبّ إلهك. لكي لا يُعلّموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم الّتي عملوا لآلهتهم فتُخطئوا إلى الرّبّ إلهكم. إذا حاصرتَ مدينةً أيّامًا كثيرةً محاربًا إيّاها لكي تأخذها فلا تتلف شجرها بوضع فأس عليه. إنّك منه تأكلُ. فلا تقطعه. لأنّه هل شجرة الحقل إنسانٌ حتّى يذهب قدّامك في الحصار. وأمّا الشجر الّذي تعرفُ أنّه ليس شجرًا يؤكلُ منه فإياه تُتلفُ وتقطعُ وتبني حصنًا على المدينة الّتي تعملُ معك حربًا حتّى تسقطَ)". كان سبب مثل هذا الحماس الديني أوّلا الروح الوطنية المتطرفة جدًّا الّتي لا مراءة فيها في العصور القديمة، مقرونة بالمقصورية الغريبة من حولها للتوحيد اليهودي. تزايدت كل منهما ضد الأخرى - غطرسة الانفراد ب "شعب الله المختار"، المتعصبة، والّتي قد نُظر إليها في العصور المبكرة على أنّها كراهية موجهة ضدّ سائر الإنسانية - ولكنّ "شعب الله" لم يتنازل أبدًا عنها - حتّى في كارثة النفي - : "كراهية عدائية موجهة ضدّ كلّ الآخرين"، كما كتب تاقيطس (بين 55-021، مؤرخ لاتيني ذو نزعة تشاؤمية، له "الحوليات"، و"التواريخ") الّذي أثنى على اليهود "تشبثهم بخرافاتهم"، وشنّع عليهم في ذيل كتابه "التواريخ" ك "جنس بشري ممقوت من الألهة"، و"شعب بغيض"، وأنّ عاداتهم المعيشية "سيئة وقذرة"، "سخيفة ورخيصة". والسبب الثاني للتطرّف الديني لليهود كان الفجور المزعوم ل "الكافرين" كافة، الناتج عن "الكفر": جرائم جنسية مزعومة، ذكرها العهد القديم بإسهاب، أعمال وحشية فظيعة نجّست الأرض، بل إنّ "العادات المشينة" للوثنين بلغت حدًّا جعل "الأرض تقذفُ سكّانها". "لأنّ كلّ من ارتكب هذه الرجسات سوف يُبادُ ... أنا الرّبّ إلهكم". ولكنّ بالرغم من أنّ الوثنيين كانوا دائمًا على استعداد للاعتراف بإله اليهود، وبالرغم من، أو لأنّ الحروب الّتي قاموا بها كانت في المتوسط أقلّ وحشية من حروب اليهود بوضوح، فقد ارتكب الإسرائيليون حتّى في عصر ما قبل داود أبشع الجرائم، واحتفلوا بالتدمير الشامل كعبادة أو قُدّاس، مثله مثل الشهادة. وهذه "الحرب المقدّسة" - هنا وفيما بعدُ كانت تمارس دائمًا بعنف هائل، حيث لم يكن مسموحًا بأي مفاوضات أو اتفاقيات سلام، بل فقط بالفناء والإبادة لكلّ: غير مختون، وغير معمّد، و"الزنديق"، و"الشرير" - هذه الحرب المقدّسة هي "ظاهرة إسرائيلية أصيلة" (رينجّرن). إنّ العهد القديم - الّذي يصف القرن والنصف القرن بعد "سلب الأرض"، أي الفترة الواقعة بين سنة 0021 قبل الميلاد، وسنة 0501 قبل الميلاد، في سفر القضاة الّذي وإن كان ليس دائمًا مصدرًا يعتمد عليه حسب معظم المتخصصين، إلا أنّه يعدُّ مصدرَ معلومات صالحًا - يحكي بلا استثناء تقريبًا عن "الحروب المقدّسة". كانت هذه الحروب تبدأ بالمباركات الدينية المصحوبة بالعفة الجنسية (أي التوقّف عن ممارسة أي جماع مع الزوجات)، وغالبًا ما تنتهي بالتصفية الشاملة للعدو، بقتل الإنسان والحيوان. "إنّ أنقاض كثير من المدن والقرى الّتي أعيد تدميرها في القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد تقدّم تفسيرًا أثريًا حيًا" (كورن فيلد/ بوترڤيك). ولكن سفر يشوع أيضًا - ذا الخلفية التاريخية نفسها، والوثيق الصلة عمومًا بسفر القضاة - يصف "سلب الأرض" ك "حرب الرب المقدّسة" الّتي شُنّت بوحشية يندر ما يوجد وحشية تفوقها."تابوت العهد"، الضامن للحضور الإلهي، يصاحبُ الذبح والتقتيل. وبمساعدة "تابوت العهد" يتم عبور نهر الأردن. ويُحملُ "تابوت العهد" حول مدينة أريحا المحاصرة، حيث يقوم سبعة من الكهنة طوال الوقت بالنفخ في الأبواق حتّى يتمّ القضاء على الجميع "بحدّ السيف، الذكر والأنثى، الصغير والكبير، البقر والغنم والحمير". وبمثل هذا الأسلوب يتصرّفُ يشوع و"بنو إسرائيل" مع كلّ المدن الأخرى الّتي تم تدميرها تدميرًا شاملا، مع: مدينة عَاي، ومع مدينة مقيدة، ومع لبنة، ولخيش، وعجلون، وحبرون، ودبير، وحاصور، ومع جِبْعون حيث حدث أثناء القتال أن الشمس "توقفت في وسط السماء يومًا كاملا تقريبًا" (اليوم لا تعني "قصة الكتاب المقدّس الخارقة" - حسب التفسير الكاثوليكي - سوى "حجبت الشمسَ سحبٌ كثيفة" - راتجيبر). برتابة مملة يبشّرُ الكتاب المقدّس كلّ مرّة، قائلا: "... ولم يُبْقِ شاردًا"، "... ولم يُبْقِ شاردًا"، "... ولم يُبْقِ شاردًا" - "وحرّم كلّ نفس بها" (أي قتل كل نفس بها). "وكلّ غنيمة تلك المدن والبهائم نهبها بنو إسرائيل لأنفسهم. وأمّا الرجال فضربوهم جميعًا بحدّ السيف حتّى أبادوهم. لم يُبقوا نسمةً". ولعلّ الاستقرار النهائي لبني إسرائيل لم يتمّ من خلال الحروب المدمّرة فحسب. بل من المحتمل أيضًا حدوث تغلغل بطئ، أي اختلاط تدريجي مع أهل الحضر. ذلك لأنّ ربّ اليهود نفسه كان مسالمًا من حيث المبدأ (!) "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها، استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك كلّ أبوابها، فكلّ الشعب الموجود فيها يكونُ لك للتسخير، ويُستعبدُ لك". وإلا فإنّ "الكتاب المقدّس" يأمرُ بطبيعة الحال: "وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربًا، فحاصرها. وإذا دفعها الرّبّ، إلهك، إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف". وهكذا فنادرًا ما ساد سلام في فلسطين. واستخدم الاسرائيليون جميع الأساليب المعروفة حينئذ لشنّ الحروب: التجسس، والهجمات المباغتة، والمسيرات الليلية، والهجمات الليلية، والحفر تحت الأسوار، والتسلل عبر الأنقاب، وآلات رمي القذائف (المجانق)، وغير ذلك. بيد أنّ الإسرائيليين ظلّوا لفترة طويلة لا يمتلكون المركبات الحربية ولا الفرسان. وكبدو سابقين بقوا مدة طويلة لا يعرفون كيفية استخدام الخيل، حيث كان أبشالوم أوّل من ظهر مع الخيل في القدس. ولذلك أمر يشوع بقطع أوتارها وحرق المركبات الحربية. واستمر هذا الوضع مع داود، الّذي أمر هو أيضًا بشلّ حركة خيل الأعداء، بتقطيع أوتارها، حيث لم يستخدم إلا الحمير والبغال». الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة