عندما استخدمتُ أحد حقوقي المنصوص عليها في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وهو حقّ حرّيّة الرّأي، لوصف سلوك المجلس العسكريّ في مصر تجاه ثورة مصر المجيدة، اعترضَ بعض الأصدقاء الأفاضل، ونهروني. برغم أنّني لم أشتم أحدًا، أو أنعته بصفة ليست فيه، حاشا اللّه. فلولا تربيتي، لكلت لهم جميعًا قبيح الشّتائم، وصريح السّباب. لكنّ تربيتي تحتّم عليّ ألّا أصفهم إلّا بالصّفات الّتي أراها فيهم، بصرف النّظر عن قبحها أو حسنها، المهمّ هو صدق الوصف، والابتعاد عن التّجريح. كان هذا منذ شهور طويلة. بالطّبع تابعتُ من بعيد ما يرتكبه عسكر مصر في حقّ هذا الشّعب العظيم، وتألمت كثيرًا لما يحدثُ لثورة مصر المجيدة، من مؤامرت، ومطبّات، وعراقيل. تطوّرت الأحداث، واكتشفت جموع كبيرة من الشّعب المصريّ حقيقة عسكر مصر، وأدركوا أنّ هذه الفئة الضّالة ظلّت تناصب الثّورة منذ اللّحظة الأولى عداء شديدًا. تأمّلت في حسرةٍ التّاريخ الإجرامي لعسكر مصر منذ 1952م وحتّى يومنا هذا. تساءلت عن سرّ هذا العداء الدّفين الّذي تكنّه هذه الفئة لشعب مصر. لماذا يتلذّذ عسكر مصر بإذلال شعب مصر؟ سؤال مؤلم، وصعب، وصادم، لكنّه يفرض نفسه علينا فرضًا. يقينًا صار لدينا ظواهر غريبة تحتاج إلى دراساتٍ عميقةٍ من علماء النّفس بالذّات، لتحليل ما جرى في مصرَ منذ استيلاء العسكر على الحكم سنة 1952م وحتّى يومنا هذا. ظاهرة «استعباد» النّاس. ظاهرة «التّلذّذ» بتعذيب النّاس. ظاهرة «إذلال» النّاس. ظاهرة «الاستخفاف بعقول النّاس». ظاهرة «تضليل» النّاس. ظاهرة «الكذب اليوميّ» على النّاس. ألف ظاهرة مرضيّة ظهرت عوارضها في المجتمع المصريّ منذ استيلاء العسكر على الحكم في مصر سنة 1952م. عسكر مصر هم الّذين وضعوا أسس الاستبداد في مصر. عسكر مصر هم الّذين أرسوا قواعد «تزوير الانتخابات» في مصر. عسكر مصر هم الّذين كرّسوا أساليب «تضليل النّاس» في مصر. ومع هذا استمرّ حكم العسكر ستّة عقود حتّى الآن. ولعلّ السّبب الرّئيسيّ لطول فترة هذا الحكم القمعيّ الإجرامي القائم على الكذب والنّفاق يرجع في المقام الأوّل إلى تفشي الجهل والأمّيّة في قطاعات كبيرة من الشّعب المصريّ طوال هذه العقود السّتّة الماضية. لكن القاعدة التّاريخيّة الثّابتة، وسنّة اللّه الّتي ركّبها في هذا الكون، تقول إنّ دولة الظّلم والكذب إلى زوالٍ عاجلًا أو آجلًا. بدأت جموع كبيرة من الشّعب المصريّ العظيم تدرك نذالة العسكر، وكذبهم، ونفاقهم، ووجههم المزدوج، واللّعبة القذرة الّتي يمارسونها منذ تنحي المخلوع. سمعنا، بعد طول انتظار، أصوات الجماهير الهادرة تتصاعد: «يسقط، يسقط حكم العسكر». شعار تأخّر ستّين عامًا. ومع هذا مازال العسكر يصرّون على خيانة الثّورة، وتوجيه ضربات قاتلة لشعب مصر العظيم. نسى عسكر مصر أنّ المصريّين من المستحيل أن يقبلوا الآن، بعد صبر طويل، أن يخضعوا مرّة أخرى للذّل، والقهر، والقمع. قهر المصريّون حاجزَ الخوف. أعلنوها صراحة أنّ لديهم خيارين لا ثالث لهما: إمّا نصرة الثّورة أو الاستشهاد في سبيلها (يا نجيب حقّهم، يا نموت زيهم). عندما يصل أفراد شعب إلى هذه الدّرجة من التّصميم والإصرار، لا تجدي معه الوسائل القمعيّة المعتادة: لا أمن مركزي، ولا سجن حربي، لا دبّابات جيش، ولا مدرعات شرطة، لا رصاص غدر، ولا قنابل جُبن، لا ترهيب ولا إرهاب، لا قتل ولا تعذيب، لا هتك إعراض، ولا سحل فتيات. لو استخدموا قنابل الأرض الذّرّيّة، لن يتراجع شعب مصر عن مطالبه. كلّ هذه الوسائل الوضيعة تتلاشى، وتتصاغر، ويبطل مفعولها أمام إرادة الشّعب القاهرة، الكاسحة، الصّاعقة. عسكر مصر، الّذين يضلّلون جيش مصر، ويسخّرونه لقهر شعب مصر، لا يمكن اعتبارهم من جيش مصر. لأنّ الجيش المصريّ الّذي نعرفه هو جيش يحترم نفسه، ولا يطمع في مناصب مدنيّة، ولا سلطات سياسيّة، بل يركّز جهوده على عمله العسكريّ فقط. أمّا العسكر، فهو حثالة الجيش. خان عسكر مصر ثورة مصر منذ أوّل لحظة لقيام الثّورة، عندما: 1- تركوا الجماهير الغاضبة تتظاهرُ وقتًا طويلًا، دون إظهار أيّ مساندة للحقّ، أو معاداة للباطل، قبل أن يعلن المخلوع عن «تخليه عن منصب رئيس الجمهوريّة»!! 2- ادّعى العسكر كذبًا وبهتانًا أنّهم أيّدوا الثّورة، مع أنّ كلّ ما قاموا به يُثبتُ إلى أنّهم أكبر عدو للثّورة. 3- ترك العسكر طاغية مصر الأكبر، المخلوع، يعيشُ كملك زمانه شهورًا طويلة في شرم الشّيخ، ينعم بنسيم البحر، ويتناول الكفيار الرّوسي، والشّيكولاتة السّويسريّة، وكأنّهم يقولون للشّعب: هو رئيسنا، شئتم أم أبيتم. 4- مازال معظم أعضاء المجلس العسكري يرفضون حتّى استخدام لفظ «ثورة» عند الحديث عن ثورة مصر المجيدة. فهي تمثّل لهم كابوسًا مزعجًا. 5- تواطأ العسكر مع أقطاب النّظام البائد من أجل تهريب ما استطاعوا تهريبه من ثروات مصر، ورفضوا تقديم أي طلبات رسميّة للدّول الغربيّة وإسرائيل من أجل استعادة أموال مصر المنهوبة. 6- واصل العسكر إحكام الحصار على قطاع غزة، برغم أنّ هذا يخالف أي شريعة سماوية أو أرضيّة. 7- واصل العسكر بيع الغاز إلى أعداء البلاد بأبخس الأثمان. في الوقت الّذي لا يتورّعون فيه عن تعذيب شعبهم بحجب أنانبيب البوتاجاز عنه. 8- نفّذ العسكر خطّة المخلوع بحذافيرها لإشاعة الفوضى في ربوع مصر. وهو ما كان المخلوع لا يكفّ عن التّلويح به، قبل الإطاحة به. 9- عبّر عسكر مصر عن عدائهم الشّديد للثّورة من خلال تعيين دمًى، قطع شطرنج، في منصب رئيس الوزراء، بعد إسقاط المخلوع. وحرصوا على جلب شخصيّات ضعيفة، مطيعة، مروّضة، تفعل ما يريدون، دون أدنى اعتبار لمشاعر ثوّار مصر. وهذه أكبر خيانة للثّورة. 10- واصل العسكر سياسة المخلوع في تعيين لواءات جيش في مناصب قياديّة، برغم أنّهم غير مؤهلين، ولا يصلحون أصلًا لمثل هذه الأعمال. وقد أعجبني رفض شركة مصريّة كبيرة في الأسكندريّة تعيين لواء مديرًا لها، معلنة أنّه لا يصلح لمثل هذه الوظيفة القياديّة. 11- ترك العسكر أقطاب النّظام البائد يعيثون في الأرض فسادًا، بدلًا من القبض عليهم ومحاكتهم. فها هو أحمد شفيق الّذي ساهم بقوّة في إفساد كلّ شيء في مصر، يتحرّك بكامل حرّيّته داخل مصر وخارجها، وكأنّه من أبطال مصر، برغم جرائمه الكثيرة الّتي ارتكبها في حقّ ثورة مصر وشعب مصر. 12- ترك العسكر أيضًا المدعو عمرو سليمان حرًّا طليقًا، برغم جرائمه المعروفة للجميع في قمع المصريّين، والتّعاون مع أعداء البلاد، ونهب ثروات العباد. 13- والأنكى من كلّ هذا هو أنّ العسكر أطلقوا مجموعة من أفسد عباد اللّه يخوضون انتخابات الرّئاسة. هذا سلوك إجرامي. إنّ العسكر يستخفّون بعقول المصريّين. نسى العسكر وتجاهلوا أنّ ثورة مصر المجيدة هذه قام بها شباب مصر في المقام الأوّل، وأنّ من حقّ هذا الشّباب الشّجاع علينا أن نمنحه فرصة أو على الأقلّ نستمع لمطالبه. لكنّ العسكر لا يتورعون عن الاستخفاف بثورة مصر وعقول المصريّين. فمازال العسكر يصرّون على دعم عدد من الشّخصيّات الّتي تجازوت السّنّ القانونيّة، بل هي شخصيّات تشبه موميات القدماء المصريّين بعدما تجازوت السّبعين والثّمانين من العمر. هذا إصرار خسيس على إرجاع مصر إلى العصر الحجريّ. 14- يصرّ العسكر على إذلال المصريّين بإغراقهم في هموم الحياة اليوميّة، لشلّ قدرتهم على التّفكير، ناهيك عن التّظاهر والاحتجاج: طوابير الخبر، طوابير البوتاجاز، طوابير المواصلات، إلخ. 15- لا يتورّع العسكر عن إرهاب المصريّين بشتّى الطّرق: انفلات أمنى مصطنع، يستحقّون الإعدام عليه، لترويع النّاس. أخبار مضلّلة عن تراجع الاحتياطيّ النّقديّ. سلوك هدّام، إجرامي في مختلف ميادين الحياة. 16- يصرّ العسكر على مواصلة تزوير الانتخابات، ويرفضون تعديل الموادّ الدّستوريّة المجحفة بحقّ الشّعب في انتخابات نزيهة. وهذه جريمة أخرى يستحقّون عليها الإعدام فورًا. 17- مازال العسكر يمارسون سياسة التّضليل والكذب والنّفاق من خلال وسائل إعلام مضلّلة، تبتلع مليارات من أموال الشّعب. ما أجرمهم حقًّا. يسرقون أموال الشّعب، لإنفاقها على أجهزة الكذب على الشّعب. 18- اخترق العسكر القضاء المصريّ منذ قديم الأبد، وسعوا إلى ترويج الأضاليل بيننا بأنّ القضاء مستقلّ، وهذه أكبر كذبة أشاعوها بين النّاس. فها هو قضاؤهم المستقل لا يستحي من عقد محاكمات في غاية السّخافة للمخلوع وعصابته، ناهيك عن قتلة الثّوّار. 19- يتلذّذ العسكر بتعذيب أهالي شهداء الثّورة، ومطالبتهم بأوراق لا تنتهي من أجل منحهم حفنة جنيهات لا تغني ولا تسمن من جوع. 20- لم يتحمّل العسكر وشرطتهم القمعيّة هتافات جماهير الأهلي البطلة: «يسقط يسقط حكم العسكر»، فدبّروا لهم مذبحة بورسعيد الّتي يستحقون عليها أيضًا حكم الإعدام. 21- ولَمّا تواصلت هتافات شرفاء مصر «يسقط يسقط حكم العسكر»، مسقطة بذلك المزيد من الأقنعة الكاذبة للعسكر، لم يجد العسكر إلّا مسرحيّة «التّمويل الأجنبيّ»، لاستجداء عطف النّاس. لكنّنا جميعًا رأينا سخافة هذه المسرحيّة، وهي سخافة أصبحت ماركة مسجّلة باسم العسكر في الشّهر العقاريّ. 22- وأخيرًا وفي سلوك يذكّرنا بسلوك الطّاغية القذّافي - سلوك الدّيك المذبوح - قبل تصفيته وتخليص الإنسانيّة من شروره، سعى العسكر مؤخرًا إلى ترويع بعض شرفاء الثّوّار بإحالتهم إلى المحكمة العسكريّة، وكأنّهم لم يسمعوا عن قيام ثورة في مصر في الخامس والعشرين من يناير 2011م. 23- والملفت للنّظر أنّ العسكر مازالوا يعيشون في أبراجهم العاجيّة، متوهمين أنّ الشّعب المصريّ يصدّق أكاذيبهم. فهم يدفعون إلينا بصورة شبه يوميّة بمرشح جديد للرّئاسة. والغريب أنّ الشّعب صار يدرك فورًا حقيقة هذه الشّخصيّات الانتهازيّة، بداية من العوا، مرورًا بشفيق، وانتهاء بعمرو سليمان والمومياء المدعو منصور حسن. قلوب المصريّين تتعاطف فقط مع الشّرفاء من المرشحين من أمثال مجدي حسين، وأبي الفتوح، وحازم أبي إسماعيل، وأيمن نور.