باعتباري أحد المصريّين الّذين اضطروا إلى الفرار من جحيم دولة عسكر مصر البوليسيّة يهمني أن أبعث بتحياتي الحارّة إلى جميع المشاركين في ثورة مصر العظيمة ضدّ الطّاغية المستبد. اعلموا أنّ هناك أكثر من خمسة ملايين مصري هاجروا إلى أوروبا وأمريكا فرارًا من بطش الدّولة البوليسيّة في مصر. جميع المصريّين المغتربين في أوروبا وأمريكا تؤيّد هذه الثّورة المجيدة، ويخرج معظمهم في مظاهرات سلميّة في شتى المدن الغربيّة تأييدًا وتضامنًا مع المصريّين في الدّاخل. نحن جميعًا نريد دحر هذا النّظام الفاسد فورًا، وبعد. قرأت اليوم - الثّامن من فبراير عام 2011م - خبر صدور أمر من الحاكم العسكريّ الدّيكتاتوريّ للبلاد بتشكيل لجنة من فقهاء القانون من أجل وضع دستور جديد للبلاد. تعجّبت أنّ هذا المستبد مازال يصرّ على إصدار الأوامر، برغم أنّ الشّعب قام بخلعه منذ الخامس والعشرين من يناير 2011م.
على كُلّ حالٍ يهمني أن أهيب بكل شرفاء مصر أن يسارعوا الآن وفورًا إلى الدلو بدلوهم من أجل صياغة دستور جديد لمصر.
باعتباري مواطنًا مصريًّا أعيش هذه الثّورة منذ لحظتها الأولى وينبض بها قلبي منذ يومها الأوّل، وأدعو لها البارئ تعالى بكل توفيق ونجاح - أسمح لنفسي بتقديم بعض الملاحظات العامّة عن الشّكل الجديد للدّستور المصريّ:
أوّلًا: أتمنى وأرجو أن يأتي دستورنا الجديد في أحد جوانبه كردّ فعل على مرحلة التّزوير والقهر والقمع الّتي عاشها شعب مصر الصّبور بداية حكم العسكر 1952م وحتّى الآن. بدلًا من تزوير فاضح للانتخابات ينبغي أن يقرّ الدّستور الجديد مبدأ «التّصويت الإجبارىّ». نظام التّصويت الإجباريّ معمول به في البرازيل في حدود علمي. لكن بصرف النّظر عن هذا نريد أن تكون مصرُ المستقبل دولةً يشارك فيها جميع المصريّين، الكبير والصّغير، الفقير والغني، القوي والضّعيف، الرّجال والنّساء، الشّباب والشّابّات. ذلك أن عسكر مصر كرّسوا منذ 1952م حقيقة «تزوير الانتخابات»، لأنّ نظرتهم للشّعب المصريّ لا تختلف كثيرًا عن نظرة قادة الجيش المصريّ إلى الجنود، نظرة استعلائيّة، أبويّة، استحقاريّة، ازدرائية. نريد لذلك أن نعيد الحقوق لأصحابها، فيحصل كلّ مواطن مصري في الدّاخل والخارج على حقّ الانتخاب والتّصويت الإجباريّ. لا تزوير بعد اليوم. لا تهميش للشّعب بعد اليوم، بل دعوة الجميع إلى المشاركة في تحمّل المسؤوليّة. وندعو فقهاء القانون في مصر إلى التّفكير في فرض عقوبة رادعة على المواطن المصريّ السّلبي الّذي لا يشارك في تقرير مصير بلاده.
ثانيًا: ندعو ونتمنى أن يقرّ دستور مصر الجديد فرض حظر شامل على جميع رجال الجيش والشّرطة أن يعملوا في مجال السّياسة. لقد اكتوت مصر بنار ديكتاتوريّة الحكم العسكريّ منذ 1952م: تزوير الانتخابات صار من التّقاليد العريقة للنّظام المصري البوليسيّ الإجرامي، قمع متواصل للشّعب المصريّ، انتهاك كرامة المواطن المصريّ، سلب الشّعب المصريّ من شتّى حقوقه الأساسيّة الّتي أقرّتها جميع إعلانات حقوق الإنسان العالميّة. نريد أن نأخذ العبر من هذه الحقبة التّاريخيّة السّوداء من تاريخ مصر الّتي تعتبر بالفعل أحلك حقبة في تاريخ مصر برمته. العسكر لا يصلحون للسّياسة، ولا هم مؤهلون لحكم دولة كمصر، بل إنّ الحياة العسكريّة تتناقض أصلًا مع قواعد الدّيمقراطيّة. إذًا ينبغي أن يقرّ دستور مصر الجديد حظرًا شاملًا على جميع أفراد القوّات المسلحة والشّرطة بممارسة السّياسة. على الجيش أن يطوّر قدراته، ويركز جهوده على الشّؤون العسكريّة وينأى بنفسه عن السّياسة الّتي لها قواعدها وأصولها المختلفة كلّيّة عن قواعد الجنديّة وأصول الحياة العسكريّة. قالت العرب قديمًا: «مَنِ اشتغل بما لا يعنيه، فاته ما يعنيه». لانريد أن نرى في المستقبل الفضائح الّتي نراها اليوم بصورة منتظمة: شخص برتبة فريق يرأس وزراء مصر، ثمّ تجري معه فضائيّة أمريكيّة حورًا، فإذا به يفضح نفسه ويفضح مصر، نظرًا لضعف لغته الإنجليزيّة ما جعله لا يفهم الأسئلة الموجّه إليه!! طبيعة عمل العسكر والعلوم الّتي درسوها تجعلهم أبعد ما يكون عن المطالب الأساسيّة للحياة السّياسية والدّبلوماسيّة.
ثالثًا: ندعو فقهاء القانون في مصر إلى إدخال فقرة في الدّستور المصريّ الجديد تضمن لشعب مصر التّأكّد من أنّ أي مصريّ يتولّى حكم مصر يتمتّع بقدر متميّز بالذّكاء. فكما ذكرنا أعلاه لابدّ أن يأخذ الدّستور الجديد أحداث عصرنا بعين الاعتبار. فأنا أقرّ وأزعم مثلًا أنّ فقرة كهذه كان من شأنها مثلًا أن توفّر علينا كثيرًا من المصائب. للقارئ الكريم أن يتخيّل مثلًا وجود فقرة كهذه - تنصّ على ضرورة خضوع أي مرشّح للرّئاسة لاختبار ذكاء - في الدّستور الأمريكيّ. لا شكّ أنّ هذا كان من الممكن أن ينفذ العالم أجمع من الكوارث الّتي تعرّضت لها الإنسانيّة بسبب جنون الرئيس الأمريكيّ السّابق. لا شكّ أيضًا أن إدخال فقرة كهذه في الدّستور المصريّ الجديد سيضمن لنا في المستقبل استبعاد أفراد يعانون من نقص شديد في الذّكاء مثل طاغية مصر الحالي المعروف عنه البطء الشّديد في الفهم الّذي كلّف البلاد الغالي والنّفيس. أزعم أيضًا أن فقرة كهذه كان من شأنها أن تقصي جميع متطفلي العسكر الّذين حكموا مصر منذ 1952م وقادوها إلى ما يشبه الهلاك، والعياذ باللّهِ.
رابعًا: بجانب ضرورة تحديد فترة الرّئاسة بخمس سنوات أو ستٍّ، وبعدم السّماح لأي رئيس أن يحكم أكثر من فترتين، ينبغي تقليص صلاحيّات رئيس الجمهوريّة. لا نريد رؤية حاكمًا بعد الآن يتمتّع بصلاحيات مطلقة، يقوم بتغيير الوزراء كما يغير ملابسه، وكما يحلو له. بل إنّي أدعو إلى التّفكير في إمكانيّة تطبيق النّموذج الدّيمقراطيّ الّذي يجعل من رئيس البلاد مجرّد منصب فخريّ، بحيث يكون لدينا حياة حزبيّة نشطة، وأن يكون حكم البلاد في يد وزارة منتخبة ديمقراطيّا يراقبها برلمان فيدارالي قويّ.
خامسًا: نريد من الدّستور المصريّ الجديد أن يحمل روح الوطنيّة، وأن يعبّر عن آمال المصريّين الّذين عانوا طويلًا من القهر والقمع والتّعذيب. أقصد هنا بالتّحديد ضرورة أن ينصّ الدّستور المصريّ الجديد على حثّ كلّ مصريّ ومصريّة أن يقوم أو تقوم بالإسهام الفعليّ في تطوير مصر وتقوية اقتصادها والاستبسال في الدّفاع عن حقوقها وأرضها. هذا على المستوى الشّخصي. أمّا المستوى القومي أو الوطني الدّاخلي، فينبغي إلغاء العمل بالنّظام المركزيّ، بعدما أثبت أنّه فشل في تعبأة جهود جميع أفراد الشّعب من أجل تطوير البلاد وتنميتها. لابدّ من رفع الوصاية عن الشّعب المصري، ودعوة كلّ فرد إلى المشاركة في تحمّل المسؤوليّة. هذا يعني حتميّة منح كلّ محافظة وكلّ مدينة وكلّ قرية وكل كفر نوعًا من الاستقلال وتقرير المصير، دون أن يعني هذا الانفصال عن الحكومة المركزيّة الّتي ستصير حكومة فيدراليّة. لابدّ أن من تطوير العمل السّياسيّ في مصر. لابدّ من الاستفادة من خبرات الآخرين. لابدّ من مراعاة ما أحرزته الأمم الأخرى من تقدّم سياسيّ يرمي ويهدف إلى رفع مستوى الأداء، وتحسين مستويات معيشة المواطن، واحترام حقوق الإنسان الأساسيّة. لا يصحّ ولا يجوز أن نظلّ بمنأى ومعزل عمّا يدور في بلدان العالم المتقدّم. لقد أثبت النّظام الفيدراليّ فعاليّته في التّجربة السّويسريّة مثلًا. لا يجوز ولا يليق أن نسمح بتكرار تجربتنا المريرة مع حكم العسكر بحيث يأتينا حاكم مستبد آخر يقوم باستدعاء قادة الجيش لصرفهم عن الارتقاء بمستوى أداء الجيش، ويعينهم محافظين لشتّى محافطات مصر. نريد أن يبقى قادة الجيش في مواقعهم الأصليّة في الجيش، ليطوّروا قدرات الجيش، ويجعلوه جيشًا قويًّا، ثُمَّ ينصّ الدّستور على أن يقومَ أبناء كلّ محافظة باختيار ممثليهم ومحافظيهم بأنفسهم. لا وصاية بعد اليوم.
سادسًا: نريد من الدّستور الجديد أن يضع من الموادّ ما يضمن لشعبنا ألّا يكرّر التّجربة المريرة مع «الدّولة البوليسيّة» الّتي فرضها العسكر علينا منذ 1952م. لا يجوز أن يسمح الدّستور لأي حاكم مستبد بعد ذلك أن يقوم بتقسيم ميزانية البلاد بين شرطة تقمع الشّعب ومباحث تتجسّس عليه. لا يجوز أن يسمح الدّستور الجديد لأي حاكم مصريّ بعد ذلك أن يقوم بتحويل جيشها إلى جيش ورقي، وجعل شرطتها آداة قمع تمارس الإرهاب والإجرام تجاه شعب مصر. هذا الزّمن قد ولّى إلى الأبد.
سابعًا: نتمنى ونحلم أن ينصّ الدّستور المصريّ الجديد على إعادة الاعتبار إلى العلماء والباحثين، فالعلماء هم ورثة الأنبياء. العلماء الّذين بدأ البطش بهم منذ اللّحظة الأولى لحكم العسكر، حيث كان عبد النّاصر يمارس حربًا خفية ضدّ علماء مصر، وكان السّادات يسخر منهم، وقام مبارك بتجويعهم وتطفيشهم تمامًا. لا نريد سماع الرّتب والألقاب العسكريّة والبوليسيّة والمباحثيّة والمخابرتيّة الّتي ارتبطت في أذهاننا بعصر إجرامي، وحكم استبدادي، وقهر استعبادي. لقد أصبح سماع ألقاب مثل «مأمور مباحث»، أو «لواء شرطة»، أو «لواء جيش»، أو «أمن الدّولة»، أو «مخابرات عسكريّة»، أو «مباحث أمن الدّولة» كفيلة بإثارة الرّعب في قلوب المصريّين، مع أنّ الأصل هو أن تكون هذه الشّرطة في خدمة الشّعب وليس لإرهابه، ومع أنّ الأصل هو أنّ الشّعب هو الّذي يدفعُ مرتبات الشّرطة من خلال الضّرائب. ينبغي لذلك ألّا يسمح الدّستور الجديد بأي تعدّيات إجراميّة ترتكبها الشّرطة بعد هذا التّاريخ الأسود في قمع المصريّين وإذلالهم.
المقترحات الّتي أقدّمها هنا تتخلص فيما يلي: 1- إدخال مبدأ التّصويت الإجباري، 2- حظر اشتغال الجيش أو الشّرطة بالسّياسة، 3- التّأكّد من القوّة العقلية وذكاء أي مرشح لرئاسة البلاد. 4- تقليص صلاحيات الرّئيس وإمكانية جعل منصب الرّئاسة صوريًّا، مثل منصب ملكة إنجلترا، 5- التّحوّل من المركزيّة إلى الفيدراليّة، 6- وضع ضمانات لعدم تكرار ظهور دولة بوليسيّة إجراميّة جديدة، 7- إعادة الاعتبار إلى العلماء.