بعدَ ذلكَ دخلتِ المعتزلةُ في صراعٍ مريرٍ معَ الأشاعرةِ انتهى إلى تشكيلِ العقيدةِ الأشعريّة، كَمَا يلي: أَوَّلًا: قالتِ المعتزلةُ بخلقِ القرآنِ، فقالَ الأشعريُّ في «الإبانة»: «نقولُ إنّكلامَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ،وَإنَّ مَنْ قَالَ بخلقِ القرآنِ،فهو كافرٌ». ثَانِيًا:ِ أنكرتِ المعتزلةُ عذابَ القبرِ،فقالَ الأشعريُّفي «الإبانة»: «نؤمنُ بعذابِالقبرِ ...». ثَالِثًا: نفتِ المعتزلةُ رؤيةَ اللّهِ يومَ القيامةِ،وَأقرّها الأشعريُّبقولهِ: «ندينُ بِأَنَّ اللّهَ يُرى فِي الآخرةِ بالأبصارِ، كَمَا يُرى القمرُ ليلةَ البدرِ». رَابعًا: أنكرتِ المعتزلةُ شفاعةَ رسولِ اللّهِِ (صلعم) لمنِ استحقَّ العقابَ مِنَ المؤمنينَ، وقالتْ إِنَّ هَذِهِ الشفاعةَ لا تَتَّفِقُ مَعَ العدالةِ الإلهيّةِ، فَرَدَّ الأشعريُّ في «الإبانة» بقولِهِ: «نقولُ إنّ اللّهَ عزّوَجلّيُخرجُقَومًا مِنَ النّارِ بَعْدَ أَنِ امتحشُوا (= احترقُوا)،بشفاعةِ رسولِ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عليه وَسَلَّمَ ...». خَامسًا: ذهبتِ المعتزلةُ إِلَى القَوْلِ بِأَنَّ الإنسانَ هُوَ خَالِقُ الشَّرِّ وَالمعَاصي، وَإِنَّ اللّهَ تَعَالَى «لايجوزُ أنْيكونَ مُريدًا للمَعَاصِي»، فعارضَ الأَشْعَرِيُّ قولَ المعتزلةِ هَذَا، وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ «الخيرَ وَالشَّرَّ بقضاءِ اللّهِ وقدرِهِ». بعدَ صبرٍ امتدّ لستّة عقودٍ من مظالمِ العسكرِ وجرائمهم، خرجَ شعبُ مصرَ يردّ على هذه المظالم، بشعار: «يسقط، يسقط، حكم العسكر»، وهو شعار تأخر ستّين عامًا. 4- السّويسريُّ هَانسُ كُينجَ صَاحِبُ نظريّة «المقاييس العالميّة للأخلاق» ارتبطَ مصطلح «المقاييس العالميّة للأخلاق» (= بالألمانيّة:ّ “Weltethos“ ) بالمفكّر السّويسريّ الكبير هانس كيُنج Hans Küng، كبير علماء اللّاهوت في عصرنا هذا. وُلِد هانس كينج في مدينة سورسيه Sursee بكانتون لوتسرن Luzern في سويسرا في التّاسع عشرَ من شهر مارس سنة 1928م. بعد دراسات لاهوتيّة وفلسفيّة في جامعاتِ إيطاليا وفرنسا، عاد إلي سويسرا سنة 1957م حيثُ عمل في مدينة لوتسرن واعظًا دينيًّا لمدّةِ سنتينِ، قبل أن يقضي سنةً باحثًا في جامعة موينستر في ألمانيا الاتّحاديّة. عُيّن أستاذ كرسي لأصول اللّاهوت في جامعة تويبنجن في ألمانيا سنة 1960م. وبرغم قيام البابا يوحنّا الثّالث والعشرين بتعيينه مستشارًا لاهوتيًّا رسميًّا للمجمع الملّيّ سنة 1962م، ثُمَّ تعيينه أستاذًا في كلّيّة اللّاهوت الكاثوليكيّة في جامعة تويبنجن من 1963م حتَّى 1980م - إِلَّا أنّ هذا لم يفلح في منع وقوع الصّدام العنيف بينه وبين إمبراطوريّة الفاتيكان. طبيعة كُينج الثّوريّة حالت دون وقوع أيّ انسجام بينه وبينَ الفاتيكان. فكينج يدرسُ، ويبحثُ، ويفكّر، ويتأمّل، ويحلم، ويطوّر، وينقد، ويُصلحُ، ويعجز عن السّكوت على أيّ شيء يعتبره ظلمًا، أو خطأ، أو انحرافًا. أَمَّا الفاتيكان، فمكبّل بالقوانين، ومحكوم بالرّتب، ومقيّد بالنّظام الهرميّ. كينج يريد الإصلاح، والفاتيكان يأبى الإصلاح. كينج يريد التّطوير، والفاتيكان لا يعترف بشيءٍ اسمه التّطوير. كينج ينادي بالحرّيّة والمساواة، والفاتيكان يأبى إلّا التّشبث بالقيود والتّفرقة بين العباد. وصلتِ الخلافات الفكريّة-اللّاهوتيّة بينَ هانس كينج والفاتيكان إلى ذروتها عندما نشرَ كتابه الشّهير: «معصوم؟ Unfehlbar? » سنة 1970م. انتقد كينج في كتابه هذا عقيدة من أَهَمَّ عقائد الكنيسة الكاثوليكيّة، وهي مسألة عصمة بابا الكنيسة الكاثوليكيّة. وهي عقيدة أدخلتها الكنيسة الكاثوليكيّة على المعتقدات الكنسيّة حديثًا، دون أن يكون لها أيّ أساس في أناجيل المسيحيّة. فقد وضع المجمع الفاتيكانيّ الأوّل (المسكونيّ العشرون) سنة 1870م أسسَ هذه العقيدة الغريبة على رسالة المسيح الأصليّة: أقرّ المجمع الفاتيكانيّ الأوّل (المسكونيّ العشرون) في جلسته الثّالثة (24-4-1870م) في الفصل الثّالث منَ الدّستور العقائديّ „Dei Filius“ ״ابن اللّه״ ما يلي: «الفصل الثّالث: سلطة رئاسة الحبر الرّومانيّ وطبيعتها: ولذلك فبالاستناد إلى شهادة الكتاب المقدّس الواضحة، وبحسب القرارات الّتي حدّدها صراحةً أسلافنا الأحبار الرّومانيّون، إلى جانب المجامع العامّة، نجدّد تحديد مجمع فلورنسا المسكونيّ، الّذي يفرضُ على المؤمنينَ أن يؤمنوا ״بأنّ للكرسيّ المقدّس الرّسوليّ والحبر الرّومانيّ الرّئاسةَ في الأرض كلّها، وبأنّ هذا الحبر الرّومانيّ هو خليفة الطّوباويّ بطرس، هامة الرّسل، ونائب المسيح الحقيقيّ، ورأس الكنيسة كلّها، وأبو جميع المؤمنينَ ومعلّمهم، وبأنّ إليه، في شخص الطّوباويّ بطرس، عهد ربّنا يسوع المسيح بالسّلطة التّامّة لرعاية الكنيسة كلّها وسياستها وإدارتها، كما ورد في أعمال المجامع المسكونيّة وقراراتها المقدّسة״. وبناء على ذلك، نُعلّمُ ونُعلنُ أنّ كنيسةَ رومة تتمتع، بالنّسبة إلى سائر الكنائس، بتدبير من الرّبّ، بأوّليّة في السّلطة العاديّة، وأنّ هذه السّلطة القضائيّة الخاصّة بالحبر الرّومانيّ، وهي سلطة أسقفيّة حقًّا، هي مباشرة. فإنّ الرّعاة من كلّ صنف وكلّ جماعة والمؤمنين، كلّ واحد على انفراد وكلّهم مجتمعينَ، ملزمون بواجب الخضوع التّراتبيّ والطّاعة الحقيقيّة، لا في المسائل المختصّة بالإيمان والأخلاق فقط، بل في الّتي تتناولُ نظام الكنيسة المنتشرة في العالم كلّه وإدارتها. وبذلك، فإنّ الكنيسة، بحفظها وحدة المشاركة وشهادة الإيمان مع الحبر الرّومانيّ، هي قطيع واحد بإمرة راعٍ واحد. هذا هو تعليم الحقيقة الكاثوليكيّة، الّذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يحيدَ عنه دون أن يتعرّضَ إيمانه وخلاصه للخطر. إنّ سلطة الحبر الأعظم هذه لم تحل على الإطلاق دونَ السّلطة القضائيّة الأسقفيّة العاديّة والمباشرة، الّتي يرعى بها الأساقفة، الّذين أقامهم الرّوح القدس (رسل 20/28) خلفاء الرّسل، ويديرونَ كلّ واحد القطيع الموكّل إليه. لا بل إنّ الرّاعي الأعلى والشّامل يؤكّد هذه السّلطة ويُثبّتها ويحميها، بحسب ما قال القدّيس غريغوريوس الكبير: ״إكرامي هو إكرام الكنيسة الجامعة. إكرامي هو قوّة إخوتي المتينة. وحين يؤدَّى لكلّ واحد الإكرام الّذي يعود إليه، أُكْرَمُ أنا״. وبالتّالي، فمن تلك السّلطة الّتي يدير بها الحبر الرّومانيّ الكنيسةَ كلّها يُسْتَنتَجُ حقّه في الاتّصال بحرّيّة، في ممارسة وظيفته، برعاة الكنيسة كلّها وقطعانها، ليتمكّن من تعليمهم وإرشادهم في طريق الخلاص. ولذلك نشجبُ ونستنكرُ آراء الّذين يقولونَ بأنّه يمكنُ الحيلولة شرعيًّا دون اتّصال الرّئيس الأعلى بالرّعاة والقطعان، أوِ الّذينَ يُخضعونه للسّلطة المدنيّة، زاعمينَ أنّ ما يقرّره الكرسيّ الرّسوليّ أو سلطته في ما يختصّ بإدارة الكنيسة لا قوّة ولا قيمة له، ما لم تثبّته موافقة السّلطة المدنيّة. ولأنّ الحقّ الإلهيّ في الرّئاسةِ الرّسوليّة يضعُ الحبرَ الرّومانيّ فوقَ الكنيسة كلّها، نعلّم ونُعلنُ أيضًا أنّه قاضي المؤمنين الأعلى، وأنّه ممكن، في جميع القضايا الّتي تختصّ بالسّلطة القضائيّة الكنسيّة، أن يُستندَ إلى حكمه. ولا يجوزُ لأيٍّ كانَ أن يشكَّ في حكم الكرسيّ الرّسوليّ، الّذي هو فوقَ كلّ سلطة، ولا يحقّ لأيٍّ كانَ أن يدينَ قراراته. ولذلك، فإنّ الّذين يقولونَ بأنّه يجوزُ رفعُ أحكام الحبر الرّومانيّ إلى المجمع المسكونيّ وكأنّه سلطة تفوق سلطة هذا الحبر، يحيدون عن طريق الحقّ. فإن قالَ أحدٌ بأنّ وظيفة الحبر الرّومانيّ هي وظيفة تفتيش وإدارة، لا سلطة قضاء تامّة وعليا على الكنيسة كلّها، لا في ما يختصُّ فقط بالإيمان والأخلاق، بل في ما يختصُّ أيضًا بنظام الكنيسة المنتشرة في العالم كلّه وإدارتها، أو بأنّ له نصيبًا أكبر من تلك السّلطة العليا، لا كمالها التّامّ، أو بأنّ سلطته ليست عاديّة ومباشرة على جميع الكنائس وعلى كلّ واحدة منها، كما هي على جميع الرّعاة والمؤمنين، وعلى كلّ واحد منهم، فليكن مُبسلًا (= هَالِكًا)»(3). نشرَ هانسُ كينجَ الطّبعةَ الأولى مِنْ كِتَابِهِ: «مَعْصُوم؟» سنةَ 1970م مُشكّكًا في هَذِهِ العقيدةِ. وَذَلِكَ بعدمَا أعلنَ الفاتيكانُ مُمَثَّلًا في بَابَا الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ رفضَهُ لوسائلِ منعِ الحملِ وتنظيمِ الأسرةِ كَافَّةً، وَهُوَ مَا اعْتبرَهُ كثيرٌ من العلماءِ مَوقفًا سَلْبِيًّا تجاهَ مشكلةِ الانفجارِ السّكّانيّ في مختلفِ أنحاءِ العالمِ. لم يتردّدِ الفاتيكانُ فِي اتّخاذِ موقفٍ عنيفٍ تجاهَ هانسَ كينجَ، حيثُ سارعُوا بفصلِهِ مِنْ كلّيّةِ اللّاهوتِ الكاثوليكيّةِ في جامعةِ تويبنجنَ سنةَ 1979م، دونَ أن يتجرؤوا على إصدارِ حكمٍ بطردِهِ مِنَ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ برمّتهَا، لأنّهُ مَا انفكّ يؤكّدُ أنّهُ مسيحيُّ الدّيانةِ، لكنّ فهمَه للمسيحيّةِ يختلفُ عَنْ فهمِ الفاتيكانِ لَهَا. انكبّ كينجُ بعدَ ذلكَ عَلَى دراسةِ أديانِ العالمِ. ثُمّ صَاغَ متأثّرَا بِهَذِهِ الدّراساتِ نظريّتَهُ عَنِ السّلامِ العالميّ سنةَ 1984م: «لا سَلامَ عالميًّا، بلا سَلامٍ بينَ الأديانِ. وَلا سلامَ بينَ الأديانِ، بِلَا حوارٍ بينَ الأديانِ». وفي عَامِ 1990م نشرَ كتابِهِ عَنْ «مشروع مقاييسَ عالميّةٍ للأخلاقِ». وَفي سنة 2006م نشرَ كتابَهُ «لماذَا مقاييسُ عالميّةٌ للأخلاقِ؟». وبلغَ عددُ مَا نشرَهُ من كُتُبٍ نَحْوَ سَبعينَ كِتَابًا. يقولُ هانسُ كينج في كِتَابِهِ «لِمَاذَا مَقَاييسُ عَالميّةٌ لِلْأَخْلَاقِ؟»: «إِنَّ سَحْبَ رُخْصَةِ ٱلتَّدْرِيسِ ٱلْكَنَسِيَّةِ قَدْ مَنَحَنِي بِلَا شَكًّ - رَغْمَ أَنْفِ هَؤُلَاءِ ٱلْمَسْؤُولِينَ عَنْهُ - مَزِيدًا مِنَ ٱلْحُرَّيَّةِ وَٱلْوَقْتِ، لِلْٱنْفِتَاحِ عَلَى قَضَايَا ٱلْأَدْيَانِ ٱلْعَالَمِيَّةِ. لَكِنَّ هَذِهِ ٱلْمَسْأَلَةَ كَانَتْ قَدْ أَثَارَتِ ٱهْتِمَامِي بِدَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ مُنْذُ سَنَوَاتِ دِرَاسَتِي فِي رُومَا، مِنْ عَامِ 1948م حَتَّىٰ عَامِ 1955م. لَقَدْ شَارَكْتُ حِينَئِذٍ فِي حَلْقَةٍ دِرَاسِيَّةٍ Seminar عَنِ ٱلْخَلَاصِ خَارِجَ ٱلْكَنَائِسِ، خَلَاصِ ״ٱلْوَثَنِيَّينَ״. كَانَتْ مُسْوَّدَةُ أَوَّلِ بَحْثٍ لَاهُوتِيًّ صَغِيرٍ كَتَبْتُهُ فِي خَمْسِينِيَّاتِ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشّرِينَ عَنْ ״عَقِيدَةِ ٱلْوَثَنِيَّينَ״ “Glaube der Heiden“. فِي عَامِ 1955م زُرْتُ شَمَالَ أَفْرِيقْيَا لِأَوَّلِ مَرَّةٍ. سَافَرْتُ بِٱلْقِطَارِ مِنْ تُونِسَ إِلَى هِيبُونَ Hippo، ٱلْمَدِينَةِ ٱلَّتِي عَمِلَ فِيهَا أُغُوسْطِينُ Augustin، عِنْدَمَا لِمْ يَعْرِفِ ٱلطَّرِيقَ إِلَىٰ أَفْرِيقْيَا فِي خَمْسِينِيَّاتِ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشْرِينَ إِلَّا قِلَّةٌ مِنَ ٱللَّاهُوتِيَّينَ. زُرْتُ جَمْعِيَّةَ رُهْبَانِ ״ٱلْآبَاءِ ٱلْبِيضِ״ “Die Weißen Väter“ فِي قَرْطَاجَةَ، وَأَتَذَكَّرُ كَيْفَ تَبَادَلْتُ أَطْرَافَ ٱلْحَدِيثِ لَيْلًا عَلَىٰ سَطْحِ كَاتِدْرَائِيَّةِ قَرْطَاجَةَ مَعَ ٱلرَّئِيسِ ٱلْإِقْلِيمِيَّ حِينَئِذٍ عَنْ أَسْبَابِ عَدَمِ إِحْرَازِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ أَيَّ تَقَدُّمٍ يُذْكَرُ فِي ٱلْوَاقِعِ فِي شَمَالِ أَفْرِيقْيَا، حَيْثُ يَسُودُ ٱلْإِسْلَامُ. كَانَ ٱلْٱشْتِغَالُ بِذَلِكَ إِذًا، وَٱلْحِوَارُ مَعَ أَدْيَانِ ٱلْعَالَمِ ٱلْكُبْرَىٰ، مِنَ ٱهْتِمَامَاتِي ٱلْمُبَكَّرَةِ. لَكِنَّي لَمْ أُخَطَّطْ مَسِيرَتِي ٱللَّاهُوتِيَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ بِوُسْعِي ٱلتَّخْطِيطُ لَهَا عَلَىٰ ٱلْإِطْلَاقِ. كَانَتْ تُوَاجِهُنِي تَحَدَّيَاتٌ جَدِيدَةٌ بِصُورَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ. لَقَدْ عَمِلْتُ، إِنَّ صَحَّ ٱلتَّعْبِيرُ، حَسَبَ نَمُوذَجِ تُويِنْبِي ״ٱلتَّحَدَّي وَٱلْٱسْتِجَابَةُ״ “challenge and response“. كُنْتُ أَتَرَاجَعُ أحْيَانًا عَنْ خُطَطٍ لِنَشْرِ كُتُبٍ، لِأَنَّ هَذَا وَذٰاكَ جَاءَ فِي تِلْكَ ٱلْأَثْنَاءِ بِصُورَةٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعَةٍ. كُنْتُ قَدْ أَرَدْتُ بَعْدَ ٱلْٱنْتِهَاءِ مِنْ أُطْرُوحَتِي لِنَيْلِ شَهَادَةِ ٱلدُّكْتُورَاةِ فِي عِلْمِ ٱللَّاهُوتِ عَنْ مَوْضُوعِ ٱلتَّبْرِيرِ Rechtfertigung ٱلتَّقَدُّمَ أَوَّلًا لِلْحُصُولِ عَلَىٰ دُكْتُورَاةٍ فِي ٱلْفَلْسَفَةِ مِنْ پَارِيسَ، وَأَعْدَدْتُ لِذَلِكَ مُسْوَّدَةً شِبْهَ كَامِلَةٍ عَنْ هِيجَلَ Hegel. تَرَاجَعْتُ عَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ ٱسْتِدْعَائِي لِجَامِعَةِ تُوِيبِنْجِنْ Tübingen كَأُسْتَاذِ كُرْسِيًّ، ثُمَّ صِرْتُ بَعْدَ ذٰلِكَ لَاهُوتِيَّ مَجْمَعٍ Konzilstheologe. بَعْدَ قَضَايَا ٱلْوُجُودِ ٱلْمَسِيحِيَّ die christliche Existenz، وَتِبْرِيرِ مُقْتَرِفِ ٱلْمَعَاصِي، ٱلَّتِي شَغَلَتْنِي فِي خَمْسِينِيَّاتِ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشْرِينَ، كَانَتْ سِتَّينِيَّاتُ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشْرِينَ بَعْدَ ذٰلِكَ مَطْبُوعَةً كُلَّيَّةً بِمَسَائِلِ ٱلْمَجْمَعِ (= ٱلْمَجْمَعِ ٱلْفَاتِيكَانِيَّ ٱلثَّانِي)، وَٱلْكَنِيسَةِ، وَٱلْحَرَكَةِ ٱلْمَسْكُونِيَّةِ. كُنْتُ مَشْغُولًا بِمَا فِيهِ ٱلْكِفَايَةُ لِٱسْتِيعَابِ كُلَّ مَا ٱنْهَالَ عَلَيَّ ذِهْنِيًّا حِينَئِذٍ. أَلَّفْتُ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ كِتَابِي عَنِ ״ٱلْكَنِيسَةِ״ “Die Kirche“ (عَامَ 1967م)، ٱلَّذِي مَازَالَ يُسْتَخْدَمُ مَرْجِعًا فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ حَتَّىٰ يَوْمِنَا هَذَا، بِٱسْتِثْنَاءِ ٱلْأَمَاكِنِ ٱلَّتِي تَمَّ حَظْرُهُ فِيهَا. بَعْدَ ذٰلِكَ كَانَتْ سَبْعِينِيَّاتُ ٱلْقَرْنِ ٱلْعِشْرِينَ مُخَصَّصَةً لِأُسُسِ ٱلْمَسِيحِيَّةِ. كَانَ ذٰلِكَ نَتِيجَةً لِأَنَّ كِتَابِي: ״مَعْصُومٌ؟״ „Unfehlbar?“ (عَامَ 1970م) طَرَحَ ٱلسُّؤَالَ إِنْ كَانَ مِنَ ٱلْمُمْكِنِ حَقًّا تَأْسِيسُ عِلْمِ لَاهُوتٍ عَلَىٰ عَقَائِدَ مَعْصُومَةٍ، خَاصَّةً عِنْدَمَا تَكُونُ عَقَائِدَ مَشْكُوكًا فِيهَا هَكَذَا، مِثْلَ عَقِيدَةِ ״لَا خَلَاصَ خَارِجَ ٱلْكَنِيسَةِ״ مَثَلًا. تُكوَّنُ ٱلْكُتُبُ ٱلثَّلَاثَةُ: ״هُوِيَّةُ ٱلْمَسِيحِيَّ״ „Christ sein“، وَ״هَلِ ٱللّهُ مَوْجُودٌ؟״ „Existiert Gott?“، وَ״حَيَاةٌ سَرْمَدِيَّةٌ؟״ „Ewiges Leben?“ بِٱلنَّسْبَةِ لِي أَسَاسَ عَمَلِي ٱللَّاهُوتِيَّ حَتَّى ٱلْيَوْمِ. لَمْ أُضْطَرَّ إِلَى تَنْقِيحِ أَيًّ مِنْ هَذِهِ ٱلْمَوَاقِفِ حَتَّىٰ يَوْمِنَا هَذَا. بِٱلْعَكْسِ، فَإِنَّ ٱلْفَصْلَ ٱلْأَوَّلَ مِنْ كِتَابِ ״هُوِيَّةِ ٱلْمَسِيحِيَّ״ „Christ sein“ قَدْ وَصَفَ أُفُقَ ٱلْعَلْمَانِيَّةِ ٱلْحَدِيثَةِ moderne Säkularität وَأُفُقَ ٱلْإِلْحَادِ ٱلْحَدِيثِ moderne Atheismus مِنْ نَاحِيَةٍ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَىٰ أُفُقَ ٱلْأَدْيَانِ ٱلْعَالَمِيَّةِ. أَمَّا كِتَابِي ״هَلِ ٱللّهُ مَوْجُودٌ؟״ „Existiert Gott?“ ، فَهُوَ يُعَالِجُ مَُصْطَلَحَ ٱلْإِلَهِ عِنْدَ ٱلصَّينِيَّينَ، وَفِي ٱلدَّيَانَةِ ٱلبُوذِيَّةِ ٱلَّتِي لَا تَعْرِفُ مَذْهَبَ ٱلتَّأْلِيهِ. وَيَتَنَاوَلُ كِتَابِي ״حَيَاةٌ سَرْمَدِيَّةٌ؟״ „Ewiges Leben?“ عِلْمَ ٱلْآخِرَةِ Eschatologie، وَأَوْجُهًا أُخْرَىٰ لِلدِّيَانَاتِ ٱلْعَالَمِيَّةِ. بِهَذِهِ ٱلْخَلْفِيَّةِ كُنْتُ فِي نِهَايَةِ عَامِ 1979م، عِنْدَمَا وَقَعَتِ ٱلْمَعْرَكَةُ ٱلْكُبْرَى بَيْنِي وَبَيْنَ ٱلْفَاتِيكَانِ بَخُصُوصِ مَوْضُوعِ ״ٱلْعِصْمَةِ״ Unfehlbarkeit مُسْتَعِدًّا بِدَرَجَةٍ لَا بَأْسَ بِهَا لِهَذَا ٱلْٱنْفِتَاحِ عَلَى ״ٱلْحَرَكَةِ ٱلْمَسْكُونِيَّةِ ٱلْكُبْرَىٰ״ (أَيِ ٱلْحِوَارِ بَيْنَ أَدْيَانِ ٱلْعَالَمِ). وَإِلَّا فَمِنَ ٱلْمُرَجَّحِ أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ لِأَتَجَاسَرُ عَلَى مُنَاقَشَةِ ٱلْمُتَخَصَّصِينَ فِي ٱلْإِسْلَامِ وَٱلْهِنْدُوسِيَّةِ وَٱلْبُوذِيَّةِ عَلَانِيَّةً عَامَ 1982م فِي قَاعَةِ ٱلْمُحَاضَرَاتِ ٱلْكُبْرَى بَجَامِعَةِ تُوِيبِنْجِنَ Tübingen حَوْلَ ٱلْقَضَايَا ٱلْأَسَاسِيَّةِ لِهَذِهِ ٱلْأَدْيَانِ. لَقَدْ مَنَحَنِي ٱلْأَسَاسُ ٱلْمَتِينُ فِي ٱللَّاهُوتِ ٱلْمَسِيحِيَّ ٱلطُّمَأْنِينَةَ بِأَنَّهُ سَيَخْطُرُ عَلَى بَالِي إِجَابَةٌ عَنْ كُلَّ مَا يَرِدُ إِلَيَّ مِنَ ٱلْأَدْيَانِ ٱلْعَالَمِيَّةِ ٱلْأُخْرَىٰ. إِنَّ مَا وَضَعْتُ أَسَاسَهُ قَبْلَ ذٰلِكَ بِكَثِيرٍ، تَمَكَّنْتُ مَنْ تَطْوِيرِهِ مِهْنِيًّا فِيمَا بَعْدُ. مِنْ خِلَالِ ٱلْحِوَارِ مَعَ زُمَلَائِي فِي جَامِعَةِ تُوِيبِنْجِنْ: أُسْتَاذِ ٱلدَّرَاسَاتِ ٱلْهِنْدِيَّةِ هَايِنْرِيخَ فُونْ شْتِيتِنْكُرُونَ Heinrich von Stietencron، وَأُسْتَاذِ ٱلدِّرَاسَاتِ ٱلْإِسْلَامِيَّةِ يُوسُفَ فَانْ إِسَ Josef van Ess، وَأُسْتَاذِ ٱلدِّرَاسَاتِ ٱلْبُوذِيَّةِ فِي جَامِعَةِ تُوِيبِنْجِنْ بِيخَرْتَ Bechert، وَٱلزَّمِيلَةِ ٱلصَّينِيَّةِ يُولْيَا تِشِينْجَ، جَاءَتْنِي بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلْوَاقِعِ تِلْقَائِيًّا فِكْرَةُ ٱلسَّلَامِ بَيْنَ ٱلْأَدْيَانِ، كَأَسَاسٍ لِلسَّلَامِ بَيْنَ ٱلْأُمَمِ. لَقَدْ تَمَّ صِيَاغَةُ هَذِهِ ٱلْفِكْرَةِ عَامَ 1984م، قَبْلَ أَنْ يَلْفِتَ صَامْوِيلُ هَانْتِجْتُونَ ٱلْأَنْظَارَ إِلَيْهِ بِمَقَالِهِ عَنْ ״صِدَامِ ٱلْحَضَارَاتِ״ „Clash of Civilization“ بِوَقْتٍ طَوِيلٍ. وَلِأَنَّي كُنْتُ قَدْ تَحَدَّثْتُ عَامَ 1989م، ٱلْعَامَ ٱلْكَبِيرَ لِلثَّوَرَاتِ ٱلْأُورُوبَّيَّةِ، فِي كُلًّ مِنَ ٱلْيُونِسْكُو UNESCO عَنْ سَلَامِ ٱلْأَدْيَانِ، وَٱلسَّلَامِ ٱلْعَالَمِيِّ، وَفِي ٱلْمُنْتَدَىٰ ٱلْٱقْتِصَادِيَّ ٱلْعَالَمِيَّ فِي دَافُوسَ عَنْ مَسْأَلَةِ ״ٱلْمَعَايِيرِ ٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْمُشْتَرَكَةِ״، كُنْتُ مُهَيَّأً بِصُورَةٍ جَيَّدَةٍ فِي ٱلْعَامِ ٱلتَّالِي لِنَشْرِ كِتَابِي: ״مَشْرُوعُ مَقَايِيسَ عَالَمِيَّةٍ لِلْأَخْلَاقِ״ „Projekt Weltethos“ (عَامَ 1990م). لَقَدْ تَحَدَّانِي ٱلْآخَرُونَ (= طَلَبُوا مِنَّي) أَنْ أُفَكَّرَ فِي ٱلْمَعَايِيرِ ٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْمُشْتَرَكَةِ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَحَاوَلْتُ بِدَوْرِي تَقْدِيمَ إِجَابَاتٍ»(4). 5- مَا هِيَ المَقَاييسُ العالميّةُ لِلْأَخْلَاقِ؟ مَرَّ هَانْسُ كينجَ بثلاثِ مَرَاحِلَ أساسيّةٍ، قَبْلَ أَنْ يُكَلِّلَ مَشروعَهُ الفكريَّ بنظريّةِ «المقاييسِ العالميّةِ للأخلاقِ». فَدرسَ أَوَّلًا اللّاهوتَ المسيحيَّ دراسةً عميقةً. ثُمّ انتقلَ بعدَ ذلكَ إلى دراسةِ الأدْيَانِ العالميّة، بَعْدَ فصلِهِ من كلّيّة اللّاهوتِ الكاثوليكيّة في جَامعةِ تويبنجن بألمانيا. وفي المرحلةِ الثّالثةِ وضعَ نظريّتَهُ عَنِ السّلامِ العالميّ: «لَا سَلامَ عالميًّا، بِلَا سَلامٍ بينَ الأديانِ. لا سلامَ بينَ الأديانِ، بدونِ حوارٍ بينَ الأديانِ. لا حوارَ بينَ الأديانِ، بدون دراسةٍ لأصولِ الأديانِ». وَفي المرحلةِ الرّابعةِ وضَعَ نظريّته عَنِ «المقاييسِ العالميّةِ للأخلاق». النّصُّ المستخدمُ هُنَا هُوَ التّرجمة العربيّة ل «إعلان برلمان الأديان العالميّة عَنِ المقاييسِ العالميّة للأخلاق». كتبَ هانس كينج هذا الإعلانَ في الرّابعِ مِنْ شهرِ سبتمبرَ عَامَ 1993م، ونشره كملحقٍ في كتابه: «لماذا مقاييس عالميّة للأخلاق؟» يمكنُ اعتبارُ «المقاييس العالميّة للأخلاق» ردّ فعلٍ على الأوضاعِ المزريّة الّتي وصلتْ إليها الإنسانيّةُ بصفةٍ عامّة في عصرنا هذا. يصدّر هانس كينج إعلانه الخاصّ ب «المقاييس العالميّة للأخلاقيّة» بتوصيفٍ دقيقٍ لأحوال الإنسانيّة في عصرنا هذا. استعراض هانس كينج لقضايا العصر وهمومه يمكنُ اعتباره أيضًا وصفًا لأحوال مصرنا في كثيرٍ من جوانبه. فكما قالوا قديمًا إنّ الإنسانَ عالمٌ صغيرٌ، والعالم إنسانٌ كبيرٌ، فيمكنُ اعتبارُ مصرَ عالمًا صغيرًا، والعالمَ مصرَ كبيرةً. فالأزماتُ الّتي نعاني منها في مصرنا، هي أزمات متشابهة لما تعاني منه دولٌ أخرى، بدرجاتٍ متفاوتة. يصفُ هانسُ كينجَ ما يعانيه عالم اليوم من مشاكل وأزمات، فيقول: «يَمُرُّ عَالَمُنَا بِأَزْمَةٍ أَسَاسِيَّةٍ: أَزْمَةِ ٱقْتِصَادٍ عَالَمِيًّ، وَأَزْمَةِ بِيئَةٍ عِالَمِيَّةٍ، وَأَزْمَةِ سِيَاسَةٍ عَالَمِيَّةٍ. يَشْكُو ٱلنَّاسُ فِي كُلَّ صَوْبٍ وَحَدَبٍ مِنْ غِيَابِ ٱلرُّؤْيَةِ ٱلْكُبْرَى، وَٱلتَّرَاكُمِ ٱلرَّهِيبِ لِلْمَشَاكِلِ غَيْرِ ٱلْمَحْلُولَةِ، وَٱلشَّلَلِ ٱلسَّيَاسِيَّ. فَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا قِيَادَاتٌ سِيَاسِيَّةٌ مُتَوَسَّطَةُ ٱلْمُسْتَوى غَيْرُ مُتَمَيَّزَةٍ، بِلَا وَعْيٍ، وَبِلَا ٱسْتِشْرَافٍ لِلْمُسْتَقْبَلِ، نَاهِيكَ عَنْ ضَحَالَةِ ٱلْإِحْسَاسِ بِٱلْخَيْرِ ٱلْعَامَّ عُمُومًا. ثَمَّةَ إِجَابَاتٌ قَدِيمَةٌ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْبَغِي لِتَحَدَّيَاتٍ جَدِيدَةٍ. يُعَانِي مِئَاتُ ٱلْمَلَايِينِ مِنَ ٱلْبَشَرِ عَلَى كَوْكَبِنَا ٱلْأَرْضِ بِصُورَةٍ مُتَزَايِدَةٍ مِنَ ٱلْبِطَالَةِ، وَٱلْفَقْرِ، وَٱلْجُوعِ، وَتَدْمِيرِ ٱلْأُسْرَةِ. ٱلْأَمَلُ فِي سَلَامٍ دَائِمٍ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ يَتَلَاشَى مِنْ جَدِيدٍ. بَلَغَتِ ٱلتَّوَتُّرَاتُ بَيْنَ ٱلْجِنْسَيْنِ، وَبَيْنَ ٱلْأَجْيَالِ حَدًّا مُخِيفًا. يَمُوتُ ٱلْأَطْفَالُ، وَيَقْتُلُونَ، وَيُقْتَلُونَ. تَهُزُّ فَضَائِحُ ٱلْفَسَادِ فِي ٱلسَّيَاسَةِ وَٱلْٱقْتِصَادِ عَدَدًا مُتَزَايِدًا مِنَ ٱلدُّوَلِ. ٱلتَّعَايُشُ ٱلسَّلْمِيُّ فِي مُدُنِنَا يَزْدَادُ صُعُوبَةً بِسَبَبِ ٱلصَّرَاعَاتِ ٱلْٱجْتِمَاعِيَّةِ وَٱلْعِرْقِيَّةِ وَٱلْإِثْنِيَّةِ، وَبِسَبَبِ سُوءِ ٱسْتِخْدَامِ ٱلْمُخَدَّرَاتِ، وَٱلْجَرَائِمِ ٱلْمُنَظَّمَةِ، بَلْ بِسَبَبِ ٱلْفَوْضَى. حَتَّى ٱلْجِيرَانِ كَثِيرًا مَا يَعِيشُونَ فِي خَوْفٍ. مَازَالَ نَهْبُ كَوْكَبِنَا ٱلْأَرْضِ يَحْدُثُ بِلَا هَوَادَةٍ. تُوَاجِهُ ٱلْأَنْظِمَةُ ٱلْبِيئِيَّةُ خَطَرَ ٱلْٱنْهِيَارِ». يهمّني أن أشيرَ إلى المجهود الهائل الّذي بذله هانس كينج في صياغة هذا الإعلان، حيث كان عليه أن يجري عليه الكثيرَ من التعديلات والتّنقيحات، قبل أنْ يأخذَ شكله الحالي. أتذكّرُ أنّني استمتعتُ جدًّا بنقله إلى اللّغة العربيّة، وأبلغت كينج أثناء دراستي هذا الإعلانَ أنّني أعتبره أشبه بقصيدةٍ شعريّةٍ جميلةٍ. يشيرُ هانس كينج بعد ذلك إلى دخولِ الإنسانيّة عصرًا جديدًا، بعد الحرب العالميّة الثّانيةِ الّتي خلّفت خسائرَ هائلة، دون أن تتّعظَ الإنسانيّةُ منها: «بَعْدَ حَرْبَيْنِ عَالَمِيَّتَيْنِ، وَنِهَايَةِ ٱلْحَرْبِ ٱلْبَارِدَةِ، وَبَعْدَ ٱنْهِيَارِ ٱلْفَاشِيَّةِ وَٱلنَّازِيَّةِ، وَزَلْزَلَةِ ٱلشُّيُوعِيَّةِ وَٱلْٱسْتِعْمَارِ، دَخَلَتِ ٱلْإِنْسَانِيَّةُ مَرْحَلَةً جَدِيدَةً مِنْ تَارِيخِهَا. مِنَ ٱلْمُفْتَرَضِ أَنَّ ٱلْإِنْسَانِيَّةَ تَمْتَلِكُ ٱلْيَوْمَ مَوَارِدَ ٱقْتِصَادِيَّةً، وَثَقَافِيَّةً، وَفِكْرِيَّةً، كَافِيَةً لِتَأْسِيسِ نِظَامٍ عَالَمِيًّ أَفْضَلَ. إِلَّا أَنَّ تَوَتُّرَاتٍ إِثْنِيَّةً، وَقَوْمِيَّةً، وَٱجْتِمَاعِيَّةً، وَٱقْتِصَادِيَّةً، وَدِينِيَّةً، قَدِيمَةً وَحَدِيثَةً، تُهَدَّدُ ٱلتَّأْسِيسَ ٱلسَّلْمِيَّ لِعَالَمٍ أَفْضَلَ. صَحِيحٌ أَنَّ عَصْرَنَا شَهِدَ تَقَدُّمًا عِلْمِيًّا وَتِكْنُولُوچِيًّا أَعْظَمَ مِنْ أَيَّ وَقْتٍ مَضَى، إِلَّا أَنَّنَا نُوَاجِهُ بِرَغْمِ ذَلِكَ حَقِيقَةَ أَنَّ مُعَدَّلَاتِ ٱلْفَقْرِ، وَٱلْجُوعِ، وَوَفَاةِ ٱلْأَطْفَالِ، وَٱلْبِطَالَةِ، وَٱلْإِمْلَاقِ، وَتَدْمِيرِ ٱلطَّبِيعَةِ، عَلَى مُسْتَوَىٰ ٱلْعَالَمِ، لَمْ تَتَرَاجَعْ، بَلْ زَادَتْ. تُوَاجِهُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ خَطَرَ ٱلدَّمَارِ ٱلْٱقْتِصَادِيَّ، وَٱلتَّفَكُّكِ ٱلْٱجْتِمَاعِيَّ، وَٱلتَّهْمِيشِ ٱلسَّيَاسِيَّ، وَٱلْكَوَارِثِ ٱلْبِيئِيَّةِ، وَٱلْٱنْهِيَارِ ٱلْقَوْمِيَّ». ويشكو هانس كينج في «إعلانِ المقاييس العالميّة للأخلاق» من سوء استخدام الدّينِ. فكما أنّ لدينا في مصر بعض التّيّارات المتطرّفة الّتي لا تكفّ عن تكفيرِ العباد، ولا تعترفُ بأيّ مذهبٍ آخر غير مذهبها، نجدُ في الغربِ بالذّات صورًا متعدّدة لسوء استخدام الدّين. فالحروب الصّليبيّة مثلًا دُشِّنَتْ بمباركة الكنيسةِ، برغم أنّ جوهر رسالة المسيح، عليه السّلام، هو السّلام والتّسامح. يقولُ هانس كينج: «دَائِمًا مَا نُلَاحِظُ مِنْ جَدِيدٍ كَيْفَ يَقُومُ زُعَمَاءُ بَعْضِ ٱلْأَدْيَانِ وَأَتْبَاعُهَا فِي مَنَاطِقَ لِيْسَتْ قَلِيلَةً مِنْ هذَا ٱلْعَالَمِ بِإِضْرَامِ ٱلْٱعْتِدَاءِ وَٱلتَّطَرُّفِ وَٱلْبَغْضَاءِ وَمُعَادَاةِ ٱلْأَجَانِبِ. بَلْ إِنَّهُمْ يُؤَجَّجُونَ ٱلصَّدَامَاتِ ٱلْعَنِيفَةَ، وَيُحَلَّلُونَ ٱلْمُوَاجَهَاتِ ٱلدَّمَوِيَّةَ. كَثِيرًا مَا يُسَاءُ ٱسْتِخْدَامُ ٱلدَّينِ لِأَغْرَاضِ سِيَاسَةِ ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَحْضَةِ، وُصُولًا إِلَى تَبْرِيرِ ٱلْحُرُوبِ. هذَا يُثِيرُ ٱشْمِئْزَازَنَا إِلَى أَبْعَدِ ٱلْحُدُودِ». يُدينُ «إعلانُ المقاييسِ العالميّةِ للأخلاق» ما يحدث في العالم من تجاوزات، ومظالم، وجرائم، فيقولُ: «إِنَّنَا نُدِينُ كُلَّ هذِهِ ٱلتَّطَوُّرَاتِ، وَنُعْلِنُ أَنَّ هذَا لَا دَاعِيَ لَهُ». ويعرّفُ هانس كينج «المقاييس العالميّة للأخلاق» بأنّها إجماع على الحدّ الأدنى من المبادئ والقيم المشتركة. ويحرص على التّأكيدِ على أنّ «مقاييس الأخلاق العالميّة» ليست ديانة أو إيديولوجيا جديدة، حيث يقول: «نَحْنُ لَا نَعْنِي بِٱلْمَقَايِيسِ ٱلْعَالَمِيَّةِ لِلْأَخْلَاقِ إِيدْيُولُوچْيَا عَالَمِيَّةً جَدِيدَةً، وَلَا دِينًا عَالَمِيًّا مُوَحَّدًا يَتَجَاوَزُ جَمِيعَ ٱلْأَدْيَانِ ٱلْمَوْجُودَةِ، نَاهِيكَ عَنْ سَيْطَرَةِ دِينٍ وَاحِدٍ عَلَى سَائِرِ ٱلْأَدْيَانِ. بَلْ نَقْصِدُ بِٱلْمَقَايِيسِ ٱلْعَالَمِيَّةِ لِلْأَخْلَاقِ إِجْمَاعًا أَسَاسِيًّا فِيمَا يَخُصُّ ٱلْقِيَمَ ٱلرَّابِطَةَ ٱلْمَوْجُودَةَ، وَٱلْمَعَايِيرَ ٱلثَّابِتَةَ، وَٱلْمَوَاقِفَ ٱلْأَسَاسِيَّةَ ٱلشَّخْصِيَّةَ. بِدُونِ إِجْمَاعٍ أَسَاسِيًّ عَلَى ٱلْمَقَايِيسِ ٱلْأَخْلَاقِيَّةِ يُوَاجِهُ كُلُّ مُجْتَمَعٍ خَطَرَ ٱلْفَوْضَىٰ أَوِ ٱلدَّيكْتَاتُورِيَّةِ، وَسَيُصَابُ ٱلْبَعْضُ بِٱلْيَأْسِ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا». ويشيرُ هانسُ كينجَ إلى أنّ «المقاييس العالميّةَ للأخلاق» موجودة بالفعل في ديانات العالم المختلفة، وثقافاته المتعدّدة، وهو ما يعني أنّنا لن نكون بحاجة إلى وضع «مقاييس» جديدة، بل ستقتصر مهمتنا على البحث والتّنقيب على هذه المقاييس المشتركة في دياناتنا وتراثنا. وتكوّنُ هذه المقاييس المشتركة للأخلاق «رؤية» لإنقاذ العالم من بعض مشاكله: «يُوجَدُ بِٱلْفِعْلِ مَقَايِيسُ أَخْلَاقِيَّةٌ نَسْتَطِيعُ أَنْ نُوَاجِهَ بِهَا هذِهِ ٱلتَّطَوُّرَاتِ ٱلْعَالَمِيَّةَ ٱلْوَخِيمَةَ. صَحِيحٌ أَنَّ هذِهِ ٱلْمَقَايِيسَ ٱلْأَخْلَاقِيَّةَ لَا تُقَدَّمُ حُلُولًا مُبَاشِرَةً لِلْمَشَاكِلِ ٱلْعَالَمِيَّةِ ٱلْهَائِلَةِ كَافَّةً، لكِنَّهَا تُقَدَّمُ ٱلْأَسَاسَ ٱلْأَخْلَاقِيَّ لِنِظَامٍ شَخْصِيًّ وَعَالَمِيًّ أَفْضَلَ: رُؤْيَةٌ يُمْكِنُهَا إِنْقَاذُ ٱلنَّسَاءِ وَٱلرَّجَالِ مِنَ ٱلْيَأْسِ، وَمِنَ ٱلْٱسْتِعْدَادِ لِمُمَارَسَةِ ٱلْعُنْفِ، وَإِبْعَادُ ٱلْمُجْتَمَعَاتِ عَنِ ٱلْفَوْضَى.نَحْنُ - رِجَالًا وَنِسَاءً - نُقِرُّ بِأَوَامِرِ أَدْيَانِ ٱلْعَالَمِ وَشَعَائِرِهَا. إِنَّنَا نُؤَكَّدُ أَنَّ هُنَاكَ إِجْمَاعًا مَوْجُودًا بِٱلْفِعْلِ بَيْنَ ٱلْأَدْيَانِ يُمْكِنُ أَنْ يُشَكَّلَ أَسَاسًا لِمَقَايِيسَ عَالَمِيَّةٍ لِلْأَخْلَاقِ: هُوَ إِجْمَاعٌ أَسَاسِيٌّ عَلَىٰ ٱلْحَدَّ ٱلْأَدْنَىٰ مِنَ ٱلْقِيَمِ ٱلرَّابِطَةِ، وَٱلْمَعَايِيرِ ٱلثَّابِتَةِ، وَٱلْمَوَاقِفِ ٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْمَبْدَئِيَّةِ». ويؤكّد هانس كينج أنّ «المقاييس العالميّة للأخلاق» تسعى إلى تكملة «حقوق الإنسان» المتّفق عليها قبل ذلك بسنوات طويلة: «إِنَّنَا مُقْتَنِعُونَ بِٱلْوَحْدَةِ ٱلْجَوْهَرِيَّةِ لِلْأُسْرَةِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ عَلَى كَوْكَبِنَا ٱلْأَرْضِ. نَحْنُ نُذَكَّرُ لِذَلِكَ بِٱلْإِعْلَانِ ٱلْعَامَّ لِحُقُوقِ ٱلْإِنْسَانِ ٱلصَّادِرِ عَنِ ٱلْأُمَمِ ٱلْمُتَّحِدَةِ عَامَ 1948م. إِنَّ مَا يُنَادِي بِهِ هَذَا ٱلْإِعْلَانُ بِقُوَّةٍ عَلَى مُسْتَوَىٰ ٱلْحُقُوقِ، نُرِيدُ تَأْكِيدَهُ وَتَعْمِيقَهُ هُنَا مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِ ٱلْمَعَايِيرِ ٱلْأَخْلَاقِيَّةِ: ٱلتَّحْقِيقُ ٱلْكَامِلُ: لِحُرْمَةِ ٱلشَّخْصِ ٱلْإِنْسَانِيَّ، وَلِلْحُرَّيَّةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ (= ٱلَّتِي لَا تُبَاعُ)، وَٱلْمُسَاوَاةِ ٱلْمَبْدَئِيَّةِ بَيْنَ جَمِيعِ ٱلْبَشَرِ، وَٱلتَّضَامُنِ ٱلضَّرُورِيَّ، وَٱعْتِمَادِ ٱلْبَشَرِ كَافَّةً بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ». ويشرح هانس كينج رؤيته للتّعايش السّلمي بين الأمم، فيقول: «فِي مِثْلِ هذِهِ ٱلْأَوْضَاعِ ٱلْعَالَمِيَّةِ ٱلْمَأْسَاوِيَّةِ لَا تَحْتَاجُ ٱلْإِنْسَانِيَّةُ إِلَى بَرَامِجَ سِيَاسِيَّةٍ وَأَفْعَالٍ فَحَسْبُ، بَلْ تَحْتَاجُ أَيْضًا إِلَى رُؤْيَةِ تَعَايُشٍ سِلْمِيًّ بَيْنَ ٱلشُّعُوبِ، وَبَيْنَ ٱلْجَمَاعَاتِ ٱلْإِثْنِيَّة وَٱلْأَخْلَاقِيَّةِ، وَبَيْنَ ٱلْأَدْيَانِ، بِمَسْؤُولِيَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ تُجَاهَ كَوْكَبِنَا ٱلْأَرْضِ. رُؤْيَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ٱلْآمَالِ، وَٱلْأَهْدَافِ، وَٱلْمُثُلِ ٱلْعُلْيَا، وَٱلْمْعَايِيرِ. بَيْدَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ ٱلنَّاسِ فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ ٱلْعَالَمِ قَدْ فَقَدُوا كُلَّ هَذَا. بِرَغْمِ ذَلِكَ نَحْنُ مُقْتَنِعُونَ بِأَنَّ: ٱلْأَدْيَانَ بِٱلذَّاتِ، بِرَغْمِ سُوءِ ٱسْتِخْدَامِهَا، وَبِرَغْمِ فَشَلِهَا ٱلتَّارِيخِيَّ ٱلْمُتَكَرَّرِ، تَتَحَمَّلُ مَسْؤُولِيَّةَ إِمْكَانِيَّةِ إِبْقَاءِ مِثْلِ هَذِهِ ٱلْآمَالِ، وَٱلْأَهْدَافِ، وَٱلْمُثُلِ ٱلْعُلْيَا، وَٱلْمَعَايِيرِ، حَيَّةً، وَتَسْوِيغِهَا، وَمُعَايَشَتِهَا. هَذَا يَنْطَبِقُ بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ عَلَى كَيَانِ ٱلدَّوْلَةِ ٱلْحَدِيثَةِ: إِنَّ ضَمَانَاتِ حُرَّيَّةِ ٱلْأَدْيَانِ، وَحُرَّيَّةِ ٱلضَّمِيرِ، ضَرُورِيَّةٌ، لَكِنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحُلَّ مَحَلَّ ٱلْقِيَمِ ٱلرَّابِطَةِ، وَٱلْمَبَادِئِ وَٱلْمَقَايِيسِ ٱلَّتِي تَسْرِي عَلَى ٱلْبَشَرِ جَمِيعًا، بِصَرْفِ ٱلنَّظَرِ عَنِ ٱلْأَصْلِ ٱلْٱجْتِمَاعِيَّ، وَٱلْجِنْسِ، وَٱللَّوْنِ، وَٱللُّغَةِ، أَوِ ٱلدَّينِ. بِنَاءً عَلَى خِبْرَاتِ ٱلْحَيَاةِ ٱلشَّخْصِيَّةِ، وَتَارِيخِ كَوْكَبِنَا ٱلْأَرْضِ ٱلْمُزْدَخِمِ بِٱلْمُعَانَاةِ، تَعَلَّمْنَا مَا يَلِي: لَيْسَ يُمْكِنُ بِٱلْقَوَانِينِ وَٱلْمَرَاسِيمِ وَٱلْٱتَّفَاقَاتِ وَحْدَهَا، خَلْقُ نِظَامٍ عَالَمِيًّ أَفْضَلَ، نَاهِيكَ عَنْ فَرْضِهِ. إِنَّ تَحْقِيقَ ٱلسَّلَامِ، وَٱلْعَدْلِ، وَٱلْمُحَافَظَةَ عَلَىٰ ٱلْأَرْضِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى وَعْيِ ٱلنَّاسِ، وَٱسْتِعْدَادِهِمْ لِٱحْتِرَامِ أَحْكَامِ ٱلْقَانُونِ. إِنَّ ٱلْعَمَلَ مِنْ أَجْلِ ٱلْحَقَّ وَٱلْحُرَّيَّةِ يَفْتَرِضُ وُجُودَ وَعْيٍ بِٱلْمَسْؤُولِيَّةِ وَٱلْوَاجِبَاتِ، وَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِذَلِكَ مُخَاطَبَةُ عُقُولِ ٱلنَّاسِ وَقُلُوبِهِمْ جَمِيعًا. إِنَّ ٱلْحَقَّ بِلَا أَخْلَاقٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدُومَ وَيَسْتَتِبَّ مَعَ ٱلْوَقْتِ، وَإِنَّهُ لِذَلِكَ لَنْ يُوجَدَ نِظَامٌ عَالَمِيٌّ جَدِيدٌ، بِلَا مَقَايِيسَ عَالَمِيَّةٍ لِلْأَخْلَاقِ». 6- العَيْشُ (= الخُبْزُ) كَانَ «العَيْشُ» (= الخُبْزُ) أَوَّلَ مطلبٍ من مطالبِ ثورةِ مصرَ المجيدةِ في الخامسِ والعشرينَ من ينايرَ 2011م. لَا يُطالبُ بالخبزِ، إِلَّا الجوعى. السّؤالُ هنا هُوَ: هَلْ مشكلةُ الخبزِ مفتعلة أَمْ حقيقيّة؟ الإجابةُ هِيَ: إنْ كَانَتْ هذه المشكلةُ حقيقيّةً، فَهِيَ تُعَبِّرُ عَنْ عجزٍ شديدٍ، وَإِنْ كَانَتْ مفتعلةً، فَهِيَ تُعتبرُ قمةَ الخبثِ والنذالةِ، والخيانة. وفي جميعِ الأحوالِ هِيَ أزمةٌ تعكس مساوئ حكم العسكر في مصر، وتكفي لدحرهم، وتخليص شعب مصر من شرورهم. حكم العسكر لا يتّصفُ إلّا بالكذب، والظّلم، والخيانة، والفوضى، والجهل، والغباء. حُكْمُ العسكر هُوَ الأسوأ لمصر منذ خلق البارئ تعالى هذا العالمَ. لقد حوّلوا مصر إلى أشكال سرطانيّة قبيحة، من تكدّسات سكّانيّة قبيحة، وعشوائيات، ومساحات شاسعة خالية من أيّ سكّان أو تحضّر. فمصر كانت أوّل من اخترع الخبز، وأوّل مَنْ طوّر أكثر من مئتي صنف من أصناف الخبز المختلفة. في استعراضه لتاريخ صناعة الخبز في مصر القديمة، أشار هاينريخ إدوارد يعقوب Heinrich Eduard Jacob إلى ملاحظة ذكرها المؤرّخ اليونانيّ القديم هيرودوت Herodot في سياق وصفه لمصر القديمة، حيث قال: إنّ المصريّين مختلفون في كلّ شيء عن سائر شعوب الدّنيا. يهمني اقتباس بعض أقوال هيرودوت في وصفه لسلوك المصريّين القدماء، وهي أقوال لا تخلو من طرافة: يقول هيرودوت Herodot: «(...) والآن سأبدأ الكلامَ عن مصرَ في إسهابٍ، لأنّها دون غيرها من بلادِ العالمِ أجمع - تحوي عجائب أكثر، وآثارًا تجلّ عن الوصف. ومن أجل ذلك، سأطيلُ الحديثَ عنها؛ نظرًا لِأَنَّ مناخَ مصرَ منقطع النّظير، ولِأَنَّ نهرَ النّيلِ له طبيعة خاصّة مغايرة لطبيعةِ باقي الأنهارِ، ولذلكَ اختلف المصريّونَ كُلَّ الاختلافِ عن سائرِ الشّعوبِ في عاداتهم وسننهم. فالنّساء عندهم يرتدن الأسواقَ، ويمارسنَ التّجارةَ. أَمَّا الرّجالُ، فيبقونَ في البيوتِ وينسجونَ. وفي حينِ ينسجُ النّاسُ جميعًا دافعينَ اللِّحمةَ من أسفل إلى أعلى، فَإِنَّ المصريّينَ يدفعونها من أعلى إلى أسفل. ويحملُ الرّجالُ الأثقالَ على رؤوسهم، أَمَّا النّساءُ فيحملنها على أكتافهن. وهؤلاء يَبُلنَ واقفاتٍ، أَمَّا الرّجالُ فيفعلونَ وقد قعدوا القرفصاء. وهم يتغوّطونَ في بيوتهم، ويأكلونَ في الطّرقاتِ، معتقدينَ أَنَّ الضّروراتِ قبيحة يجبُ أن تؤتى في الخفاءِ. أَمَّا غيرها، فتؤتى جهرةً. والمرأة لا تُصبحُ كاهنةً لِإِلَهٍ أو لِإِلَهةٍ، أَمَّا الرّجال فمنهم الكهنة لجميعِ الآلهةِ والآلهات. وليس لزامًا على البنين أن يعولوا آبائهم، إِذَا لم يشأوا. ولكن يُفرضُ هذا على البناتِ فرضًا حَتَّى ولو لم يردن. وفي غير مصرَ يُطلقُ كهنةُ الآلهةِ شُعُورَهُم، أَمَّا في مصر، فيحلقونها. ويقضي العرفُ عِنْدَ سائرِ الشّعوبِ بِأَنْ يحلقَ أقاربُ المصابِ رؤوسهم أثناءَ الحداد، ولكنّ المصريّينَ، إذا نزلت بساحتهم محنة الموتِ، يُطلقونَ شعرَ الرّأسِ واللّحيةِ. وقد كانت لديهم، حَتّى يومئذٍ محلوقة. ويسكنُ سائرُ النّاسِ في عزلةٍ عن الحيواناتِ، أَمَّا المصريّونَ، فيسكنونَ مَعَ حيواناتهم. ويعيشُ الآخرونَ مِنَ النّاسِ على القمحِ والشّعيرِ، ولكنّه عارٌ عظيمٌ على مَنْ يعيشُ عليهما من المصريّين. إِذْ هم يصنعون خبزهم من الذّرة (ألورا). وهم يعجنونَ العجينَ بأقدامهم، فأَمَّا الطّينُ، فبالأيدي، وبها أيضًا يرفعون الرّوث. وأعضاء التّناسلِ يتركها عامّة النّاسِ، على طبيعتها، أمَّا المصريّونَ، ومن أخذ عنهم، فيمارسونَ الختانَ. ولكلّ رجلٍ ثوبان، وللمرأة ثوبٌ واحدٌ. ويعقدُ سائرُ النّاسِ حلقات الشّراعِ وحبالها في الخارجِ، وكتابة الحروف والاتّجاه في العدو يجري بها اليونان من اليسارِ إلى اليمينِ، أَمَّا المصريّونَ، فمن اليمينِ إلى اليسارِ. وهم إذ يفعلونَ ذلكَ يقولونَ إنّهم يمينيّون، وإنّ اليونانيّينَ يساريّونَ. وهم يستخدمون نوعينِ مِنَ الكتابةِ، إحداهما تُسمّى المقدّسة، والأخرى العامّيّة. وهم يزيدونَ كثيرًا عن سائرِ النّاسِ في التّقوى. وهذه هِيَ القوانين الّتي يتّبعونها: يشربونَ في أقداحٍ برنزيّةٍ يُنظّفونها كُلّ يومٍ، وكلّهم دونَ استثناء يفعلونَ ذلكَ. ويلبسونَ ثيابًا مِنَ الكتّانِ، يهتمّونَ جدًّا أنْ تكونَ دائمًا حديثةَ الغسيلِ. وهم يمارسونَ الختانَ حُبًّا في النّظافةِ، لِأَنَّهم يُفضّلونَ النّظافةَ على حسنِ المنظر. وكُلّ يومينِ يحلقُ الكهنةُ أجسامهم بأكملها حَتَّى لا يتوالد بها القملُ أو غيره من الحشرات أثناءَ قيامهم بخدمة الآلهة، ويلبسُ الكهنةُ ثيابًا من الكِتّانِ فقط، وأحذية من البردى. وغير ذلكَ من الملابسِ أو الأحذية محظور عليهم لبسها إلّا قليلًا. وهم يغتسلونَ مرّتينِ كُلَّ نهارٍ بالماءِ الباردِ، ومرّتينِ كلّ ليلٍ. وهم يرعونَ من الطّقوسِ الدّينيّةِ الآلافَ المؤلّفة إذا صحّ لنا هذا التّعبيرُ. وهم يتمتّعون أيضًا بامتيازاتٍ ليست بالقليلةِ. فهم لا يستهلكونَ ولا ينفقونَ شيئًا من ثروتهم الخاصّةِ، بل يُصنعُ لهم خبزٌ مقدّس، ويصيبُ كُلّ واحدٍ منهم يوميًّا كميّة كبيرة من لحمِ البقرِ والأوزِ، وَتُقَدَّمُ لهم خمرٌ مصنوعةٌ مِنَ العنبِ. وَأَكْلُ السّمكِ غير مباحٍ لهم. ولا يبذرُ المصريّونَ الفولَ في بلادهم مطلقًا، ولا يذوقون ما قد ينبتُ منه فجًّا أو مطبوخًا. أَمَّا الكهنةُ، فلا يطيقونَ حَتَّى رؤيته، ويعتقدونَ أَنَّهُ بقلٌ نجس. وليس لِكُلِّ إلهٍ مِنَ الآلهةِ كَاهِنٌ واحدٌ، بل أكثر، وأحدهم هُوَ كبير الكهنة، وعندما يموتُ منهم كاهن، يخلفه ابنه. (...)»(5). يشيرُ العالم هاينريخ إدوارد يعقوب في كتابه «ستّة آلاف سنة من تاريخ الخبز»، الصّادر سنة 1954م في ألمانيا(6). إلى أنّ المصريّين القدماء الّذين وصفهم هيرودوت بأنّهم يختلفون في كلّ شيء عن سائر شعوب الأرض، هم أوّل من اخترع طريقة تخمير عجينة الخبز: فبعكس سائر الشّعوب الأخرى الّتي كانت تحرص على حفظ أغذيتها من التّعفّن، ترك المصريّون القدماء العجين يتعفّن، وراقبوا ما يحدث له خلال هذه العمليّة الّتي كانت نقطة انطلاق صناعة الخبز في تاريخ الإنسانيّة. فالتّعفّن هنا كانَ يعني عمليّة «التّخمير». وهكذا بدأت صناعة الخبز في مصر القديمة من خلال اكتشاف «عمليّة تخمير العجين». وطوّر أجدادنا أكثر من مئتي صنفٍ من أجود أصناف الخبز. في عصرنا هذا اشتهرت شعوب وسط أوروبّا بالذّات، وهي الشّعوب الجرمانيّة في سويسرا وألمانيا والنّمسا، بالتّفنّن في تصنيع أصناف مغذّية جدًّا من الخبز، فاقت بدورها مئتي صنفٍ. هذا في الوقت الّذي وصلت فيه مصرنا بقيادة العسكر المجرمين إلى أسفل سافلين، حيث صرنا عاجزين عن إنتاج صنف واحد من الخبز الصّالح للاستهلاك الآدميّ. تصنيع الخبز في العصر الحديث يتميّز في المقام الأوّل بالتّفنّن في استخدام شتّى الموادّ الغذائيّة من أجل إنتاج خبز صحّيّ مفيد. تصنيع الخبز مرتبط بالزّراعة ارتباطًا وثيقًا. فالخبز لا يمكن إنتاجه بدون منتجات زراعيّة. مصر في عصر حكم العسكر المجرمين (1952م-2012م) أهملت الزّراعة إهمالًا شديدًا. ونتج عن هذا الإهمال القبيح، وما ارتبط به من تفشي الجهل، أنّ المصريّين صاروا يتخيّلون أنّ الخبزَ مستحيلٌ إنتاجه بدون قمحٍ، أو بالأصحّ يعتقد المصريّون في عصر العسكر أنّ القمح ينبغي أن يكون المكوّن الأساسيّ للخبز. وهذا هراء وعبث بالمقاييس العلميّة الحديثة والقديمة جميعًا. شخصيًّا أعتبر هذه النّظرة الضّيّقة الأفق لوسائل تصنيع الخبز تعبيرًا عن الكفر بنعم اللّه الأخرى، عندما نحصر تركيزنا على القمح، ونتجاهل مئات المحاصيل الزّراعيّة الأخرى، من حبوب، وبقول، وخضروات، وفواكه، وزيوت. هذا كفر بنعم اللّه، يا ناس! أريد أن أذكر هنا أسماء بعضِ «الفصائل النّباتيّة» المكتشفة في العصرِ الحديثِ. كُلّ فصيلةٍ من هذه الفصائل تحتوي على عشراتٍ من الأصناف النّباتيّة الأخرى، وأحيانًا المئاتِ. وبرغم هذا يأبى عسكرُ مصر إلّا فرض جهلهم على شعب مصر، ولسانُ حالهم يقولُ: «لا خبزَ، بدونِ قمحٍ»!! يرصد ميشال حايك في الجزء الأوّل من كتابه «موسوعة النّباتات الطّبّيّة» بعض أهمّ الفصائل النباتيّة (عربيّ-فرنسيّ-إنجليزيّ) كما يلي: «1- أخدريّات Oenothéracées (F) Onagracées (F) Oentheraceae (E) Onagraceae (E)، 2- أراليّات Araliacées (F) Araliaceae (E)، 3- آسيّات Myrtacées (F) Myrtaceae (E)، 4- آلاميّات (غ) Passifloracées (F) Passifloraceae (E)، 5- أنَناسِيّات Broméliacées (F) Bromeliaceae (E)، 6- إهليلجيّات Combrétacées (F) Combretaceae (E)، 7- باذنجانيّات Solanacées (F) Solanaceae (E)، 8- بَتُولِيّات Bétulacées (F) Betulaceae، 9- بَباظِيّات Caricacées (F) Caricaceae (E)، 10- بَبّاياوِيّات Papayacées (F) Caricaceae (E)، 11- بَرْبَرِيسيّات Berbéridacées (F) Berberidaceae (E)، 12- بُرتقاليّات Aurantiacées (F) Hespéridées (F) Aurantiaceae (E) Hesperideae (E)، 13- بِرازِيّات Sterculiacées (F) Sterculiaceae (E)، 14- بِسباجيّات Polypodiacées (F) Polypodiaceae (E)، 15- بَشْنينيّات Nymphéacées (F) Nymphaceae (E)، 16- بطباطيّات Polygonacées (F) Polygonaceae (E)، 17- بلّوطيّات = سِنْديانيّات Cupuliféracées (F) Cupuliferaceae (E)، 18- بقسيّات Buxacées (F) Buxaceae (E)، 19- بنفسجيّات Voilacées (F) Violaceae (E)، 20- بهشيّات Aquifoliacées (F) Ilicacées (F) Aquifoliaceae (E) Ilicaceae (E)، 21- بُوقيصيّات Ulmées (F) Ulmus (E)، 22- بيلسانيّات Caprifoliacées (F) Caprifoliaceae (E)، 23- تُوتيّات Moracées (F) Moraceae (E)، 24- جنطيانيّات Gentianacées (F) Gentianaceae (E)، 25- جنثيانيّات Gentianacées (F) Gentianaceae (E)، 26- جوزيّات Juglandacées (F) Juglandaceae (E)، 27- جويسيّات Aspérulées (F) Asperula (E)، 28- حُمّاضيّات Oxalidées (F) Oxalidae (E)، 29- حمحميّات Borraginacées (F) Boraginaceae (E)، 30- حمليّات Plantaginacées (F) Plantaginaceae (E)، 31- حنائيّات Lythracées (F) Lythraceae (E)، 32- حوذانيّات Renonculacées (F)، 33- خُبّازِيّات Malvacées (F) Malvaceae (E)، 34- خثريّات (غ) Saccharomycétacées (F) Saccharomyces (E)، 35- خُدريّات (غ) Lycopodiacées (F) Lycopodiaceae (E)، 36- خرطاليّات Avenées (F)، 37- خشخاشيّات Papavéracées (F) Papaveraceaw (E)، 38- خِلافيّات Eléagnacées (F) Eleagnaceae (E)، 39- خلنجيّات Ericacées (F) Ericaceae (E)، 40- خمانيّات Caprifoliacées (F) Caprifoliaceae (E)، 41- خنازيريّات Scrofulariacées (F) Scrophulariaceae (E)، 42- خيميّات Ombelliféres (F) Umbelliferae (E)، 43- داذيّات Hypéricacées (F) Hypericaceae (E)، 44- دبساسيّات Dipsacées (F) Dipsaceae (E)، 45- دفليّات Apocynacées (F) Apocynaceae (E)، 46- ربيعيّات Primulacées (F) Primulaceae (E)، 47- درداريّات Ulmées (F) Ulmus (E)، 48- رصاصيّات Plombaginacées (F) Plombaginaceae (E)، 49- رِعْي الحمام = ساجيّات Verbénacées (F) Verbenaceae (E)، 50- رُمّانيّات Punicacées (F) Punicaceae (E)، 51- زراوَندِيّات Aristolochiacées (F) Aristolochiaceae (E)، 52- زنبقيّات Liliacées (F) Liliaceae (E)، 53- زنجبيليّات Zingiberacées (F) Zingiberaceae (E)، 54- زيتونيّات Oléacées (F) Oleaceae (E)، 55- زيزفُونيّات Tiliacées (F) Tiliaceae (E)، 56- ساجيّات = رِعْي الحمام Verbénacées (F) Verbenaceae (E)، 57- سُذابيّات Rutacées (F) Rutaceae (E)، 58- سِتْراريّات Cétrariacées (F)، 59- سَرْمَقِيّات Chenopodiacées (F) Salsolacées (F) Atriplicées (F) Chenopodiaceae (E) Salsolaceae (E) Atripliceae (E)، 60- سُعْدِيّات Cypéracées (F) Cyperaceae (E)، 61- سِفْرَسِيّات Saxifragacées (F) Saxifragaceae (E)، 62- سَقْقمُونيّات = لَبْلابيّات = محموديّات Convolvulacées (F) Convolvulaceae (E)، 63- سَلبُوتيّات Tropéolacées (F) Tropaeolaceae (E)، 64- سَمَرُوبِيّات Simarubacées (F) Simarubaceae (E)، 65- سمسقيّات Pédaliées (F) Pedaliae (E)، 66- سِنْديانيّات = بلوطيّات Cupuliféracées (F) Cupuliferaceae (E)، 67- سُورَنجانيّات Colchicacées (F) Mélanthacées (F) Colchicaceae (E) Melanthaceae (E)، 68- سَوْسنيّات Iridacées (F) Iridaceae (E)، 69- سيزالبينيّات Césalpiniées (F) Caesalpineae (E)، 70- شاهترجيّات Fumariacées (F) Fumariaceae (E)، 71- شفويّات Labiées (F) Labiatae (E)، 72- شُقّاريّات Anémonées (F)، 73- شقيقيّات Renonculacées (F) Ranunculaceae (E)، 74- شمشاديّات Buxacées (F) Buxaceae (E)، 75- صباريّات Cactacées (F) Cactaceae (E)، 76- صفصافيّات Salicinées (F)، 77- صُقلابيّات Asclépiadacées (F) Asclepiadaceae (E)، 78- صليبيّات Cruciféres (F) Cruciferae (E)، 79- صنوبريّات Coniféres (F) Coniferae (E)، 80- صيوانيّات Ombelliféres (F) Umbelliferae (E)، 81- طقسوسيّات Taxinées, Taxodinées (F)، 82- عَسَمِيّات (غ) Combrétées (F)، 83- عَلْديّات Ephédracées (F)، 84- عَنْدَمِيّات Césalpiniées (F) Caesalpiniae (E)، 85- عَنَمِيّات Loranthacées (F) Loranthaceae (E)، 86- غاريّات Lauracées (F) Lauraceae (E)، 87- غاريقونيّات Agaricacées (F) Agaricaceae (E)، 88- غفثيّات Eupatoriées (F)، 89- فراشيّة Papilionacées (F) Papilionaceae (E)، 90- فربيونيّات Euphorbiacées (F) Euphorbiaceae (E)، 91- فلفليّات Pipéracées (F) Piperaceae (E)، 92- فوقسيّات Fucacées (F) Fucaceae (E)، 93- فوّيّات Rubiacées (F) Rubiaceae (E)، 94- قدّيّات = هرّيّات Amentacées (F) Amentaceous plants (E)، 95- قُرّاصيّات Urticacées (F) Urticaceae (E)، 96- قرعيّات = يقطينيّات Cucurbitacées (F)، 97- قرنفليّات Caryophyllacées (F) Caryophyllaceae (E)، 98- قرنيّات Légumineuses (F) Leguminoseae (E)، 99- قطانيّات Légumineuses (F) Leguminoseae (E)، 100- قلقاسيّات Aracées (F) Aroidacées (F) Araceae (E) Aroidaceae (E)، 101- قمريّات Ménispermacées (F) Menispermaceae (E)، 102- قنّبيّات Cannabinacées (F) Cannabinaceae (E)، 103- قندليّات Aesculacées (F) Hippocastanacées (F) Aesculaceae (E) Hippocastanaceae (E)، 104- كامليّات Camelliacées (F) Ternstrénicacées (F) Théacées (F) Camelliaceae (E) Ternstroenicaceae (E) Theaceae (E)، 105- كتّانيّات Linacées (F) Linaceae (E)، 106- كِشمشيّات Grossulacées (F) Grossulaceae (E)، 107- كُنباثيّات Equisétacées (F) Equisetaceae (E)، 108- كُوشاديّات Gentianacées (F) Gentianaceae (E)، 109- لَبْلابيّات = سقمونيّات = محموديّات Convolvulacées (F) Convolvulaceae (E)، 110- لُوبيليّات Lobéliacées (F) Lobeliaceae (E)، 111- محموديّات = لَبْلابيّات = سقمونيّات Convolvulacées (F) Convolvulaceae (E)، 112- مخروطيّات Coniféres (F) Coniferae (E)، 113- مُخلّدات Crassulacées (F) Crassulaceae (E)، 114- مُركّبات Composées (F) Compositae (E)، 115- مغنوليّات Magnoliacées (F) Magnoliaceae (E)، 116- موزيّات Musacées (F) Musaceae (E)، 117- مونيميّات (غ) Monimiacées (F) Monimiaceae (E)، 118- ناردينيّات Valérianacées (F) Valerianaceae (E)، 119- نبقيّات Rhamnacées (F) Rhamnaceae (E)، 120- نجيليّات Graminées (F) Graminaceae (E)، 121- نخليّات Palmacées (F) Palmae (E)، 122- نرجسيّات Amaryllidacées (F) Amaryllidaceae (E)، 123- نيدمانيّات Droséracées (F) Droseraceae (E)، 124- نيلوفريّات Nymphéacées (F) Nymphaceae (E)، 125- هرّيّات = قدّيّات Amentacées (F) Amentaceous plants (E)، 126- هِلْيَوْنيّات = هَلْيُونيّات Asparagées (F)، 127- ورديّات Rosacées (F) Rosaceae (E)، 128- يتُّوْعيّات Euphorbiacées (F) Euphorbiaceae (E)، 129- يقطينيّات = قرعيّات Curcurbitacées (F) Curcurbitaceae (E)»(7). لا يحتاج الأمر إلى عبقريّة من أجل دراسة هذه الفصائل النّباتيّة بعناية، وفرز ما يمكن استخدامه في صناعة أصناف متميّزة من الخبز، نقدّمها لهذا الشّعب العظيم الّذي عانى طويلًا من قهر مجرمي العسكر، ويستحقّ بالفعل أن نردّ له كرامته واعتباره. في الماضي القديم عرفت الحضارة العراقيّة مثلًا كيفيّة إدخال شتّى أصناف الحبوب والنّباتات في تصنيع خبز صحّيّ لذيذ. في كتاب «الفلاحة النّبطيّة» يتعجّب المرء من المستويات الرّاقية جدًّا الّتي وصل إليها القدماء في نظرتهم إلى الزّراعة، وفنون تصنيع الخبز، في الوقت الّذي أوصل فيه العسكر مصرنا الحبيبة إلى أسفل سافلين. أكتفي هنا بنقل بعض ما وردَ في كتابِ «الفلاحة النّبطيّة» عن الخبز وأصنافه. فقد عرف القداماء مثلًا استخدام الأرز في صناعة الخبز، ذلكَ أَنَّ «(...) إدمانَ أكل خبز الأرز يُصحّحُ البدنَ، ويُقلّلُ فضولَه، ويُطوّلُ العمرَ. ووصف أدمي خبز الأرز، فقالَ: ينبغي أن يُطحنَ الأرز ناعمًا، ويُسخّن له ماء حارّ، ويكثر فركه بالجزء بعد الجزء منَ الماء الحارّ. ويصبر عجّانه على عجنه. فإنّ ذلك أصلح لخبزه. ولا يزالُ يسقيه الماء قليلا قليلا. فإذا بدأ يتندّى، ويصير في صورة العجين، فليصبّ عليه شيء منَ دهن السّمسم، ويفرك، ويعجن أبدًا، حتّى يصير عجينًا. ثمّ يخمّر ساعتين، وربّما ثلاثة، مدثّرًا دثارًا كثيرًا، محروسًا منَ الهواء، حتّى يحمي جيّدًا. ثمّ يخبز في تنّور قليل الحرارة، ويلصقه خبّازه ويداه معرّقتان بالدّهن»(8). ويرصدُ كتاب «آلفلاحة النّبطيّة» بعض المحاصيل المستخدمة في تصنيع الخبز منذ القدمِ: «1- الجاورس والدّخن، 2- الباقلي، 3- الماش، 4- الكرسنّة، 5- الجلبان، 6- المسجوثا، 7- التّرمس، 8- يولوريثا، 9- حوبيثاكوي، 01- طَرْماكي، 11- ثروميشا، 21- ثونيغا، 31- البزركتّان، 41-غالالوطا، 51- السّيسبانا، 61- الخشخاش، 71- الهليون، 81- هذرتايا، 91- اتونيشاثا، 02- السّلجم، 12- الفرشوقيّة، 22- لوفا، 32- حلحل مَكْثا، 42- اريصارونا، 52- قطرايا العدس، 62- شميلا، 72- وارى عالا، 82- داروميقا، 92- الفقع، 03- الكمأة، 13- العطلب، 23- الأمطى نهرا، 33- السّلق، 43- الحمّاض، 53- سياسّادورا، 63-مينانا ابنى، 73- كوازى فينا، 83- اقشمويا، 93- السّعد، 04- الأسازون». ورود بعض أسماء النّبات والحبوب بلغات أجنبيّة هنا لا ينبغي أن يُقلقَ القارئ الكريم، فكما نستخدم نحنُ اليوم مصطلحاتٍ أجنبيّة كثيرة في لغتنا اليوميّة، تَعَوَّدَ القدماءُ أيضًا على استخدام مثل هذه المصطلحات الواردة من الثّقافات الأجنبيّة. ونظرًا إلى أنّ الهدف الأساسيّ من هذه السّطور هو المساهمة المتواضعة في تحسين أوضاع شعبنا المصريّ العظيم، وحثّ القارئ الكريم على التّفكير والبحث والدّراسة من أجل تجاوز هذه المرحلة الحالكة السّواد من تاريخ مصر، مرحلة حكم العسكر (1952م-2012م)، أذكر هنا بعض النّباتات والمحاصيل الّتي يمكن استخدامها في تصنيع الخبز: «1- الأُتْرُجّ، 2- الإجّاص (البرقوق)، 3- الأرز، 4- الآس (الرّيحان)، 5- السّبانخ، 6- الأفوكاتو، 7- الأناناس، 8- الأنيسون، 9- ايكيدينيا (بشملة)، 10- البابونَجُ، 11- الباذنجان، 12- الباقلّي (الفول)، 13- البامية، 14- البرتقال، 15- البزلياء (البسلّة)، 16- البصل، 17- البطاطس، 18- البطيخ، 19- البطيخ الأصفر (الشّمّام)، 20- البقدونس، 21- البقلة الحمقاء، 22- البنّ، 23- الطّماطم، 24- البندق، 26- التُّرمُسُ، 27- التّفّاح، 28- التّمر، 29- التّمر الهندي، 30- التّوت، 31- التّين، 32- الثّوم، 33- الجرجير، 34- الجزر، 35- الجُمَّيْز، 36- الجوافة، 37- الجوز، 38- جوز الطّيْب، 39- جوز الهند، 40- حب العزيز، 41- حبّة البركة، 42- الخرشوف، 43- حصا البان، 44- الحُلْبَة، 45- الحِمَّص، 46- الخُبَّيْز، 47- الخردل (= المستردة)، 48- الْخُرْنوب، 49- الخسّ، 50- خسّ النّعجة (= السُّمْنَة)، 51- الخلّ، 52- خميرة البيرة، 53- الخُولَنْجان، 54- الخيار، 55- الخوخ (=الدُّرَّاقِن)، 56- الذّرة، 57- الرّشاد، 58- الرّمّان، 59- الرّيحان، 60- الزّبيب، 61- الزّعرور، 62- الزّعفران، 63- الزّنجبيل، 64- الزّيتون، 65- السّعتر، 66- السّفرجل، 67- اللّفت (السّلجم)، 68- السِّلْقُ، 69- السُّمّاق، 70- السّمسم، 71- الشّبْت، 72- الشّعير، 73- الشّمَر، 74- البنجر (الشّمندر، الشَّوَنْدَر)، 75- الشّوفان، 76- الشَّيْلَم، 77- التّين الشّوكي (= الصّبّارة، الصُّبَيْر)، 78- الصّنوبر، 79- الصُّويَه، 80- الطّرخُون، 81- عبّاد الشّمس، 82- العدس، 83- العرقُسوس، 84- العسل، 85- العسل الأسود، 86- العُصْفُر، 87- العُنَّاب، 88- العنب، 89- الغار، 90- الغريفون (= الجرابفروت)، 91- الجوافة، 92- الفاصوليا، 93- الفانيلا، 94- الفُجْلُ، 95- الفراسكين، 96- الفراولة، 97- الفُستق، 98- فول السّوداني (= فستق العبيد)، 99- الفُطُر، 100- الفُلفُل، 101- (تصنيف الفواكه، ص502) - القثّاء، 102- القراصيا، 103- القُرطُم، 104- القُرفة، 105- القرنفل، 106-القُرّة (= قرّة العين)، 107- القُرّيصُ، 108- قصب السّكّر، 109- القُلقاس، 110- القمح، 111- القرنبيط، 112- القهوة، 113- الكاري، 114- الكاسيا، 115- الكاكاو، 116- الكُرَّاث، 117- الكرز، 118- الكرفس، 119- الكركديه، 120- الكُركُم، 121- الكرنب، 122- الكرويا، 123- الكزبرة، 124- الكستنة (الماروني)، 125- الكِشمش، 126- الكمأة، 127- الكمثّرى، 128- الكمّون، 129- الكوسة، 130- اللّفت (السّلجم)، 131- اللّوبياء، 132- اللّوز، 133- اللّيمون، 134- الماش، 135- المتّة، 136- الْمَرْدَقُوش، 137- المشمش، 148- الْمُصْطَكَى، 149- البقدونس، 150- الكرنب (الملفوف)، 151- الملوخيّة، 152- المانجة، 153- الموز، 154- النّارنج، 155- النّعناع، 156- الهِلْيُون، 157- الهندبا، 158- الهيل، 159- القرع (= اليقطين)، 160- الجنسنغ». ننتقلُ الآن إلى قضيّة «العيش» أو الخبز من منظور «المقاييس العالميّة للأخلاق». يُعَبِّرُ «طابورُ العيشِ» في مصرَ العسكر (1952م-2012م) عَمَّا يلي: 1- عجز العسكر الفاضح عن توفير الخبزِ للنّاسِ. 2- جهل العسكر بالأساليب الحديثة لتصنيع الخبز، والموادّ الممكن استخدامها لتوفير نوعيّات متميّزة من الخبز لأبناء الشّعب. 3- إهمال العسكرِ للزّراعة في مصر، بل تدميرهم للزّراعات في مصرنا تدميرًا شاملًا. 4- حِرْص العسكرِ على إذلال المصريّينَ من خلالِ الانتظار طويلًا في طوابير الخبز. 5- إهدار العسكرِ لطاقاتِ الشّعبِ العظيمِ في طوابير الخبز، وَهُوَ تدمير للاقتصاد القوميّ للبلاد. فلوِ افترضنا أَنَّ مليون مصريٍّ فقط يضيّعون يوميًّا ساعةً واحدةً من وقتهم انتظارًا للحصول على الخبز، ولوِ افترضنا جدلًا أنَّ مِصْرَ تهدرُ سنويًّا نحو 300 مليون ساعة ثمينة تضيع في الانتظار في «طوابير الخبز» العقيمة، فإنّ هذا يعني أنّ مصر قد فقدت بسبب الحكم العسكريّ الاستبداديّ الغشيم 18000 ساعةٍ منذ 1952م وحتّى يومنا هذا. هذه جريمة نكراء لا يجوز قبولها بدون عقد محاكمة عسيرة للعسكر عليها. 6- تقاعس العسكر عن تقديم خبز صحّيّ مغذٍّ للشّعب المصريّ، وهو ما ساهم في إصابة غالبية المصريّين بمرض الأنيميا. فمكوّنات الخبز المصريّ بدائيّة جدًّا: دقيق قمح، ردّة، ملح، ماء، خميرة. فقر الخبز المصريّ هذا من الموادّ المغذيّة يتّضح بجلاء إذا قورن ببعض ما تنتجه سويسرا مثلًا من أصناف متميّزة جدًّا من الخبز. فهناك صنف يستخدم السّويسريّون فيه خمسة أنواع مختلفة من الحبوبِ، وصنف آخر بعشرة أنواع مختلفة من الحبوب. وهناك صنف يستخدمون فيه الزّيتون الأخضر الطّازج، وصنف آخر يدخلون فيه البيض والسّمسم والزّبدة، إلخ. ما رأي «المقاييس العالميّة للأخلاق» في «طابور العيش» في مصر العسكر؟ ما رأي هانس في إذلال المصريّين يوميًّا ساعات طويلةً قبل السّماح لهم بالحصول على خبز يكاد لا يصلح للاستهلاك الآدميّ؟ تردُّ «المقاييس العالميّة للأخلاق» بعنفٍ وقوّة على هذه الجريمة النّكراء في حقّ الشّعب المصريّ العظيم بمبدأ واضح، لا لبس فيه، ولا غموض، تعلنه بحنقٍ ظاهر، وغضب بالغ: «يجبُ أنّ يُعَامَلَ كُلُّ إنسانٍ معاملةً إنسانيّةً». يوجّه هانس كينج إنذارًا شديدًا اللّهجة إلى كُلّ من تسوّل له نفسه أن ينتهكَ الكرامة الإنسانيّة: «نَحْنُ جَمِيعًا نَعْلَمُ أَنَّهُ: مَازَالَ هُنَاكَ أُناسٌ فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ ٱلْعَالَمِ يُعَامَلُونَ مُعَامَلَةً غَيْرَ إِنْسَانِيَّةٍ. إِنَّهُمْ يُحْرَمُونَ مِنْ فُرَصِهِمْ فِي ٱلْحَيَاةِ، وَتُسْلَبُ حُرَّيَّاتُهُمْ، وَيُدَاسُ عَلَى حُقُوقِهِمِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ بِٱلْأَقْدَامِ، وَتُمْتَهَنُ كَرَامَتُهُمُ ٱلْإِنْسَانِيَّةُ. بَيْدَ أَنَّ ٱلسُّلْطَةَ وٱلْحَقَّ لَا يَسْتَوِيَانِ! نَظَرًا إِلَى جَمِيعِ أَشْكَالِ ٱللَّاإِنْسَانِيَّةِ تُطَالِبُ مُعْتَقَدَاتُنَا ٱلدَّينِيَّةُ وَٱلْأَخْلَاقِيَّةُ بِ: ضَرُورَةِ مُعَامَلَةِ كُلَّ إِنْسَانٍ مُعَامَلَةً إِنْسَانِيَّةً!». ويُشدّدُ هانسُ كينجَ على أنّ «الكرامة الإنسانيّة» «مقدّسة»، لا يحقّ لأيّ مخلوقٍ مهما كانَ أن يدنّسها أو يهينها بسلوكه الأرعن، أو فكره الأبله: «هذَا يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَمْتَلِكُ كَرَامَةً مُقَدَّسَةً، لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا، أَوِ ٱلتَّفْرِيطُ فِيهَا، بِصَرْفِ ٱلنَّظَرِ عَنْ عُمْرِهِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ عِرْقِهِ، أَوْ لَوْنِ بَشَرَتِهِ، أَوْ قُدْرَتِهِ ٱلْجَسَدِيَّةِ أَوِ ٱلْفِكْرِيَّةِ، أَوْ لُغَتِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ رُؤْيَتِهِ ٱلسَّيَاسِيَّةِ، أَوْ أَصْلِهِ ٱلْقَوْمِيَّ أَوِ ٱلْٱجْتِمَاعِيَّ. يَلْتَزِمُ لِذٰلِكَ ٱلْجَمِيعُ - أَفْرَادًا وَدُوَلًا - بِٱحْتِرَامِ هذِهِ ٱلْكَرَامَةِ، وَضَمَانِ ٱلْحِمَايَةِ ٱلْفَعَّالَةِ لَهَا. أَيْضًا فِي ٱلْٱقْتِصَادِ، وَٱلسَّيَاسَةِ، وَٱلْإِعْلَامِ، وَفِي ٱلْمَعَاهِدِ ٱلْبَحْثِيَّةِ، وَٱلْمُؤَسَّسَاتِ ٱلصَّنَاعِيَّةِ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ٱلْإِنْسَانُ دَائِمًا شَخْصًا قَانُونِيًّا، وَهَدَفًا، وَلَيْسَ أَبَدًا مُجَرَّدَ وَسِيلَةٍ، وَلَيْسَ أَبَدًا سِلْعَةً لِلْمُتَاجَرَةِ وَٱلتَّصْنِيعِ». ويدعو هانس كينج كُلّ فردٍ في المجتمع إلى تحمّل مسؤوليّته، واحترام نفسه، وعدم التعدّي على حقوق الآخرين، حيث يقول: «لَا أَحَدَ يَقِفُ فِي «مَا وَرَاءَ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرَّ»: لَا إِنْسَانَ، وَلَا طَبَقَةَ ٱجْتِمَاعِيَّةً، وَلَا جَمَاعَةَ مَصَالِحَ قَوِيَّةَ ٱلنُّفُوذِ، وَلَا تَحَالُفَ قَوِيًّا، وَلَا جِهَازَ شُرْطَةٍ، وَلَا جَيْشَ، وَلَا دَوْلَةَ. بِٱلْعَكْسِ: يَلْتَزِمُ كُلُّ إِنْسَانٍ، بِٱعْتِبَارِهِ كَائِنًا مُزَوَّدًا بِعَقْلٍ وَضَمِيرٍ، أَنْ يَتَصَرَّفَ بِطَرِيقَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ، وَأَلَّا يَتَصَرَّفَ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ إِنْسَانِيَّةٍ، وَأَنْ يَفْعَلَ ٱلْخَيْرَ، وَيَدَعَ ٱلشَّرَّ!». ويخاطب كينج ضميرَ الظّلمةِ المعتدين على حقوق الآخرين، المتلذّذين بتعذيب عباد اللّه، مذكّرًا إيّاهم بقاعدة أخلاقيّة قديمة، موجودة في مختلف الثّقافات الإنسانيّة، حيث يقولُ: «يُوجَدُ مَبْدَأٌ - هُوَ ٱلْقَاعِدَةُ ٱلذَّهَبِيَّةُ - يُمْكِنُ ٱلْعُثُورُ عَلَيْهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ تَقَالِيدِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ ٱلدَّينِيَّةِ وَٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْمَعْرُوفَةِ مُنْذُ آلَافِ ٱلسَّنِينَ، وَقَدْ ثَبَتَتْ صَلَاحِيَّتُهُ: مَا ٱلَّذِي لَا تُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ ٱلْآخَرُونَ بِكَ، لَا تَفْعَلْهُ أَنْتَ أَيْضًا بِٱلْآخَرِينَ! أَوْ بِصِيغَةٍ إِيجَابِيَّةٍ: مَا تُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ ٱلْآخَرُونَ بِكَ، ٱفْعَلْهُ أَنْتَ أَيْضًا بِٱلْآخَرِينَ! يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هذِهِ ٱلْقَاعِدَةُ هِيَ ٱلْمِعْيَارَ ٱلثَّابِتَ ٱلْحَتْمِيَّ لِجَمِيعِ مَجَالَاتِ ٱلْحَيَاةِ، لِلْأُسْرَةِ، وَٱلْجَمَاعَاتِ، لِلْأَجْنَاسِ، وَٱلْأُمَمِ، وَٱلْأَدْيَانِ». 7- حُرَّيَّةٌ كَانَتِ «الْحُرِّيَّةُ» ثاني مطالبِ الثّورةِ المصريّة المجيدة. لا يُنادي بالحرّيّة إلّا المكبّلون، المقيّدون، المكمّمون، المقهورون، المعذبّونَ. المطالِبُون بالحرّيّة هُمْ هؤلاء الّذين عانوا من القمعَ، والقهر، والكبت، والإذلال، والتّرويع، والإرهاب، والتّعذيب، والاعتقال، والضّرب، والمهانة. همْ ضحايا العسكر الّذين استُشهدوا من أجل مصرَ في ميدانِ التّحرير، وفي محافظة السّويس الباسلة، وفي مدينة بورسعيد البطلة، وأمَام مبنى الإذاعة والتّليفزيون في القاهرة. المطالبون بالحرّيّة هم الّذين ذاقوا ويلات العذاب في سجون مصر المختلفة الّتي شيّدها عسكر مصر من أجل إذلال شعب مصر، وتعذيبه، وقهره، وترويعه. لا نعرفُ سرّ كراهية عسكر مصر لشعب مصر. ولا نعرف الأسباب الّتي دفعت عسكر مصر إلى استعباد شعب مصر. لكنّنا نعرف أنّ جرائم عسكر مصر لن تمرّ، بإذن اللّه، بدون حساب، وبدون عقاب. يقول هانس كينج في ملحمة «المقاييس العالميّة للأخلاق»: «يَسْعَى عَدَدٌ لَا يُحْصَىٰ مِنَ ٱلنَّاسِ فِي جَمِيعِ ٱلْبُلْدَانِ وَٱلْأَدْيَانِ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ حَيَاةٍ لَا تَحْكُمُهَا ٱلْأَنَانِيَّةُ، بَلِ ٱلْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ ٱلْإِخْوَةِ فِي ٱلْإِنْسَانِيَّةِ، وَسَائِرِ مَخْلُوقَاتِ ٱللّهِ. يُوجَدُ بِرَغْمِ هذَا فِي عَالَمِ ٱلْيَوْمِ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْكَرَاهِيَةِ، وَٱلْحِقْدِ، وَٱلْغِيرَةِ، وَٱلْعُنْفِ، عَلَى نِطَاقٍ وَاسِعٍ لَا يَنْتَهِي: لَيْسَ فَقَطْ بَيْنَ ٱلْأَفْرَادِ، بَلْ أَيْضًا بَيْنَ ٱلْجَمَاعَاتِ ٱلْٱجْتِمَاعِيَّةِ وَٱلْإِثْنِيَّةِ، بَيْنَ ٱلطَّبَقَاتِ وَٱلْأَجْنَاسِ، وَٱلْأُمَمِ وَٱلْأَدْيَانِ. لَقَدْ وَصَلَ ٱسْتِخْدَامُ ٱلْعُنْفِ، وَتِجَارَةُ ٱلْمُخَدَّرَاتِ، وَٱلْجَرِيمَةُ ٱلْمُنَظَّمَةُ ٱلَّتِي كَثِيرًا مَا تَكُونُ مُزَوَّدَةً بِأَحْدَثِ إِمْكَانِيَّاتِ ٱلتَّقْنِيَّةِ، إِلَىٰ مُعَدَّلَاتٍ عَالَمِيَّةٍ. مَازَالَ ٱلْحُكْمُ بِٱلْإِرْهَابِ «مِنْ فَوْقُ» يَتِمُّ فِي مَنَاطِقَ كَثِيرَةٍ؛ ٱلدَّيكْتَاتُورِيُّونَ يَغْتَصِبُونَ شُعُوبَهُمْ، وَعُنْفُ ٱلْمُؤَسَّسَاتِ صَارَ وَاسِعَ ٱلْٱنْتِشَارِ. حَتَّى فِي بَعْضِ ٱلدُّوَلِ، ٱلَّتِي يُوجَدُ فِيهَا قَوَانِينُ لِحِمَايَةِ ٱلْحُرَّيَّاتِ ٱلشَّخْصِيَّةِ، يَتِمُّ تَعْذِيبُ ٱلسُّجَنَاءِ، وَتَشْوِيهُ ٱلنَّاسِ، وَقَتْلُ ٱلرَّهَائِنِ». وَأَخَالُ صديقي هانس كينج يُشاهد مجرمي شرطة مصر وعسكرها وهم يقتلون خيرة شباب مصر، ويهتكون أعراض أشرف بنات مصر، فيتألّم كثيرًا، ويبكي كثيرًا، ويستاء كثيرًا، ويغضب كثيرًا، ثُمّ يصيحُ بغضبٍ في وجه عسكر مصر وشرطتها المجرمة، يحذّرهمْ مِنَ القتل والتّعذيب، قائلًا: «لكِنَّنَا نَعْرِفُ مِنْ تَقَالِيدِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ ٱلدَّينِيَّةِ وَٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْكُبْرَى ٱلْقَدِيمَةِ ٱلْإَرْشَادَ ٱلْقَائِلَ: لَا تَقْتُلْ! أَوْ بِصِيغَةٍ إِيجَابِيَّةٍ: ٱحْتَرِمِ ٱلْحَيَاةَ! لِنَتَذَكَّرْ إِذًا مِنْ جَدِيدٍ نَتَائِجَ هذَا ٱلْإِرْشَادِ ٱلضَّارِبِ فِي ٱلْقِدَمِ: لِكُلَّ إِنْسَانٍ ٱلْحَقُّ فِي ٱلْحَيَاةِ، وَٱلسَّلَامَةِ ٱلْجَسَدِيَّةِ، وَٱلتَّطَوُّرِ ٱلْحُرَّ لِشَخْصِيَّتِهِ، مَادَام أَنَّهُ لَا يَنْتَهِكُ حُقُوقَ ٱلْآخَرِينَ. لَيْسَ يَحِقُّ لِأَيَّ إِنْسَانٍ تَعْذِيبُ إِنْسَانٍ آخَرَ جَسَدِيًّا أَوْ نَفْسِيًّا، أَوْ جَرْحُهُ، نَاهِيكَ عَنْ قَتْلِهِ. لَيْسَ يَحِقُّ لِأَيَّ شَعْبٍ، أَوْ دَوْلَةٍ، أَوْ جِنْسٍ، أَوْ دِينٍ، مُمَارَسَةُ ٱلتَّمْيِيزِ ضِدَّ أَقَلَّيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي ٱلنَّوْعِ أَوِ ٱلدَّينِ، وَتَطْهِيرُهَا عِرْقِيًّا، وَنَفْيُهَا، نَاهِيكَ عَنْ تَصْفِيَتِهَا». ثُمّ يُقدّم هانس كينج نصيحة عامّة للمسؤولين في مصر بعدم استخدام العنف أبدًا، خاصّة أنّ ثوّار مصر ما انفكّوا يؤكّدون أنّ ثورتهم «سلميّة، سلميّة». يقول هانس كينج: «يَقِينًا أَيْنَمَا وُجِدَ بَشَرٌ، سَيَكُونُ هُنَاكَ صِرَاعَاتٌ. لكِنَّ مِثْلَ هذِهِ ٱلصَّرَاعَاتِ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مَبْدَئِيًّا بِلَا عُنْفٍ، فِي إِطَارِ نِظَامٍ قَانُونِيًّ. هذَا يَنْطَبِقُ عَلَى ٱلْأَفْرَادِ وَٱلدُّوَلِ جَمِيعًا. إِنَّ أَصْحَابَ ٱلسُّلْطَةِ ٱلسَّيَاسِيَّةِ بِٱلذَّاتِ مُطَالَبُونَ بِٱلْٱلْتِزَامِ بِٱلْقَوَانِينِ، وَبِعَمَلِ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ مِنْ أَجْلِ ٱلتَّوَصُّلِ إِلَىٰ حُلُولٍ سِلْمِيَّةٍ بِلَا عُنْفٍ بِقَدْرِ ٱلْإِمْكَانِ. يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوا كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِمْ مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ نِظَامِ سَلَامٍ عَالَمِيًّ، يَحْتَاجُ بِدَوْرِهِ إِلَى ٱلْحِمَايَةِ وَٱلدَّفَاعِ ضِدَّ هؤُلَاءِ ٱلَّذِينَ يُمَارِسُونَ ٱلْعُنْفَ. إِنَّ سِبَاقَ ٱلتَّسَلُّحِ ضَلَالٌ، وَنَزْعُ ٱلسَّلَاحِ هُوَ مَطْلَبُ ٱلسَّاعَةِ. لَا يَنْخَدِعَنَّ أَحَدٌ: لَا بَقَاءَ لِلْبَشَرِيَّةِ، بِلَا سَلَامٍ عَالَمِيًّ!». ويشدّد كينج على دور التّربية في خلق مجتمع خالٍ من العنف. فلو كان لدينا كُلّيّات شرطة حقيقيّة، تلقن طلبتها عدم استخدام العنف، لما عانى شعبنا من كلّ ما عاناه من قهر ومذلة عبر ستّة عقود كاملة. يقول كينج: «يَنْبَغِي لِذٰلِكَ أَنْ يَتَعَلَّمَ ٱلنَّشْءُ فِي ٱلْأُسْرَةِ وَٱلْمَدْرَسَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ٱسْتِخْدَامُ ٱلْعُنْفِ كَوَسِيلَةٍ لِحَلَّ ٱلْخِلَافَاتِ مَعَ ٱلْآخَرِينَ. بِهذَا فَقَطْ يُمْكِنُ خَلْقُ ثَقَافَةٍ خَالِيَةٍ مِنَ ٱلْعُنْفِ». 8- عَدَالَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ لَيْسَ يُطالبُ بالعدالةِ إلّا المظلومُ. لولا الظّلمُ لما قامتْ ثورةُ مصرَ المجيدةُ في الخامسِ والعشرينَ منْ ينايرَ 2011م. تزويرُ الانتخاباتِ منذُ 1952م وحتّى يومنا هذَا ظلمٌ. استيلاء عصابة العسكر على الحكم في مصر بالقوّة سنة 1952م ظلمٌ. تشبُّث العسكر بالحكم منذ 1952م وحتّى يومنا هذا في سنة 2012م ظلمٌ. النّفاق ظلمٌ. الكذب ظلمٌ. تضليل الإعلام للنّاس ظلمٌ. الاستخفاف بعقول الشّعب ظلمٌ. مسرحيّة محاكمة المخلوع ظلمٌ. تجاهل مطالب الثّوّار ظلمٌ. اعتبار أهالي شهداء الثّورة مجرمينَ ظلمٌ. الانفلات الأمنيّ المفتعل ظلمٌ. سرقة ثروات الشّعب وأمواله وتهريبها ظلمٌ. المماطلة في عقد محاكمة حقيقيّة للمخلوع ظلمٌ. اعتبار ثورة مصر المجيدة مجرّد مظاهرات بتمويل أجنبيّ ظلمٌ. بيع الغاز بسعر زهيد لأعداء البلاد والعباد ظلمٌ. التّلذّذ بتعذيب الشّعب ظلمٌ. مؤامرة قتل ما يزيد على ثلاث مئة مصريّ في بورسعيد ظلمٌ. هتك أعراض فتياتنا ظلمٌ. تلطيخ صورة الثّوّار ظلمٌ. عدم تطهير الإعلام الحكوميّ ظلمٌ. استمرار الاستعانة بالعسكر في المناصب القياديّة وتجاهل أصحاب المؤهلات والكفاءات ظلمٌ. مِصْرُ العسكرِ هِيَ بلدُ الجورِ والضّيمِ والجبنِ والظّلمِ. قبل استعراض مكانة «العدالة» في «المقاييس العالميّة للأخلاق»، سنلقي بالضّوء سريعًا على مبدأ «العدل» في «العقيدة الإسلاميّة»، ثُمّ في بعض الكتابات الإسلاميّة القديمة. فنكون بذلك قد جمعنا بين تراثنا العربيّ الإسلاميّ القديمِ من ناحية والفكر الغربيّ الحديث من ناحيةٍ أخرى. تاريخ تطوّر العقيدة الإسلاميّة هو تاريخ غنيّ بالأحداث، والصّراعات، والتّفاعلات، والصّدامات. مجّدتِ المعتزلةُ العقل والعدلَ بصورةٍ خاصّةٍ. قالَ بعض النّقّاد إنّ الحنابلة قد جعلوا قدرةَ اللّه بلا حدود، بعدما حاولتِ المعتزلة تقييدها. مجّدتِ الصّوفيّة «الحبّ» الإلهي»، وهاجمت العقل. العدل إذا فُهِمَ بطريقةٍ صارمة، يُنافي الرّحمةَ. وهذا ما جعلَ المعتزلة، مثلًا، يرفضون فكرة «الشّفاعة»، أي شفاعة الرّسول (صلعم) للمؤمين يوم القيامة. المتأمّل لفهم المعتزلة لفكرة «العدل»، يُلاحظ أنّهم توسّعوا فيها إلى أبعد الحدود، وحاولوا تطبيقها على كلّ شيءٍ وكلّ مخلوق وكلّ تصرّف، بل وعلى البارئ سبحانه وتعالى. اعتبرَ الأشاعرة والصّوفيّة بالذّات نظرة المعتزلة لمبدأ العدل تطرّفًا، وتطاولًا على البارئ تعالى. فالمعتزلة قيّدوا «القدرة الإلهيّة» بمبدأ «العدل»، في حين أنّ الأشاعرة والصّوفيّة يعتبرون أنّ قدرة اللّه سبحانه وتعالى بلاد حدودٍ. يعودُ أصلُ «العدل» عند المعتزلة إلى ردّهم على «المجبرة» الّذين لم يُثبتوا للإنسانِ أيَّ إرادةٍ. وتفرّعتْ من هذا «الأصلِ» نظريّاتٌ أخرى مثل «نظريّة الصّلاح والأصلح»، و«الكلام في النّبوّات والمعجزات». قالتِ المعتزلةُ في ردّها على الجبريّة: «إِنّ أفعالَ العبادِ ليستْ مخلوقةً لهم. وَإِنَّما همُ المحدثونَ لها. ولذلكَ فهم مخيّرونَ بينَ الفعلِ والتّرك». وَكَانَ لهذا المبدأ بعدٌ سياسيّ أيضًا حيثُ كانَ بنو أميّة يقتلون معارضيهم، ثُمّ يدّعون كذبًا وبهتانًا أنّ «هذا قد تمّ بمشيئة اللّه وقدره». وهذا لا محالة أسوأ ما يمكن للمرء أن يفعله: نسب القتل والإجرام إلى اللّه تعالى. بَعْدَ أن وضعتِ المعتزلةُ مبدأ «التحسين والتّقبيح»، قالوا: «إنّ كُلّ ما يحسنُ، يجبُ على اللّهِ فعله». ونتج عن هذا ما يمكنُ تسميته «نظريّة الوجوب على اللّه». فرضتِ المعتزلةُ على البارئ تعالى، ليسَ كفرًا واستكبارًا، بل إيمانًا وتعظيمًا، ما يلي: 1- يجبُ على اللّهِ خلق العباد، وتكليفهم بعدَ الخلق. 2- يجب على اللّه بعثة الرّسل. 3- يجبُ على اللّهِ فعل الأصلحِ. 4- يجبُ على اللّه ثوابِ الطّاعة وعقاب المعصية. 5- لا يجبُ على اللّه تكليف العباد ما لا يطيقون. قالتِ الصّوفيّة في ردودها على بعضِ هذه الفروضِ إنّ المؤمن لا يدخل الجنّة بأعماله، كما تقولُ المعتزلةُ، بل برحمته تعالى. وقال إبراهيم النّظّام المعتزليّ إنّ اللّه تعالى لا يستطيعُ أن يفعل الشّر أو الظّلم. وردّ الغزاليّ عليه قائلًا: إنّ البارئ تعالى قادر على المعاصي، لكنّه لا يفعلها. عالج المستشرق الأمريكيّ اليهوديّ ولفسون في كتابه «فلسفة الكلام» - الّذي نقله إلى العربيّة الأستاذ مصطفى لبيب - هذا الموضوع في الجزء الخاصّ بالمحالات. يحكي ولفسون عن أوريجن ما يلي: «أمّا ما يخصُّ قدرة اللّهِ، فكلّ شيءٍ ممكنٌ. وَأَمَّا ما يخصُّ عدله، فنظرًا إلى أنّه ليس فقط قويًّا، بل أيضًا عادلٌ، فليس كُلُّ شيءٍ ممكنًا، بلِ الممكنُ هنا هو الأشياء العادلة فقط». والعدلُ هو أساس الوجود. يقولُ ابن الحدّاد: «رُوِيَ في الخبرِ الجليّ عَنِ الجانبِ المقدّس النّبويّ أَنَّهُ قَالَ صلّي اللّه عليه وسلّم: العدلُ ميزانُ اللّهِ في الأرضِ. فمن أخذ به، قاده إلى الجنّة، وَمَنْ تركه، قاده إلى النّار»(9). وَالمؤمنون مَازلوا ينظرون بإعجاب بالغ إلى نموذج الخليفة عمر بن الخطّاب في عدله وورعه، وكُلّنا نتمنّى أنْ يمنّ اللّهُ علينا بحاكمٍ يتمتّع ببعض صفات عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه. يقول الماوردي في «أدب الدّنيا والدّين»: «(...) وأَمَّا القاعدة الثّالثة، فهي عدل شاملٌ يدعو إلى الألفة، ويبعثُ على الطّاعةِ، وتتعمّرُ به البلادُ، وتنمو به الأموالُ، ويكثرُ مَعَهُ النّسلُ، ويأمنُ به السّلطانُ. فقد قَالَ المَرْزُبانُ لِعُمَرَ، حينَ رآه وقد نَامَ متبذلًا: ״عدلت، فأمنت، فنمت״. وليس شيءٌ أسرع في خرابِ الأرضِ، ولا أفسد لضمائرِ الخلقِ من الجور، لِأَنَّه ليس يقفُ على حدٍّ ولا ينتهي إلى غايةٍ، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حَتَّى يستكمل. وقد روي عَنِ النّبيِّ، صلّى اللّه عليه وسلّم، أَنَّهُ قَالَ: ״بئس الزّاد إلى المعاد، العدوان على العباد״. وقال، صلّى اللّه عليه وسلّم: ״ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات. فَأَمَّا المنجيات، فالعدلُ في الغضبِ والرّضا، وخشية اللّه في السّرّ والعلانيّة، والقصد في الغنى والفقر. وَأَمَّا المهلكات، فشحّ مطاع، وهوًى متّبع، وإعجاب المرء بنفسِهِ״. وَحُكِيَ أَنَّ الأسكندرَ قَالَ لحكماء الهند، وقد رأى قلّة الشّرائع بها: لِمَ صارت سنن بلادكم قليلة؟ قالوا: لإعطائنا الحقَّ من أنفسنا، ولعدلِ ملوكنا فينا. فقال لهم: أيّما أفضل: العدل أَوِ الشّجاعة؟ قالوا: إِذَا استُعمِلَ العدلُ، أغنى عن الشّجاعة. وقال بعضُ الحكماءِ: بالعدلِ والإنصافِ تكونُ مدّة الائتلاف. وقال بعضُ البلغاءِ: إِنَّ العدلَ ميزان اللّهِ الّذي وضعه للخلقِ، ونصبه للحقّ، فَلَا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه، واستعن على العدلِ بخلتينِ: قلّة الطّمع، وكثرة الورع»(10). والقولُ المنسوبُ إلى الإمامِ محمّد عبده إنّه رَأَى في أوروبّا إسلامًا بلا مسلمينَ، وفي بلاد الإسلامِ مسلمينَ بلا إسلامٍ، يمكنُ فهمه من منظورِ «العدالة». ذَلِكَ أَنَّ: «المُلْكُ يبقى على الكفر، ولا يبقى على الظّلم». يقولُ الماوردي في كتابه المذكور: «روي عَنِ النّبيِّ، صلّى اللّه عليه وسلّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ״أَشَدُّ النّاسِ عذابًا يومَ القيامةِ مَنْ أشركه اللّهُ في سلطانه، فجارَ في حكمه״. وَقَالَ بعضُ الحكماءِ: ״المُلْكُ يبقى على الكفرِ، ولا يبقى على الظّلمِ״. وقالَ بعضُ الأدباءِ: ״ليسَ للجائرِ جارٌ، ولا تعمرُ له دارٌ״. وقالَ بعضُ البلغاءِ:״أقرب الأشياءِ صرعة الظلوم، وأنفذُ السّهامِ دعوةُ المظلومِ״. وَقَالَ بعضُ حكماءِ الملوكِ: ״العجبُ من ملك استفسدَ رعيّته، وَهُوَ يعلمُ أَنَّ عزّه بطاعتهم״. وَقَالَ أزدشير بن بابك: ״إِذَا رغب الملكُ عَنِ العدلِ، رغبتِ الرّعيّةُ عَنْ طاعته״(11). يتعجّب المرءُ من الكم الهائل من المظالم الّتي ارتُكبت في عصر حكم العسكر (1952م-2012م). بالطّبع صبرُ المصريّين ستّة عقودٍ كاملة على ظلم العسكر شجّعهم على الإمعان في الظّلم، والمضي قدمًا في طريق الظّلم والفساد. وكلّنا يتذكّر المخلوعَ وهو يقولُ قبل سقوطه، وبعدَ تزويره البشع للانتخابات: «خلوهم يتسلّوا»!! نسى الظّلمة أنّ اللّهَ تعالى: «يُمْهِلُ وَلَا يُهْمِلُ». وبلغ من قبح الظّلم أنّه تعالى «حرّمه على نفسِهِ». يقولُ الماوردي: «(...) فَكُلُّ مَن لم يحكم بِمَا جاءَ من عندَ اللّهِ ورسوله، كملت فيه هذه الصّفات الثّلاث: الكفر، والظّلم، والفسوق. وقال سبحانه: }ولا تحسبنَ اللّهُ غافلًا عَمَّا يعملُ الظّالمونَ{(إبراهيم: 42). (...) وروى مسلم في الصّحيحِ عَنِ النّبيِّ (صلعم) فيما يرويه عن ربّه، قال: ״يا عبادي، إِنِّي حرّمت الظّلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فَلَا تظالموا، يا عبادي، كلّكم ضالٍ إِلَّا مَن هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلّكم جائع إلّا من أطعمته، فاستطعموني، أطعمكم. يا عبادي، كلّكم عار، إلّل مَن كسوته، فاستكسوني، أكسكم. يا عبادي، إِنَّكُمْ تخطئون في اللّيلِ والنّهار، وأَنَا أغفر لكم الذّنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد منكم، ما زادَ ذلكَ في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منكم، ما نقص ذلك من مُلكي شيئًا. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيدٍ واحد، فسألوني، فأعطيتُ كُلَّ إنسانٍ منهم مسألته، ما نقص ذلكَ مِمَّا عندي شيئًا إلّا كما ينقص المحيط إذا أدخل في البحر. يا عبادي، إِنَّما هِيَ أعمالكم أحصيها لكم، ثُمَّ آتيكم إيّاها. فمن وجد خيرًا، فليحمد اللّهَ، ومن وجدَ غير ذلكَ فلا يلومن إلّا نفسَه״»(12). وقولُ بعضِ المصريّينَ بأنّ ثورةَ مصر المجيدة في الخامس والعشرين من يناير 2011م كانت ثورةً إلهيّةً يمكن النّظرُ إليه من منظورِ أنّ البارئ تعالى يكره الظّلم كرهًا شديدًا: «ورُوي أَنَّ النّبيَّ (صلعم) قَالَ: يقولُ اللّهُ اشتدَّ غضبي عَلَى مَن ظلمَ مَنْ لم يجد له ناصرًا غيري»(13). إِنَّ عصرَ حكم العسكر (1952م-2012م) كانَ عصرَ الفهلوة والظّلم. ولسوفَ تلقى هذه الفئة الظّالمة ما تستحقّ من عقاب: خزي في الدّنيا، وجهيم جهنم في الآخرة: «بكى عَلِيّ بن الفضيلِ يومًا، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: أبكي على مَن ظلمني إذا وقفَ غدًا بين يدي اللّه تعالى، ولم تكن له حجّة»(14). عندما نتأمّل كيف ظلّ عسكر مصر يكذبون على الشّعب يوميًّا منذ 1952م وحتّى يومنا هذا، يحقّ لنا أن نسأل: لماذا يفعلون هذا؟ فمن أحدث أكاذيبهم ما يردّدونه الآن بأنّ «الجيش» كان «مع الثّورةِ» منذ البداية!! قد يكون هذا صحيحًا فيما يخصّ الجيش المصريّ الباسل. لكنّ العسكر كانوا، ومازالوا يناصبون الثّورة والشّعب عداءً شديدًا. فالجيش المصريّ بجنوده البواسل، ومعظم الضّباط من أصحاب الرّتب الصّغيرة، لا يمكن التّشكيكُ في وطنيّتهم. أَمَّا الفساد، فهو مستشرٍ بشدّة بين العسكر. العسكر هم الّذين زوّروا الانتخابات منذ انقلاب 1952م، وهم المسؤولونَ عنِ الانفلاتِ الأمنيّ المفتعل، وهم قتلة الثّوّار في بورسعيد. ومع ذلك ما انفكّوا يكذبون على الشّعب، ويدّعون أنّهم يؤيّدونَ الثّورة. إنّ عقاب المنافقين في الآخرة سيكون شديدًا. يقول الماورديّ: «يقول الماوردي: «(...) وقد روى حكيمٌ عن جابر بن عبدِ اللّهِ، قال، قالَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليه وسلّمَ: شرُّ النّاسِ ذو الوجهينِ الّذي يأتي هؤلاءِ بوجهٍ، وهؤلاءِ بوجهٍ. وروى مكحول عن أبي هريرة، قال، قال رسولُ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّمَ: لا ينبغي لذي الوجهينِ أن يكونَ وجيهًا عِنْدَ اللّهِ تعالى. وقال سعيد بن عروة: لِأَنْ يكون لي نصفُ وجهٍ ونصفُ لسانٍ على ما فيهما من قبحِ المنظرِ وعجزِ المخبر، أحبّ إليّ من أن أكونَ ذا وجهين وذا لسانينِ، وذا قولينِ مختلفين»(15). كان المخلوع لا يكفّ عن الكذب. أشبعنا كذبًا في غدونا ورواحنا. وعدَ بإجراء انتخابات نزيهة، فكانت أسوأ انتخابات في تاريخ البشريّة. وعد بالإصلاح، والحرّيّات، ومحاربة الفساد، وفعل العكس. كَانَ لا يكفّ عن الادّعاء بأنّه لا يسمح لأحد بالتّدخّل في شؤون مصر، فإذا بنا نكتشف أنّه باع مصر برمّتها للأصدقاء والأعداء. حذّر القدماء من الكذّاب، فذكروا: «أَنَّهُ وُجِدَ في كُتُبِ الهند: ليسَ لكذوبٍ مروءة، ولا لضجورٍ رياسة، ولا لملولٍ وفاء، ولا لبخيلٍ صديقٌ. وقال قتيبة بن مسلم لبنيه: لا تطلبوا الحوائجَ من كذوبٍ، فَإِنَّهُ يُقرّبها وإن كانت بعيدة، ويبعدها وإن كانت قريبة، ولا من رجلٍ قد جعلَ المسألةَ مأكلةً، فإنّه يقدّمُ حاجته قبلها، ويجعل حاجتك وقاية لها، ولا من أحمق، فَإِنَّهُ يُريدُ نفعك، فيضرّك»(16). وذكر الطّرطوشيّ في «سراج الملوك» أَنَّ الظّلم ومحاباة الفسدة من أهمّ ما يؤدّي إلى زوال الممالك: «سئل بزرجمهر: ما بالُ مُلكُ آل ساسانِ صَارَ إلى مَا صَارَ إليه بَعْدَ ما كَانَ فيه من قوّةٍ وسلطانٍ وشدّةِ الأركانِ؟ فقال: ذلك لِأَنَّهم قلّدوا كبارَ الأعمالِ صغارَ الرّجالِ. وعن هذا قالتِ الحكماءُ: موتُ ألفٍ مِنَ العليةِ أَقَلّ ضررًا مِنَ ارتفاعِ واحدٍ مِنَ السّفلةِ. وفي الأمثالِ: زوال الدّولِ باصطناعِ السّفل»(17). دعونا نتأمّل تقريب المخلوع لسفلة القوم، وإقصاءه لخير أبناء مصر. دعونا نراقب ما يرتكبه العسكر من جرائم حين يقومون بتعيين واحد منهم محافظًا للوادي الجديد، برغم أنّه لا يصلح أن يكون محافظًا لحارة من حواري مصر: بدون مؤهلات، وبدون شهادات، وبدون علم، وبدون فكر، وبدون خبرات. كلّ بضاعته بدلة عسكريّة مزركشة بالألوان المختلفة، يخفي وراءها عجز، وجهل، وغباء. دعونا نتأمل حرص العسكر على إقصاء إعلاميّين مصريّين محترمين، من أمثال حسين عبد الغني، أو عبد الحليم قنديل، أو حمدي قنديل، وتفضيلهم للصّعاليك من أمثال هيكل، وأسامة سرايا، وعبد اللّه كمال. قالتِ الحكماء: «أسرعُ الخصالِ في هدمِ السّلطانِ وأعظمها في إفسادِهِ، وتفريق الجمعِ عنه، إظهار المحاباة لقومٍ دون قومٍ، والميل إلى قبيلةٍ دونَ قبائل، فمتى أعلن بحبِّ قبيلة، فقد برئ من قبائل. وقديما قيل: المحاباة مفسدة ...وقال مهموت الموبذان: من زوالِ السّلطانِ تقريبِ مَن ينبغي أن يُباعد، ومباعدة من ينبغي أن يُقرّب، فحينئذٍ حان أوان الغدرِ»(18). وأوردَ الطّرطوشيّ بجانبِ الظّلم صفاتٍ أخرى تُسرّع في زوال الممالك، فقال: «وَمِنَ الصّفاتِ الّتي لا تقومُ معها المملكةُ: الكذب، والغدر، والخبث، والجور، والسّخف. وقد قالتْ حكماءُ العرب والعجمِ: ستّ خصالٍ لا تغتفر مِنَ السّلطانِ: الكذب، والخلف، والحسد، والحدّة، والبخل، والجبن، فَإِنَّهُ إن كان كذّابًا لم يوثق به في وعده ولا بوعيده، فلم يُرجَ خيره، ولم تُخف سطوته، ولا بهاء لسلطانٍ لا يرهب».(19). وَأَشَارَ القدماءُ إلى أنّ الحاكمَ العادلَ لا يخشاه إلّا الفسدة الفجّار، والحاكم الظّالم لا يكشّر عن أنيابه إلّا للأخيار: «وفي حِكَمِ الهند: أفضل السّلطانِ من أمنه البريء، وخافه المجرم. وشرّ السّلطانِ من خافه البريء، وأمنه المجرم ... وقال عمر للمغيرة لمّا ولّاه الكوفة: يا مغيرة، ليأمنك الأبرارُ، وليخفك الفجّار»»(20). والظّالمُ ابتلاه اللّهُ تعالى بعمى البصيرة، فهو يتوهّم أنّ هذه الحياة الدّنيا ستدوم له إلى الأبد، وغاب عنه أنّها حياة فانية، وَأَجَلٌ مكتوبٌ، وعمر محسوب، لا ينبغي للمؤمن الحقّ أن ينخدع بمحاسنها، ويغترّ بمفاتنها، لأنّها - كما وصفها القدماء - مثل الكنيف: «لو كانتِ الدّنيا كلّها ذهبًا وفضّة، ثُمّ سلمت عليك بالخلافة، وألقت إليك مقاليدها وأفلاذ كبدها، ثُمّ كَانَتْ طريدةً للموتِ، ما كَانَ ينبغي لكَ أن تتهنأ بعيشٍ، لَا فخرَ فيما يزولُ، ولا غنًى فيما يفنى. وَهَلِ الدّنيا إِلَّا كَمَا قَالَ الأوّل: قدر يغلي وكنيف يملأ؟ وَكَمَا قَالَ الشّاعرُ: ״وَلَقَدْ سألتُ الدّارَ عَنْ أخبارهم فتمايلت عجبًا ولم تبدي حتّى مررت على الكنيفِ فقال لِي أموالهم ونوالهم عندي״»»(21). ويشيرُ الطّرطوشيّ إلى أنّ القدماء كَانوا يسمّون الدّنيا «خنزيرة»، عندما أدركوا أنّها حياة فانية، ورحلة عابرة: «وقد وصف اللّهُ تعالى الدّنيا وأهلَهَا بصفةٍ أَعَمّ من هذه الصّفة، فقال سبحانه وتعالى: }اعلموا إِنَّمَا الحياة الدّنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجبَ الكفّار نباته، ثُمّ يهيجُ، فتراه مصفرًا، ثُمَّ يكونُ حطامًا، وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ{(الحديد: 20). والكفّار ها هنا الزّراع، فكما أنّ الزّرعَ أوّل نباته خضرًا ناعمًا اهتزّتِ الأرضُ به، بعد يبسها، فجاءت في العيونِ كأملح ما يكونُ، ثُمّ يهيجُ، فتراه مصفرًا، أيْ يكبر ويستوي، فيجفّ ويحترق وينتكس أعلاه، ويستقل بسنبله، ثُمّ يُداسُ، فيكونُ حطامًا، أي تبنًا متقطعًا متكسرًا. وهذا مثلٌ ضربه اللّه تعالى لبني آدم، إذ كَانوا أطفالًا أوّل الولادة، وفي حال الطّفوليّة كأحسن مرأى، يعجبونَ الآباء، ويفتنون ذوي الأحلامِ والنّهى، ثُمَّ يكبرونَ فيصيرونَ شيوخًا منكّسة رؤوسهم، مقوّسة ظهورهم، قد ذهب حسنهم ونعومتهم، وفنى شبابهم وجمالهم، وذوت غضارتهم ونضارتهم، فاستولى عليهم الهرمُ واليبسُ، ثُمّ يموتونَ، فيصيرونَ حطامًا في القبور كالتّبن في الجرين. هذا بعدما وصفها بخمسِ خصالٍ مذمومة: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر. وَكَانَ الصّدر الأوّل يُسمّي الدّنيا خنزيرة، ولو وجدوا اسمًا أقبح منه، لسمّوها به، وَكَانُوا يسمّونها أم ذفر، والذّفر: النّتن». (72-73).»(22). ننتقلُ الآنَ إِلَى استعراضِ رأي هانس كينج في مبدأِ «العدل» وفقًا لإعلانه الخاصّ ب «المقاييس العالميّة للأخلاق»، فنقولُ: يُطالبُ كُينجُ بنظامٍ اقتصاديٍّ متطوّرٍ يُجنّبُ الإنسانيّةَ مساوئَ الرّأسماليّةِ، ويصونها من مثالبِ الاشتراكيّة. فالرّأسماليّة المتطرّفة تفرزُ لنا جشع الأغنياء، والاشتراكيّة الشّموليّةُ تُنتج لنا طمع الطّبقات الوسطى والدّنيا. يقول هانس كينج: «فِي عَالَمٍ قَامَتْ فِيهِ رَأْسْمَالِيَّةٌ مُطْلَقَةُ ٱلْعَنَانِ، وَٱشْتِرَاكِيَّةُ دَوْلَةٍ شُمُولِيَّةٌ، بِتَفْرِيغِ قِيَمٍ أَخْلَاقِيَّةٍ وَرُوحَانِيَّةٍ كَثِيرَةٍ وَتَدْمِيرِهَا، تَمَكَّنَ نَهَمُ ٱلرَّبْحِ بِلَا حُدُودٍ، وَشَرَهُ جَمْعِ ٱلْمَالِ بِلَا حَيَاءٍ، مِنَ ٱلْٱنْتِشَارِ، بَلْ أَيْضًا فِكْرٌ ٱدَّعَائِيٌّ مَادَّيٌّ، لَا يَكُفُّ عَنْ مُطَالَبَةِ ٱلدَّوْلَةِ بِمَزِيدٍ مِنَ ٱلْحُقُوقِ، دُونَ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِمَزِيدٍ مِنَ ٱلْوَاجِبَاتِ. لَقَدْ تَحَوَّلَ ٱلْفَسَادُ إِلَى وَبَاءٍ سَرَطَانِيًّ فِي جَسَدِ ٱلْمُجْتَمَعِ، لَيْسَ فِي ٱلدُّوَلِ ٱلنَّامِيَةِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا فِي ٱلْبُلْدَانِ ٱلصَّنَاعِيَّةِ». يصفُ هانسُ كينجَ الأوضاعَ المزريةَ لملايين مِنَ النّاسِ في مصر وسائر دول العالمِ مِمَّنْ وقعوا ضحيةَ الاستغلالِ والقهرِ والنّهب، فسقطوا في مستنقعِ الفقرِ، قائلًا: «يَسْعَىٰ عَدَدٌ لَا يُحْصَى مِنَ ٱلنَّاسِ فِي جَمِيعِ ٱلْأَدْيَانِ إِلَىٰ تَحْقِيقِ تَضَامُنٍ مُتَبَادَلٍ، وَمِنْ أَجْلِ حَيَاةٍ بِعَمَلٍ يُؤَدُّونَهُ بِوَفَاءٍ وَإِخْلَاصٍ. بِرَغْمِ ذلِكَ يُوجَدُ فِي عَالَمِ ٱلْيَوْمِ جُوعٌ، وَفَقْرٌ، وَعَنَاءٌ، كَثِيرٌ لَا يَنْتَهِي. سَبَبُ ذٰلِكَ لَيْسَ مُجَرَّدَ ٱلْأَفْرَادِ وَحْدَهُمْ. بَلْ إِنَّ ٱلْبُنَى ٱلْٱجْتِمَاعِيَّةَ ٱلظَّالِمَةَ كَثِيرًا مَا تَكُونُ أَيْضًا سَبَبًا لِذلِكَ: هُنَاكَ مَلَايِينُ مِنَ ٱلنَّاسِ بِلَا عَمَلٍ، وَمَلَايِينُ يَتِمُّ ٱسْتِغْلَالُهُمْ مِنْ خِلَالِ ٱلْأَعْمَالِ ٱلْمُنْخَفِضَةِ ٱلْأُجُورِ، وَيُدْفَعُونَ إِلَى هَامِشِ ٱلْمُجْتَمَعِ، وَيُحْرَمُونَ مِنْ فُرَصِهِمْ فِي ٱلْحَيَاةِ. ثَمَّةَ فُرُوقٌ هَائِلَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ ٱلْبُلْدَانِ بَيْنَ ٱلْفُقَرَاءِ وَٱلْأَغْنِيَاءِ، بَيْنَ ٱلْأَقْوِيَاءِ وَٱلْمَغْلُوبِينَ عَلَى أَمْرِهِمْ». مازلتُ أتذكّرُ جيّدًا ردّ فعلِ هانس كينج عندما رجوته قبل سنواتٍ طويلة من اندلاع ثورة مصر المجيدة أن يساعدني في تقديم «المخلوع» إلى «محكمة الجنايات الدّوليّة». في إعلانه الخاصّ ب «المقاييس العالميّة للأخلاق» أخالُ كينج يصرخُ في المخلوع وبطانته قائلًا: «كفاكم سرقةً ونهبًا». يقولُ كينج في إعلانه: «لكِنَّنَا نَعْرِفُ مِنْ تَقَالِيدِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ ٱلدَّينِيَّةِ وَٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْقَدِيمَةِ ٱلْكُبْرَى ٱلْإِرْشَادَ ٱلْقَائِلَ: لَا تَسْرِقْ! أَوْ بِصِيغَةٍ إِيجَابِيَّةٍ: تَصَرَّفْ بِعَدْلٍ وَإِنْصَافٍ! لِنَتَذَكَّرْ إِذًا مِنْ جَدِيدٍ نَتَائِجَ هذَا ٱلْإِرْشَادِ ٱلْعَتِيقِ فِي ٱلْقِدَمِ: لَيْسَ يَحِقُّ لِأَيَّ إِنْسَانٍ، بِأَيَّ شَكْلٍ مِنَ ٱلْأَشْكَالِ، أَنْ يَسْرِقَ إِنْسَانًا آخَرَ، أَوْ يَعْتَدِيَ عَلَى مِلْكِيَّتِهِ، أَوِ ٱلْمِلْكِيَّةِ ٱلْعَامَّةِ. لكِنْ فِي مُقَابِلِ هذَا لَا يَحِقُّ أيْضًا لِأَيَّ إِنْسَانٍ ٱسْتِخْدَامُ مِلْكِيَّتِهِ ٱلْخَاصَّةِ، بِدُونِ مُرَاعَاةِ ٱحْتِيَاجَاتِ ٱلْمُجْتَمَعِ وَحَاجَاتِ ٱلْأَرْضِ. أَيْنَمَا يَعُمَّ ٱلْفَقْرُ ٱلْمُدْقِعُ، يَنْتَشِرِ ٱلْإِحْسَاسُ بِٱلْعَجْزِ وَٱلْيَأْسِ، وَتَتِمَّ ٱلسَّرِقَةُ أَيْضًا بِصُورَةٍ مُتَكَرَّرَةٍ مِنْ أَجْلِ ٱلْبَقَاءِ عَلَىٰ قَيْدِ ٱلْحَيَاةِ. أَيْنَمَا تَتَكَدَّسِ ٱلسُّلْطَةُ وَٱلثَّرْوَةُ بِلَا هَوَادَةٍ، تَسْتَيْقِظْ لَا مَحَالَةَ لَدَىٰ ٱلْمَظْلُومَينَ وَٱلْمُهَمَّشِينَ مَشَاعِرُ ٱلْحِقْدِ، وَٱلضَّغِينَةِ، بَلِ ٱلْكَرَاهِيَةِ ٱلْقَاتِلَةِ وَٱلتَّمَرُّدِ. لكِنَّ هذَا يَقُودُ إِلَى حَلَقَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ مُفَرَّغَةٍ مِنَ ٱلْعُنْفِ وَٱلْعُنْفِ ٱلْمُضَادَّ. لَا يَنْخَدِعَنَّ أَحَدٌ: لَا سَلَامَ عَالَمِيًّا، بِلَا عَدَالَةٍ عَالَمِيَّةٍ». ثُمّ يُذكّرنا هانس كينج بدور التّعليم وأهميته في تشييد مجتمع تسوده العدالة والإنصاف: «يَنْبَغِي لِذٰلِكَ أَنْ يَتَعَلَّمَ ٱلنَّشْءُ فِي ٱلْأُسْرَةِ وَٱلْمَدْرَسَةِ أَنَّ ٱلْمِلْكِيَّةَ، مَهْمَا كَانَتْ ضَئِيلَةً، مُلْزِمَةٌ. يَنْبَغِي أَنْ يَجْلُبَ ٱسْتِخْدَامُهَا ٱلْخَيْرَ لِلنَّاسِ عَامَّةً فِي ٱلْوَقْتِ نَفْسِهِ. هكَذَا فَقَطْ يُمْكَنُ تَشْيِيدُ نِظَامٍ ٱقْتِصَادِيًّ عَادِلٍ». وَيُقَدِّمُ هانسُ كينجَ مجموعةً مِنَ النّصائحِ لطرفي النّزاعِ: الظّالم والمظلوم. فيقولُ إنّ الظّلمَ ينبغي أن يُقاوَمَ بِلاَ عنفٍ، وإنّ الظّلمة عليهم أن يراجعوا أنفسَهُم ويكفُّوا عن سوء استخدام سلطاتهم. ويلاحظُ القارئُ هنا النّقدَ الشّديدَ الّذي يوجّهه كينج إلى «شره» رجال الأعمالِ الّذين لا يشبعونَ أبدًا. يقولُ كينج: ««يَسْرِي فِي كُلَّ مَكَانٍ: أَيْنَمَا يَقْهَرِ ٱلْحُكَّامُ ٱلْمَحْكُومِينَ، وَٱلْمُؤَسَّسَاتُ ٱلْأَفْرَادَ، وَٱلْقُوَّةُ ٱلْحَقَّ، تَحْسُنِ ٱلْمُقَاوَمَةُ، عَلَى أَنْ تَكُونَ بِلَا عُنْفٍ بِقَدْرِ ٱلْإِمْكَانِ. أَنْ يَكُونَ ٱلْمَرْءُ إِنْسَانًا، يَعْنِي بِرُوحِ تَقَالِيدِنَا ٱلدَّينِيَّةِ وَٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْكُبْرَى مَا يَلِي: بَدَلًا مِنْ سُوءِ ٱسْتِخْدَامِ ٱلسُّلْطَةِ ٱلْٱقْتِصَادِيَّةِ وَٱلسَّيَاسِيَّةِ فِي مَعْرَكَةٍ بِلَا هَوَادَةٍ مِنْ أَجْلِ ٱلسَّيْطَرةِ، يَنْبَغِي ٱسْتِخْدَامُ هذه ٱلسُّلْطَةِ لِخِدْمَةِ ٱلنَّاسِ. وَيَنْبَغِي أَنْ نُطَوَّرَ رُوحًا لِلرَّأْفَةِ بِٱلْمُعَذَّبِينَ، وَنَعْتَنِيَ بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ بِٱلْفُقَرَاءِ، وَٱلْمُعَوَّقِينَ، وَٱلْمُسِنَّينَ، وَٱللَّاجِئِينَ، وَأُولئكَ ٱلَّذِينَ يُعَانُونَ مِنَ ٱلْوَحْدَةِ. بَدَلًا مِنْ فِكْرِ قُوَّةٍ صِرْفٍ، وَسِيَاسَةِ قُوَّةٍ بِلَا رَادِعِِ، يَنْبَغِي أَنْ يَسُودَ فِي ٱلْمُنَافَسَةِ ٱلَّتِي لَا يُمْكِنُ تَحَاشِيهَا: ٱلْٱحْتِرَامُ ٱلْمُتَبَادَلُ، وَٱلتَّوَازُنُ ٱلْمَعْقُولُ لِلْمَصَالِحِ، وَإِرَادَةُ ٱلتَّوَسُّطِ، وَمُرَاعَاةُ ٱلْآخَرِينَ. بَدَلًا مِنْ شَرَهٍ لَا يُشْفَى لَهُ غَلِيلٌ تُجَاهَ ٱلْمَالِ وَٱلْهَيْبَةِ وَٱلْٱسْتِهْلَاكِ، يَنْبَغِي ٱلْعَوْدَةُ مِنْ جَدِيدٍ إِلَىٰ رُوحِ ٱلْٱعْتِدَالِ وَٱلتَّوَاضُعِ! ذٰلِكَ أَنَّ إِنْسَانَ ٱلطَّمَعِ يَفْقِدُ ״نَفْسَهُ״، وَيَفْقِدُ حُرَّيَّتَهُ وَطُمَأْنِينَتَهُ، وَسَلَامَهُ ٱلدَّاخِلِيَّ، وَبِذلِكَ يَفْقِدُ مَا يَجْعَلُهُ إِنْسَانًا». وَيُخَصِّصُ هانسُ كُينجَ مَقَاطِعَ رائعةً مِنْ إِعْلَانِ «المقاييس العالميّة للأخلاق» لِإِدَانَةِ الكذبِ والنّفاقِ والتّضليلِ. أَخَالُهُ يُخَاطِبُ المخلوعَ حينَ يسرقُ، وساويرس حينَ ينهبُ، وهيكل حينَ يُضلّلُ، والمشيرَ حين يدلي بشهادة الزّورِ، والشّرطةَ حينَ تُلَفِّقُ، والعوا حينَ يُنَافِقُ المجلسَ العسكريَّ، والعسكرَ حينَ يتآمرون على ثورةِ مصر المجيدة ثُمّ يدّعون أنّهم معها. يقولُ هَانسُ كينجَ: «يَسْعَى عَدَدٌ لَا يُحْصَى مِنَ ٱلنَّاسِ فِي جَمِيعِ ٱلْبُلْدَانِ وَٱلْأَدْيَانِ أَيْضًا فِي عَصْرِنَا هذا مِنْ أَجْلِ ٱلْعَيْشِ فِي أَمَانَةٍ وَصِدْقٍ. يُوجَدُ بِرَغْمِ ذلِكَ فِي عَالَمِ ٱلْيَوْمِ كَثِيرٌ مِنَ ٱلْإِفْكِ وَٱلْبُهْتَانِ، وَٱلْغِشَّ، وَٱلنَّفَاقِ، وَٱلْإِيدْيُولُوچْيَا، وَٱلدَّيمَاجُوجِيَّةِ، بِلَا حُدُودٍ: ٱلسَّيَاسِيُّونَ وَرِجَالُ ٱلْأَعْمَالِ ٱلَّذِينَ يَسْتَخْدِمُونَ ٱلْكِذْبَ وَسِيلَةً لِلسَّيَاسَةِ وَٱلنَّجَاحِ. وَسَائِلُ ٱلْإِعْلَامِ ٱلْجَمَاهِيرِيَّ ٱلَّتِي تُرَوَّجُ دِعَايَةً إِيدْيُولُوچِيَّةً بَدَلًا مِنَ ٱلْأَخْبَارِ ٱلصَّادِقَةِ، وَتَنْشُرُ ٱلضَّلَالَاتِ بَدَلًا مِنَ ٱلْمَعْلُومَاتِ، وَتَتَّبِعُ سِيَاسَةَ تَسْوِيقٍ خَبِيثَةً بَدَلًا مِنَ ٱلْٱلْتِزَامِ بِٱلْحَقِيقَةِ. ٱلْعُلَمَاءُ وَٱلْبَاحِثُونَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِٱسْتِسْلَامٍ لِبَرَامِجَ إِيدْيُولُوچِيَّةٍ أَوْ سِيَاسِيَّةٍ مَشْبُوهَةٍ أَخْلَاقِيًّا، أَوْ أَيْضًا لِجَمَاعَاتِ مَصَالِحَ ٱقْتِصَادِيَّةٍ، كَمَا يُسَوَّغُونَ ٱلْأَبْحَاثَ ٱلْمُخَالِفَةَ لِلْقِيَمِ ٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْأَسَاسِيَّةِ. مُمَثَّلُو ٱلْأَدْيَانِ ٱلَّذِينَ يَحُطُّونَ مِنْ شَأْنِ أَتْبَاعِ ٱلدَّيَانَاتِ ٱلْأُخْرَىٰ، وَيَعْتَبِرُونَهُمْ نَاقِصِينَ، وَٱلَّذِينَ يُنَادُونَ بِٱلْغُلُوَّ وَٱلتَّعَصُّبِ، بَدَلًا مِنَ ٱلْٱحْتِرَامِ، وَٱلتَّفَاهُمِ، وَٱلتَّسَامُحِ. لكنّنا نَعْرِفُ مِنْ تَقَالِيدِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ ٱلدَّينِيَّةِ وَٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْكُبْرَىٰ ٱلْقَدِيمَةِ ٱلْإِرْشَادَ ٱلْقَائِلَ: لَا تَكْذِبْ! أَوْ بِصِيغَةٍ إِيجَابِيَّةٍ: تَكَلَّمْ وَتَصَرَّفْ بِصِدْقٍ! لِنَتَذَكَّرْ إِذًا مِنْ جَدِيدٍ نَتَائِجَ هذا ٱلْإِرْشَادِ ٱلضَّارِبِ فِي ٱلْقِدَمِ: لَيْسَ يَحِقُّ لِأَيَّ إِنْسَانٍ، وَلَا مُؤَسَّسَةٍ، وَلَا دَوْلَةٍ، وَلَا كَنِيسَةٍ أَيْضًا، أَوْ طَائِفَةٍ دِينِيَّةٍ، ٱلْكِذْبُ عَلَىٰ ٱلنَّاسِ». ويدعو هانسُ كينجَ إلى تلقينِ النّشءِ قيمةَ الصّدق، فيقول: «يَنْبَغِي لِذلِكَ أَنْ يَتَعَلَّمَ ٱلنَّشْءُ فِي ٱلْأُسْرَةِ وَٱلْمَدْرَسَةِ ٱلتَّمَرُّسَ عَلَىٰ ٱلصَّدْقِ فِي ٱلْفِكْرِ وَٱلْقَوْلِ وَٱلْفِعْلِ. كُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ حَقٌّ فِي ٱلْحَقِيقَةِ وَٱلصَّدْقِ. لِكُلَّ إِنْسَانٍ حَقٌّ فِي ٱلْحُصُولِ عَلَى ٱلْمَعْلُومَاتِ ٱلضَّرُورِيَّةِ وَٱلثَّقَافَةِ، لِكَيْ يَتَّخِذَ ٱلْقَرَارَاتِ ٱلَّتِي تُعْتَبَرُ مَصِيرِيَّةً فِي حَيَاتِهِ. لكن بِدُونِ إِرْشَادٍ أَخْلَاقِيًّ أَسَاسِيًّ يَصْعُبُ عَلَيْهِ ٱلتَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا هُوَ هَامٌّ وَمَا هُوَ غَيْرُ هَامًّ. فَمَعَ سَيْلِ ٱلْمَعْلُومَاتِ ٱليَوْمِيَّةِ فِي عَصْرِنَا هذا تُعْتَبَرُ ٱلْمَقَايِيسُ ٱلْأَخْلَاقِيَّةُ عَوْنًا، عِنْدَ تَشْوِيهِ ٱلْحَقَائِقِ، وَتَوْرِيَةِ ٱلْمَصَالِحِ، وَمُدَاهَنَةِ ٱلتَّيَّارَاتِ، وَجَعْلِ ٱلْآرَاءِ مُطْلَقَةً نِهَائِيَّةً». وَيُوَجّهُ هانس كينج إنذارًا إلى الإعلاميّين في كلّ مكان أنْ يتوقّفوا عن تضليل النّاس، والقائمين على الفنون والآداب والعلوم بأن يلتزموا بالمبادئ الأخلاقيّة، والسّياسيّين والأحزاب بأنْ يكفّوا عن الكذب والنّفاق، وممثّلي الأديانِ بألّا يكونوا من مؤجّجي الكراهية والفتن. يقول هانس كينج: «(...) هذا يَنْطَبِقُ بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ عَلَى: وَسَائِلِ ٱلْإِعْلَامِ ٱلْجَمَاهِيرِيَّ ٱلْمَكْفُولِ لَهَا عِنْ حَقًّ حُرَّيَّةُ ٱلنَّشْرِ مِنْ أَجْلِ إِيجَادِ ٱلْحَقِيقَةِ، وَٱلَّتِي تُمَارِسُ بِذٰلِكَ فِي كُلَّ مُجْتَمَعٍ سُلْطَةً رِقَابِيَّةً: إِنَّهَا لَا تَقِفُ فَوْقَ ٱلْأَخْلَاقِ، بَلْ تَبْقَى فِيمَا يَخُصُّ ٱلْمَوْضُوعِيَّةَ وَٱلْإِنْصَافَ مُلْتَزِمَةً بِٱلْكَرَامَةِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ، وَحُقُوقِ ٱلْإِنْسَانِ، وَٱلْقِيَمِ ٱلْأَسَاسِيَّةِ. لَيْسَ يَحِقُّ لَهَا ٱنْتِهَاكُ حُرْمَةِ ٱلنَّطَاقِ ٱلشَّخْصِيَّ لِلْأَفْرَادِ، وَلَا تَشْوِيهُ ٱلْحَقِيقَةِ، وَلَا ٱلتَّلَاعُبُ بِٱلرَّأْيِ ٱلْعَامَّ. ٱلْفُنُونِ وَٱلْآدَابِ وَٱلْعُلُومِ ٱلْمَكْفُولِ لَهَا عَنْ حَقًّ ٱلْحُرَّيَّةُ ٱلْفَنَّيَّةُ وَٱلْأَكَادِيمِيَّةُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مُعْفَاةً مِنَ ٱلْمَقَايِيسِ ٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْعَامَّةِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَخْدِمَ ٱلْحَقِيقَةَ. ٱلسَّيَاسِيَّينَ وَٱلْأَحْزَابِ ٱلسَّيَاسِيَّةِ: عِنْدَمَا يَكْذِبُونَ عَلَىٰ شُعُوبِهِمْ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَعِنْدَمَا يَرْتَكِبُونَ جُرْمَ ٱلتَّلَاعُبِ بِٱلْحَقِيقَةِ، وَٱلْٱرْتِشَاءِ، أَوِ ٱنْتِهَاجِ سِيَاسَةِ قُوَّةٍ بِلَا هَوَادَةٍ فِي ٱلدَّاخِلِ وَٱلْخَارِجِ، يَكُونُونَ قَدْ فَقَدُوا مِصْدَاقِيَّتَهُمْ، وَيَسْتَحِقُّونَ فُقْدَانَ وَظَائِفِهِمْ وَنَاخِبِيهِمْ. فِي مُقَابِلِ هذا يَنْبَغِي عَلَىٰ ٱلرَّأْيِ ٱلْعَامَّ دَعْمُ أولئك ٱلسَّيَاسِيَّينَ ٱلَّذِينَ يَتَجَرَؤُونَ عَلَىٰ إِعْلَانِ ٱلْحَقِيقَةِ لِلشَّعْبِ فِي كُلَّ وَقْتٍ. وَأَخِيرًا يَنْطَبِقُ هذا عَلَىٰ مُمَثَّلِي ٱلْأَدْيَانِ: عِنْدَمَا يُؤَجَّجُونَ ٱلْأَحْكَامَ ٱلْمُسْبَقَةَ، وَٱلْكَرَاهِيَةَ، وَٱلْعَدَاءَ، تُجَاهَ أَصْحَابِ ٱلدَّيَانَاتِ ٱلْأُخْرَىٰ. وَعِنْدَمَا يُنَادُونَ بِٱلتَّطَرُّفِ، بَلْ وَيُدَشَّنُونَ ٱلْحُرُوبَ ٱلدَّينِيَّةَ، أَوْ يُعْلِنُونَ شَرْعِيَّتَهَا، فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ٱسْتِنْكَارَ ٱلنَّاسِ، وَفُقْدَانَ أَنْصَارِهِمْ. لَا يَنْخَدِعَنَّ أَحَدٌ: لَا عَدَالَةَ عَالَمِيَّةً، بِلَا صِدْقٍ وَإِنْسَانِيَّةٍ!». ماذا يقولُ كينجُ لعسكر مصرَ والأفّاقين من أتباع المخلوع وصفوت الشّريف؟ إِنَّهُ يُذَكِّرُهُمْ بوصيةٍ من وصايا العهد القديم العشر: «لا تزنِ»، حيث يقولُ: «لكنّنا نَعْرِفُ مِنْ تَقَالِيدِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ ٱلدَّينِيَّةِ وَٱلْأَخْلَاقِيَّةِ ٱلْكُبْرَى ٱلْقَدِيمَةِ ٱلْإِرْشَادَ ٱلْقَائِلَ: لَا تَزْنِ! أَوْ بِصِيغَةٍ إِيجَابِيَّةٍ: ٱحْتَرِمُوا وَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا! لِنَتَذَكَّرْ إِذًا مِنْ جَدِيدٍ نَتَائِجَ هذا ٱلْإِرْشَادِ ٱلْعَرِيقِ فِي ٱلْقِدَمِ: لَيْسَ يَحِقُّ لِأَيَّ إِنْسَانٍ إِهَانَةُ إِنْسَانٍ آخَرَ، بِجَعْلِهِ مُجَرَّدَ أَدَاةٍ لِغَرِيزَتِهِ ٱلْجِنْسِيَّةِ، أَوْ دَفْعِهِ إِلَىٰ ٱلتَّبَعِيَّةِ ٱلْجِنْسِيَّةِ، أَوِ ٱلْإِبْقَاءِ عَلَيْهِ فِيهَا». ويتألّم هانس كينج من سلوك بعض المصريّين المشين تجاه المرأة، وكونهم لا يتوقّفون عن معاكسة البنات في الشّوارع والطّرقات. يدعو هانس كينج إلى احترام المرأة والمساواة بينها وبين الرّجل: «إِنَّنَا نُدِينُ ٱلْٱسْتِغْلَالَ ٱلْجِنْسِيَّ، وَٱلتَّمْيِيزَ بَيْنَ ٱلْجِنْسَيْنِ، بِٱعْتِبَارِهِمَا أَحَدَ أَسْوَأِ أَشْكَالِ إِهَانَةٍ لِلْإِنْسَانِ. أَيْنَمَا تَتِمَّ ٱلدَّعْوَةُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ بِٱسْمِ عَقِيدَةٍ دِينِيَّةٍ، إِلَى سَيْطَرَةِ جِنْسٍ عَلَى ٱلْجِنْسِ ٱلْآخَرِ، وَأَيْنَمَا يَتِمَّ ٱلتَّسَامُحُ مَعَ ٱلْٱسْتِغْلَالِ ٱلْجِنْسِيَّ، وَأَيْنَمَا يَتِمَّ تَشْجِيعُ ٱلْبِغَاءِ، أَوْ يَحْدُثُ ٱسْتِغْلَالٌ لِلْأَطْفَالِ، تَكُنِ ٱلْمُقَاوَمَةُ مَطْلُوبَةً. لَا يَنْخَدِعَنَّ أَحَدٌ: لَا يُوجَدُ إِنْسَانِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ، بِلَا تَعَايُشٍ مَبْنِيًّ عَلَىٰ ٱلشَّرَاكَةِ! (...) إِنَّ ٱلْعَلَاقَةَ بَيْنَ ٱلرَّجُلِ وَٱلْمَرْأَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَحْكُومَةً بِالْوِصَايَةِ وَٱلْٱسْتِغْلَالِ، بَلْ بِٱلْحُبَّ وَٱلشَّرَاكَةِ وَٱلثَّقَةِ. تَحْقِيقُ ٱلذَّاتِ ٱلْإِنْسَانِيَّةِ لَا يَتَطَابَقُ مَعَ ٱلشَّهْوَةِ ٱلْجِنْسِيَّةِ. يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ ٱلْحَيَاةُ ٱلْجِنْسِيَّةُ تَعْبِيرًا عَنْ عَلَاقَةِ حُبًّ مَعِيشَةٍ بِٱلشَّرَاكَةِ وَتَأْكِيدًا لَهَا. بَعْضُ ٱلتَّقَالِيدِ ٱلدَّينِيَّةِ تَعْرِفُ أَيْضًا نَمُوذَجَ ٱلتَّنَازُلِ ٱلطَّوْعِيَّ عَنِ ٱزْدِهَارِ ٱلْحَيَاةِ ٱلْجِنْسِيَّةِ. أَيْضًا ٱلزُّهْدُ ٱلطَّوْعِيُّ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَعْبِيرًا عَنِ ٱلْهُوِيَّةِ وَتَحْقِيقِ ٱلْهَدَفِ». 9- كَرَامَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ لَيْسَ يُطالبُ بالكرامةِ إِلَّا مَنْ أُهينت كرامته. والقضية هنا لها طرفان: ظالم ومظلوم، متكبّر ومقهور، متغطرس ومطحون، منفوخ ومذلول، متفرعن ومتملّق، متنمرد (متشبه بنمرود) ومتذلّل. أهان عسكر مصر كرامة الإنسان المصريّ عبر ستّة عقودٍ مِنَ الزّمان. دَاسوا عليها بأقدامهم. انتهكوا الأعراضَ. عذّبوا الأبرياءَ. اعتقلوا الأحرارَ. كمّموا الأفواهَ. قمعوا المعارضين. روّعوا الشّرفاء. أرهبوا العبادَ. أعدموا المفكّرينَ. حاربوا النّبلاء. اضطهدوا الشّرفاء. اعتقلوا الثّوّار. أجبروا العلماء على الهجرة. نفوا جهابذة العلماء. حوّلوا مصرنا إلى جحيم لا يُطاقُ. عقدوا للمدنيّين محاكمَات عسكريّة. وتركوا المجرم الأكبر، المخلوعَ، حرًّا طليقًا في شرم الشّيخِ. قبل استعراض رأي هانس كينج وما أورده في إعلان «المقاييس العالميّة للأخلاق» عَنْ قضيّة «الكرامة الإنسانيّة»، أودُّ أَوَّلًا معالجة دوافع وأسباب هؤلاءِ الّذينَ تخصّصوا في إهانة كرامة الإنسان المصريّ. لماذا هذه الفرعنة، والغطرسة، والظّلم، والكبر، والعجرفة، والتّلذّذ بتعذيب العباد؟ لماذا يتكبّرُ المتكبّرُ؟ لماذا يُعْجَبُ المرءُ بنفسه؟ لماذا يتغطرسُ المتغطرسُ؟ لماذا يتعالى المتعالي؟ تراثنا العربيّ الإسلاميّ غنيّ جدًّا بأقوال الحكماء، ومواقف الشّعراء من قضية الكبر والإعجاب بالنّفس. تعرّضَ الماوردي للكبر وأسبابه في «أدب الدّنيا والدّين». وتركَ لنا ابن حزمٍ في «الأخلاق والسّير» تحليلًا رائعًا لنفسيّة المتكبّر، وأفحمَ المصابينَ بمرض الإعجاب بالنّفس بالبراهين المنطقيّة والحججِ العقليّة. وغاص الغزّالي في «إحياء علوم الدّين» في نفسِ المتكّبر المتغطرس، موردًا مجموعةً رائعة من حكمِ القدماء، وروايات الفقهاء حول الكبرِ والغرور، مشيرًا إلى ما ينتظر المتكبرين من عقابٍ شديدٍ. يعجبني ما أورده أبو الحسنِ الماوردي فى «أدب الدّنيا والدّين» من ردّ مفحم للمتكبر المغرور. فهو يدعوه إلى تأمّل نفسه وذاته وجسمه، ليرى أنّه مجرّد مخلوق ضعيف، بل مملوء بالنتانةِ. ألم يتفكّر المتكبّر المغرور فيما يخرجه جسمه من: براز، وبول، وعرق، وبلغم، وروائح كريهة؟ يقولُ أبو الحسنِ علي البصريّ الماوردي: «(...) وَلَوْ تصوّرَ المعجبُ المتكبّر ما فطر عليه من جبلة، وبلي به من مهنة، لخفض جناح نفسِهِ، واستبدلَ لينًا من عتوّه، وسكوتًا من نفوره. وَقَالَ الأحنفُ بنُ قيسٍ: عجبتُ لمن جرى في مجرى البولِ مرّتينِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ! وَقَدْ وصفَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ الإنسانَ، فَقَالَ: يا مُظْهِرَ الكبرِ إعجابًا بصورته انظر خلاك فَإِنَّ النّتنَ تثريبُ لَوْ فكّرَ النّاسُ فيما في بطونهم ما استشعرَ الكبر شبّان وَلَا شيبُ هَلْ في ابنِ آدم مثل الرّأسِ مكرمةٌ وَهُوَ بخمسٍ مِنَ الأقذارِ مضروبُ أَنْفٌ يسيلُ وأذن ريحها سَهِكٌ والعينُ مرفضة والثّغر ملعوب يا ابنَ التّرابِ وَمأكول التّراب غدًا أقصرْ فَإِنَّكَ مأكولٌ ومشروبٌ»(23). ويستعرضُ الماوردي أسباب الكبر مشيرًا إلى أنّ المتكبّر نادرًا ما يكون لديه أصدقاء من العقلاء والحكماء الّذين يستطيعون تقديم النّصيحة السّديدة له. ويصف لنا كيف يصنع المجتمع المتكبرين. وهذا يدعونا إلى تأمّل المشاهد الّتي كنّا نراها بانتظام في «مجلس الشّعب» أيّام المخلوع، حيث كانَ المجلس يعجّ بالمنافقين الّذين يُصَفّقون للمخلوع بمجرّد ما يتفوّه بالكلام. لقد أنتج الحكم العسكريّ لمصر (1952م-2012م) جيوشًا مجيّشةً من المنافقين في مصر. يقولُ الماورديّ: «(...) وللكبر أسباب: فَمِنْ أقوى أسبابِهِ علوّ اليد، ونفوذ الأمر، وقلّة مخاطبة الأكفاء. وحكي أنّ قومًا مشوا خلف عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، فَقَالَ: أبعدوا عنّي خفقَ نعالكم، فَإِنَّهَا مفسدة لقلوب نوكى الرّجال. ومشوا خلفَ ابن مسعودٍ، فقال: ارجعوا فَإِنَّهَا زلّة للتّابعِ وفتنة للمتبوعِ. وروى قيس بن حازم أَنَّ رجلًا أتي به إلى للنّبيّ، صلّى اللّه عليه وسلّم، فأصابته رعدة، فقال له، صلّى اللّهُ عليه وسلّم: هوّن عليك، فَإِنَّمَا أنا ابنُ امرأة كانت تأكلُ القديد. وَإِنَّمَا قال ذلك، صلّى اللّهُ عليه وسلّم، حسمًا لموادّ الكبر، وقطعًا لذرائعِ الإعجاب، وكسرًا لِأَشَرِ النّفسِ، وتذليلًا لسطوةِ الاستعلاءِ. (...)»(24). يُعجبني وصف القدماء للمدح بأنّه «ذبح»!! فلو كان المخلوع وَكُلُّ من سبقوه في حكم مصر يتمتّعون بشيءٍ من الحصافة والحكمة، لما انطلى عليهم نفاق المنافقين، ومدح الكذّابين. يقولُ الماورديّ: «(...) وللإعجابِ أسباب: فمن أقوى أسبابِهِ كثرة مديحِ المتقرّبينَ، وإطراء المتملّقين الّذينَ جعلوا النّفاقَ عادةً ومكسبًا، والتّملّق خديعة وملعبًا. فَإِذَا وجدوه مقبولًا في العقولِ الضّعيفةِ أغروا أربابها باعتقادِ كذبهم، وجعلوا ذلكَ ذريعةً إلى الاستهزاءِ بهم. وقد روي عَنِ النّبيَّ، صلّى اللّه عليه وسلّم، أَنَّهُ سمعَ رجلًا يزكّي رجلًا، فقال له: ״قطعت مطاه (= ظهره)، لو سمعها، ما أفلحَ بعدها״. وقالَ عمر بن الخطّابِ، رضي اللّه عنه: ״المدح ذبح״. وقالَ ابن المقفّع: ״قابلُ المدحِ كمادحِ نفسِهِ״. وروي عَنِ النّبيَّ، صلّى اللّه عليه وسلّم، أَنَّهُ قَالَ: ״إِيَّاكم والتّمادح، فَإِنَّهُ الذّبح، إن كان أحدكم مادحًا أخاه لا محالةَ، فليقلْ أحسب ولا أزكي على اللّهِ أحدًا״. وقيلَ فيما أنزلَ اللّه عزّ وجلّ من الكتبِ السّالفةِ: ״عجبتُ لمن قيل فيه الخير، وليس فيه، كيفَ يفرحُ. وعجبتُ لمن قيل فيه الشّرّ، وهو فيه، كيفَ يغضبُ״. وقالَ بعضُ الشّعراءِ: ״يا جاهلًا غرّه إفراطُ مادِحِه لا يغلبنّ جهل من أطراك علمك بك أثنى وقالَ بِلَا علمٍ أحاطَ به وَأَنْتَ أعلم بالمحصولِ من ريبك״ وهذا أمرٌ ينبغي للعاقلِ أن يضبطَ نفسَهُ عن أن يستفزّها، ويمنعها من تصديقِ المدحِ لها، فَإِنَّ للنّفسِ ميلًا لحبّ الثّناءِ وسماع المدحِ. وقال الشّاعرُ: ״يهوى الثّناءُ مبرّز ومقصّر حبُّ الثّناءِ طبيعةُ الإنسانِ״ فَإِذَا سَامَحَ نفسَهُ في مدحِ الصّبوةِ، وتابعها على هذه الشّهوةِ، تشاغلَ بِهَا عنِ الفضائلِ الممدوحةِ، وَلَهَا بها عَنِ المحاسنِ الممنوحةِ، فَصَارَ الظّاهرُ من مدحه كذبًا، والباطن من ذمّه صدقًا، وعندَ تقابلهما يكونُ الصّدقُ ألزم الأمرين. وهذه خدعة لا يرتضيها عاقلٌ، ولا ينخدعُ بها مميّز. وليعلم أَنَّ المتقرّبَ بالمدحِ يسرفُ مَعَ القبولِ ويكفُّ مَعَ الإباءِ، فلا يغلبه حسن الظّنِّ على تصديقِ مدحٍِ هُوَ أعرفُ بحقيقته، ولتكن تهمة المادحِ أغلب عليه. فقلّ مدحٌ كَانَ جميعه صدقًا، وقلّ ثناءً كَانَ كلّه حقًّا. ولذلكَ كره أهلُ الفضلِ أن يطلقوا ألسنتهم بالثّناءِ والمدحِ تحرّزًا مِنَ التّجاوزِ فيه، وتنزيهًا عَنِ التّملّق به. وقد روى مكحولٌ قَالَ، قالَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليه وسلّم: ״لا تكونوا عيّابينَ، ولا تكونوا لعّانينَ، ولا متمادحينَ، ولا متماوتين״. وحكى الأصمعي أَنَّ أبا بكر الصّديق، رضي اللّه عنه، كَانَ إِذَا مُدِحَ، قَالَ: ״اللهمّ أنت أعلمُ بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهمّ اجعلني خيرًا مِمَّا يحسبون، واغفر لي ما لا يعلمونَ، ولا تؤاخذني بما يقولون״. وقال بعضُ الشُّعَراءِ: ״إِذَا المرءُ لَمْ يمدحه حسنُ فعاله فمادحه يهذي وإن كَانَ مفصحًا״ وَرُبَّمَا آلَ حُبُّ المدحِ بصاحبِهِ إلى أَنْ يصيرَ مادحَ نفسِهِ، إِمَّا لتوهّمه أَنَّ النّاسَ قد غفلوا عن فضلِهِ، وأخلّوا بحقّه، وَإِمَّا ليخدعهم بتدليس نفسِهِ بالمدح والإطراء، فيعتقدونَ أَنَّ قولَهُ حقّ متّبعٌ، وصدقٌ مستمعٌ. وَإِمَّا لتلذّذه بسماعِ الثّناءِ وسرور نفسه بالمدحِ والإطراءِ، كَمَا يتغنّى بنفسِهِ طربًا إذا لم يسمعْ صوتًا مطربًا ولا غناء ممتعًا. ولأيّ ذلكَ كَانَ، فهو الجهل الصّريح، والنّقص الفضيح. وقد قال بعضُ الشّعراءِ: ״وما شرفٌ أَنْ يمدحَ المرءُ نفسَهُ ولكنّ أعمالًا تُذمّ وَتُمدحُ وَمَا كُلُّ حينٍ يصدقُ المرءُ ظنّه وَلَا كُلِّ أصحابِ التّجارةِ يربحُ وَلَا كُلُّ مَنْ ترجو لغيبك حافظًا وَلَا كُلّ من ضمَّ الوديعةَ يصلحُ״»(25). وحكى الطّرطوشي في «سراج الملوك قولَ أردشير بن بابك: «ما الكبر إِلَّا فضل حمقٍ لم يدرِ صاحبُهُ أين يذهبُ به، فصرفه إلى الكبر». وقال الأحنفُ بن قيسٍ: «ما تكبّر أحدٌ إِلَّا من ذلةٍ يجدها في نفسه ...»(26). أَمَّا ابن حزمٍ القرطبيُّ، فله أقوال في غاية البلاغة والرّوعة عَنِ الأخلاق والسّلوك الإنسانيّ. لعلّ أَهَمَّ رسالة يريد ابن حزم توجيهها إلى المستكبرين، المتكّبرين، المعجبين بأنفسهم، هِيَ أنّ المرءَ لا يجوزُ له أن يفتخر بصفةٍ تفوقه الحيوانات فيها، من قوّة، أو سرعة، أو رشاقة، أو ضخامة. وفي رأيي أنّ كلامَ ابن حزمٍ هنا يمكن توجيهه إلى عسكر مصر وشرطتها ممّن تمادوا في إذلال الشّعب المصريّ، واغترّوا بالسّلطة، وتوهّموا أنّهم صاروا فوقَ القانون. يقولُ ابن حزم: «طالبُ الآخرةِ ليفوزَ في الآخرةِ متشّبهٌ بالملائكةِ. وطالبُ الشَّرِّ متشّبه بالشّياطين. وطالبُ الصّوت والغلبة متشّبه بالسّباع. وطالبُ اللّذاتِ متشّبه بالبهائم. وطالبُ المالِ لعينِ المالِ، لا لينفقه في الواجباتِ والنّوافلِ المحمودةِ أسقط وأرذل من أن يكونَ له في شيءٍ من الحيوانِ شبه، ولكنّه يُشبه الغدران الّتي في الكهوف في المواضعِ الوعرةِ لا يتنفعُ بها شيءٌ مِنَ الحيوانِ. فالعاقلُ لا يغتبطُ بصفةٍ يفوقه فيها سبعٌ أو بهيمةٌ أو جمادٌ. وَإِنَّمَا يغتبطُ بتقدّمه في الفضيلةِ الّتي أبانه اللّهُ تعالى بها عَنِ السّباعِ والبهائمِ والجماداتِ، وَهِيَ التّمييزُ الّذي يُشاركُ فيه الملائكةَ. فَمَنْ سُرَّ بشجاعته الّتي يضعها في غير موضعها للّهِ عزّ وجلّ، فليعلمْ أَنَّ النّمرَ أجرأ منه، وأنّ الأسدَ والذّئبَ والفيلَ أشجعُ منه. وَمَنْ سُرَّ بقوّةِ جسمِهِ، فليعلم أَنَّ البغلَ والثّورَ والفيلَ أقوى منه جسمًا. وَمَنْ سُرَّ بحمله الأثقالَ، فليعلمْ أَنَّ الحمارَ أحملُ منه. وَمَنْ سُرَّ بِسُرْعَةِ عدوِهِ، فليعلمْ أَنَّ الكلبَ والأرنبَ أسرعُ عدوًا منه. وَمَنْ سُرَّ بِحُسْنِ صوتِهِ، فليعلم أَنَّ كثيرًا مِنَ الطّيرِ أحسنُ صوتًا منه، وَأَنَّ أصواتَ المزاميرِ ألذُّ وأطربُ من صوته. فَأَيِّ فخرٍ، وَأَيِّ سُرُورٍ في ما تكونُ فيه هذه البهائم متقدّمةً عليه»(27). في الجزء الثّالث من «إحياء علوم الدّين» يستعرضُ الإمام الغزّاليّ مرضَ الكِبَرِ والتّكبّر مستشهدًا بالآيات القرآنيّة الكريمة، ثُمّ بالأحاديث الشّريفة، قبل أن يختم بنخبة من أخبارِ الصّحابة والأولياء. وفي الجزء الثّاني من معالجته لظاهرة الغرور والغطرسة يروي الغزّاليّ بعض الأحاديث النّبويّة الشّريفة عن المتمخترين في مشيتهم، قبل أن يختم كلامه في هذا البابِ ببعض ما وردَ في كتب التّراث عن هذه الظّاهرة. أَهَمَّ ما أورده الغزّالي في هذا الفصل هو تذكير المتكبّر المتفرعن بأنّ أصله «نطفة»، ونهايته «جيفة»، وأنّه بينَ الأولى والثّانية يحملُ «الْعَذْرَة» بينَ أحشائه. يقول الغزّاليُّ عن ذمّ القرآنِ الكبرَ «... قد ذَمَّ اللّهُ الكبرَ في مواضع من كتابِهِ، وذمّ كُلَّ جبّارٍ متكبّرٍ، فقال تعالى: }سأصرفُ عن آياتي الّذين يتكبّرونَ في الأرضِ بغير الحقِّ{(الأعراف: 146). وقالَ عزّ وجلّ: }كذلك يطبعُ اللّهُ على كُلِّ قلبٍ متكبّرٍ جبّارٍ{(غافر: 35). وقال تعالى: }واستفتحوا وخَابَ كُلُّ جبّارٍ عنيدٍ{(إبراهيم: 15). وقال تعالى: }إِنَّهُ لا يحبُّ المستكبرين{(النّحل: 23). وقال تعالى: }لَقدِ استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوًا كبيرًا{(الفرقان: 21). وقال تعالى: }إِنَّ الّذينَ يستكبرونَ عن عبادي سيدخلونَ جهنمَ داخرين{(غافر: 60). وَذَمُّ الكبرِ فِي القرآنِ كثيرٌ»(28). ويوردُ الغزّاليُّ بعضَ الأحاديثِ النّبويّةِ الشّريفةِ الّتي تستنكر الكبرَ وتذمّه، فيقول: «وقد قالَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لا يدخلُ الجنّةَ مَنْ كَانَ في قلبِهِ مثقال حبّةٍ من خردلٍ من كبرٍ. ولا يدخلُ النّارَ مَنْ كَانَ في قلبِهِ مثقال حبّةٍ من خردل من إيمانٍ. وقال أبو هريرةَ رضي اللّهُ عنه: قال رسولُ اللّه صلّى اللّهُ عليه وسلّم: يقولُ اللّهُ تعالى الكبرياءُ ردائي والعظمةُ إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما، ألقيته في جهنم، ولا أبالي. وَعَنْ أبي سلمةَ بن عبد الرّحمنِ قال: التقى عبد اللّهِ بن عمرو وعبد اللّهِ بن عمر على الصّفا، فتوافقا، فمضى ابن عمرو، وأقام ابن عمر يبكي. فقالوا: ما يُبكيكَ يا أبا عبد الرّحمنِ؟ فقال: هذا - يعني عبد اللّه بن عمرو - زعمَ أَنَّهُ سمعَ رسولَ اللّهِ صلّى اللّهُ عليه وسلّم يقولُ: من كانَ في قلبهِ حبّة من خردلٍ من كبرٍ أَكبّه اللّهُ في النّارِ على وجهه. وقالَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لا يزالُ الرّجلُ يذهبُ بنفسِهِ، حَتَّى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم من العذاب. وقال سليمان بن داود عليهما السّلامُ يومًا للطّير والإنس والجنّ والبهائم: اخرجوا، فخرجوا في مئتي ألفٍ من الإنس، ومئتي ألف من الجنّ، فرفع حتّى سمعَ زجل الملائكة بالتّسبيحِ في السّمواتِ. ثُمّ خفض حتّى مست أقدامه البحرَ، فسمعَ صوتًا: لو كان في قلبِ صاحبكم مثقال ذرّة من كبرٍ، لخسفت به أبعدَ مِمَّا رفعته. وقالَ صلّى اللّهُ عليه وسلّم: يخرجُ من النّارِ عنقٌ له أذنان تسمعانِ، وعينانِ تبصرانِ، ولسانٌ ينطقُ، يقولُ: وكّلتُ بثلاثةٍ: بكلِّ جبّارٍ عنيدٍ، وبكلّ من دعا مَعَ اللّهِ إلهًا آخرَ، وبالمصوّرين. وقالَ صلّى اللّه عليه وسلّم: لا يدخلُ الجنّةَ بخيلٌ، ولا جبّارٌ، ولا سيءُ الملكة. وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: تحاجتِ الجنّةُ والنّارُ. فقالتِ النّارُ: أوثرتُ بالمتكبّرينَ والمتجبّرين. وقالتِ الجنّةُ: مالي لا يدخلني إلّا ضعفاءُ النّاسِ وسقاطهم وعجزتهم؟ فقالَ اللّهُ للجنّة: إِنَّمَا أنتِ رحمتي، أرحمُ بكِ مَنْ أشاءُ من عبادي. وقال للنّار: إِنَّمَا أنتِ عذابي، أعذّب بك من أشاءُ. وَلِكُلِّ واحدةٍ منكما ملؤها. وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: بئس العبد عبد تجبّر واعتدى ونسى الجبّارَ الأعلى. بئس العبد عبد تجبّر واختالَ ونسى الكبيرَ المتعال. بئس العبد عبد غفلَ وسها ونسى المقابرَ والبلى. بئس العبد عبد عتا وبغى ونسى المبدأ والمنتهى. وعن ثابت أَنَّهُ قال: بلغنا أَنَّهُ قيلَ يا رسولَ اللّهِ، ما أعظم كبر فلان! فقال: أليسَ بعده الموت. وقالَ عبد اللّه بن عمرو: إِنَّ رسولَ اللّهِ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: إِنَّ نوحًا عليه السّلام لمّا حضرته الوفاةُ دعا ابنيه، وقال: إِنِّي آمركما باثنتينِ، وَأَنهاكما عَنِ اثنتينِ. أنهاكما عن الشّركِ والكبرِ، وآمركما بِلَا إلهٍ إلّا اللّه. فَإِنَّ السّموات والأرضين وما فيهن لو وضعت في كفّة الميزانِ، ووضعت لا إله إلّا اللّه في الكفّة الأخرى كانت أرجح منهما، ولو أَنَّ السّموات والأرضين وما فيهن كانتا حلقةً فوضعت لا إله إلّا اللّه عليها، لقصمتها. وآمركما بسبحان اللّه وبحمده، فَإِنَّهَا صلاة كلّ شيءٍ، وبها يرزقُ كلّ شيءٍ. قال المسيحُ عليه السّلامُ: طوبي لمن علّمه اللّهُ كتابَهُ، ثُمّ لم يمت جبّارًا. وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: أهل النّارِ كُلّ جعظري جوّاظ مستكبر جماع مناع، وأهل الجنّة الضّعفاء المقلون. وقال صلّى اللّهُ عليه وسلّم: إِنَّ أحبّكم إلينا وأقربكم منّا في الآخرة أحاسنكم أخلاقًا، وإنّ أبغضكم إلينا وأبعدكم منّا الثّرثارون المتشدّقون المتفيهقون. قالوا: يا رسولَ اللّهِ قد علمنا الثّرثارون والمتشدّقونَ، فما المتفيقهون؟ المتكبّرون. وقالَ صلّى اللّهُ عليه وآله وسلّم: يُحشرُ المتكبّرونَ يومَ القيامةِ في مثلَ صور الذّرّ تطؤهمُ النّاسُ، ذرًّا في مثلِ صورِ الرّجالِ يعلوهم كُلّ شيءٍ من الصّغارِ، ثُمّ يُساقونَ إلى سجنٍ في جهنم يُقالُ له بولس، يعلوهم نار الأنيار يسقون من طينِ الخبال عصارة أهل النّار. وقال أبو هريرة، قال النّبيُّ صلّى اللّهُ عليه وسلّم: يُحشرُ الجبّارونَ والمتكبّرونَ يومَ القيامةِ في صور الذّرّ تطؤهم النّاسُ، لهوانهم على اللّهِ تعالى. وعن محمّد بن واسعٍ قال: دخلتُ على بلال بن أبي بردة، فقلتُ له: يا بلال إنّ أباكَ حدّثني عن أبيه عن النّبيّ صلّى اللّهُ عليه وسلّم، أَنَّهُ قالَ: إِنَّ في جهنم واديًا، يُقالُ له هبهب، حقّ على اللّه أن يسكنه كُلُّ جبّارٍ. فإِيّاكَ يا بلالُ أن تكون مِمّن يسكنه. وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: إِنَّ في النّارِ قصرًا يجعلُ فيه المتكبّرونَ ويطبقُ عليهم. وقالَ صلّى اللّهُ عليه وسلّم: اللهمّ إِنِّي أعوذُ بكَ من نفخة الكبرياء. وقال: من فارقَ روحة جسده، وهو بريء من ثلاثٍ، دخل الجنّة: الكبر والدَّيْن والغلول»(29). ثُمّ يستعرضُ الغزّاليُّ بعضَ ما وردَ من أقوال القدماء عن الكبر، قائلًا: «... قال أبو بكرِ الصّدّيق رضي اللّه عنه: لا يحقرن أحدٌ أحدًا من المسلمينَ. فَإِنَّ صغيرَ المسلمينَ عِنْدَ اللّهِ كبيرٌ. وقال وهب: لَمَّا خلقَ اللّهُ جنّةَ عدن، نظرَ إليها، فقالَ: أنتِ حرام على كُلِّ متكبّرٍ. وَكَانَ الأحنفُ بن قيسٍ يجلسُ مَعَ مصعب بن الزّبيرِ على سريره. فجاءه يومًا ومصعب مادّ رجليه، فلم يقبضهما. وقعد الأحنفُ، فزحمه بعضَ الزّحمةِ. فرأى أثرَ ذلكَ في وجهه. فقال: عجبًا لابن آدم، يتكبّر، وقد خرجَ من مجرى البولِ مرّتينِ. وقالَ الحسنُ: العجبُ من ابن آدم، يغسلُ الخرء بيده كُلّ يومٍ مرّة أو مرّتينِ، ثُمّ يُعارضُ جبّارَ السّمواتِ. وقد قيل في: }وفي أنفسكم أفلا تبصرون{(الذّاريات: 21) هُوَ سبيل الغائطِ والبول. وقد قال محمّد بن الحسين بن علي: ما دخلَ قلب امرئ شيءٍ من الكبر قط، إلّا نقص من عقله بقدرِ ما دخلَ من ذلكَ، قلّ أو كثر. وسئلَ سليمان عن السّيئة الّتي لا تنفع معها حسنةٌ. فقال: الكبر. وقال النّعمان بن بشير - على المنبر - إنّ للشيطان مصالى وفخوخًا، وإنّ من مصالى الشّيطانِ وفخوخه البطر بأنعم اللّه والفخر بإعطاء اللّه والكبر على عبادِ اللّهِ واتّباع الهوى في غير ذاتِ اللّه. نسألُ اللّهَ تعالى العفوَّ والعافيةَ في الدّنيا والآخرةِ بمنّه وكرمه»(30). ويختمُ الإمامُ الغزّاليُّ كلامه عن الكبر بذكر بعض الأحاديث النّبويّة الشّريفة وما وردَ في الآثار عن انعكاسِ التّكبّر على سلوك المتكبّرين وطريقة مشيتهم، واختيالهم، وتبخترهم، فيقول: «بيان ذلِّ الاختيالِ وإظهارُ آثارِ الكبرِ في المشي وجرّ الثّيابِ: قالَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليه وسلّمَ: لا ينظرُ اللّهُ إلى رجلٍ يجرُّ إزارَهُ بطرًا. وقالَ صلّى اللّهُ عليه وسلّم: «بينما رجلٌ يتبختر في بردته، إذ أعجبته نفسُهُ، فخسفَ اللّهُ بِهِ الأرضَ، فهوَ يتجلجل فيها إلى يومِ القيامةِ. وقالَ صلّى اللّهُ عليه وسلّمَ: مَنْ جرَّ ثوبَهُ خيلاء، لا ينظرُ اللّهُ إليه يومَ القيامةِ. وقالَ زيدُ بن أسلمَ: دخلتُ على ابنِ عمرَ، فمرّ به عبد اللّه بن واقدٍ وعليه ثوبٌ جديدٌ، فسمعته يقولُ: أَي بني، ارفع إزارك، فَإِنِّي سمعتُ رسولَ اللّهِ صلّى اللّهُ عليه وسلّمَ يقولُ: لا ينظرُ اللّهُ إلى مَنْ جرَّ إزارَهُ خيلاء. وروي أَنَّ رسولَ اللّهِ صلّى اللّهُ عليه وسلّمَ بصقَ يومًا على كفّه، ووضعَ أصبعه عليه، وقال: يقول اللّه تعالى: ابن آدم، أتعجزني، وقد خلقتكَ من مثلِ هذه! حَتَّى إِذَا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين، وللأرضِ منكَ وئيد، جمعتَ ومنعتَ، حتّى إذا بلغتَ التّراقي، قلت أتصدّق! وأنى أوان الصّدقة. وقالَ صلّى اللّهُ عليه وسلّم: إذا مشيتْ أمّتي المطيطاء، وخدمتهم الفرسُ والرّومُ، سلّطَ اللّهُ بعضهم على بعضٍ. قال ابن الأعرابيّ: هِيَ مشيةٌ فيها اختيال. وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: مَنْ تعظّم في نفسِهِ، واختالَ في مشيته، لقي اللّهُ وَهُوَ عليه غضبان. الآثار: عن أبي بكر الهذليّ قال: بينما نحنُ مَعَ الحسنِ، إذ مرّ علينا ابنُ الأهتم يريدُ المقصورةَ، وعليه جباب خز، قد نضدَ بعضها فوق بعضٍ على ساقِهِ، وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي يتبختر، إذ نظرَ إليه الحسنُ، فَقَالَ: أُف، أف، شامخ بأنفِهِ، ثاني عطفه، مصعرّ خدّه ينظرُ في عطفيه، أي حميق أنتَ، تنظرُ في عطفيكَ في نعم غير مشكورةٍ، ولا مذكورةٍ، غير المأخوذ بأمر اللّهِ فيها، ولا المؤدّى حقّ اللّهِ منها. واللّه أن يمشي أحد طبيعته يتخلج تخلّق المجنون في كُلّ عضوٍ من أعضائِهِ للّه نعمة، وللشّيطانِ به لفتة. فسمعَ ابن الأهتم، فرجعَ يعتذرُ إليه. فقال: لا تعتذرُ إلىّ، وتُب إلى ربّك. أَمَا سمعتَ قولَ اللّهِ تعالى: }ولا تمش في الأرضِ مرحًا إِنَّكَ لن تخرقَ الأرضَ، ولن تبلغ الجبالَ طولًا{(الإسراء: 37)؟ ومرّ بالحسنِ شابٌّ عليه بزّة له حسنةٌ، فدعاه، فقال له: ابن آدم معجب بشبابه محبّ لشمائله، كَأَنَّ القبرُ قَدْ وارى بدنك، وَكَأَنَّكَ قد لاقيتَ عملك، ويحك! داوِ قلبكَ، فَإِنَّ حاجةَ اللّهِ إلى العبادِ صلاحُ قلوبهم. وروي أنّ عمرَ بن عبد العزيزِ حَجَّ قبل أن يستخلف؛ فنظر إليه طاووس وهو يختالُ في مشيته، فغمز جنبه بأصبعه، ثُمّ قَالَ: ليستْ هذه مشية مَنْ في بطنه خراء. فقال عمر كالمعتذر: يا عم، لقد ضرب كلّ عضو منّي على هذه المشية حَتَّى تعلّمتها. وَرَأَى محمّد بن واسع ولدَهُ يختالُ، فدعاه، وقالَ: أتدري مَنْ أنتَ؟ أَمَّا أمّك، فاشتريتها بمئتي درهم. وَأَمَّا أبوك، فَلَا أكثرَ اللّهُ فِي المسلمينَ مثله! وَرَأَى ابن عمر رجلًا يجرُّ إزاره، فَقَالَ: إِنَّ للشّيطانِ إخوانًا - كَرَّرَها مرّتينِ أو ثلاثًا - ويروى أَنَّ مطرف بن عبد اللّه بن الشّخير رأى المهلب وَهُوَ يتبختر في جبّة خز، فَقَالَ: يا عبدَ اللّهِ هذه مشية يبغضها اللّهُ ورسوله، فَقَالَ له المهلب: أَمَّا تعرفني؟ فَقَالَ: بلى أعرفك، أوّلُكَ نطفة مذرة، وآخرتك جيفة قذرة، وأنتَ بينَ ذلكَ تحملُ العذرة! فمضى المهلب، وترك مشيته تلكَ. وقال مجاهد في قولِهِ تعالى:}ثُمَّ ذهبَ إلى أهلِهِ يتمطّى{(القيامة: 33)، أي يتبختر ...»(31). ونختمُ الكلامَ عَنْ مطلبِ الثّورة المصريّة الخاصّ ب «الكرامة الإنسانيّة» بما ذكره هانس كينج في «المقاييس العالميّة للأخلاق» عن الكرامة الإنسانيّة. يُشَدِّدُ هانس كينج على أنّ كرامةَ الإنسان «مقدّسة»، ويقرُّ بحقّ كلّ إنسانٍ في أن يُعاملَ معاملةً إنسانيّةً، وينادي المسؤولينَ بالتزام القوانين وعدم انتهاك حرمة الكرامة الإنسانيّة. يقول هانس كينج: «هذَا يَعْنِي: أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَمْتَلِكُ كَرَامَةً مُقَدَّسَةً، لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا، أَوِ ٱلتَّفْرِيطُ فِيهَا، بِصَرْفِ ٱلنَّظَرِ عَنْ عُمْرِهِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ عِرْقِهِ، أَوْ لَوْنِ بَشَرَتِهِ، أَوْ قُدْرَتِهِ ٱلْجَسَدِيَّةِ أَوِ ٱلْفِكْرِيَّةِ، أَوْ لُغَتِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ رُؤْيَتِهِ ٱلسَّيَاسِيَّةِ، أَوْ أَصْلِهِ ٱلْقَوْمِيَّ أَوِ ٱلْٱجْتِمَاعِيَّ. يَلْتَزِمُ لِذٰلِكَ ٱلْجَمِيعُ - أَفْرَادًا وَدُوَلًا - بِٱحْتِرَامِ هذِهِ ٱلْكَرَامَةِ، وَضَمَانِ ٱلْحِمَايَةِ ٱلْفَعَّالَةِ لَهَا. أَيْضًا فِي ٱلْٱقْتِصَادِ، وَٱلسَّيَاسَةِ، وَٱلْإِعْلَامِ، وَفِي ٱلْمَعَاهِدِ ٱلْبَحْثِيَّةِ، وَٱلْمُؤَسَّسَاتِ ٱلصَّنَاعِيَّةِ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ٱلْإِنْسَانُ دَائِمًا شَخْصًا قَانُونِيًّا، وَهَدَفًا، وَلَيْسَ أَبَدًا مُجَرَّدَ وَسِيلَةٍ، وَلَيْسَ أَبَدًا سِلْعَةً لِلْمُتَاجَرَةِ وَٱلتَّصْنِيعِ. لَا أَحَدَ يَقِفُ فِي «مَا وَرَاءَ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرَّ»: لَا إِنْسَانَ، وَلَا طَبَقَةَ ٱجْتِمَاعِيَّةً، وَلَا جَمَاعَةَ مَصَالِحَ قَوِيَّةَ ٱلنُّفُوذِ، وَلَا تَحَالُفَ قَوِيًّا، وَلَا جِهَازَ شُرْطَةٍ، وَلَا جَيْشَ، وَلَا دَوْلَةَ. بِٱلْعَكْسِ: يَلْتَزِمُ كُلُّ إِنْسَانٍ، بِٱعْتِبَارِهِ كَائِنًا مُزَوَّدًا بِعَقْلٍ وَضَمِيرٍ، أَنْ يَتَصَرَّفَ بِطَرِيقَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ، وَأَلَّا يَتَصَرَّفَ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ إِنْسَانِيَّةٍ، وَأَنْ يَفْعَلَ ٱلْخَيْرَ، وَيَدَعَ ٱلشَّرَّ!».
============================================================== الهوامش (1) انظر: سامي هابيل، الموسوعة العربيّة، هيئة الموسوعة العربيّة، دمشق 2004م، المجلّد التّاسع، ص306. (2) انظر: المرجع نفسه، ص 306. (3) انظر: الإيمان الكاثوليكيّ، نصوص تعليميّة صادرة عن السّلطة الكنسيّة، قدّم لها الأب جرڤيه دو ميج اليسوعيّ، نقل أهمّها إلى العربيّة الأب صبحي حمويّ اليسوعيّ، دار المشرق، بيروت 1999م، ص248-251. (4) انظر: هانس كينج، لماذا مقاييس عالميّة للأخلاق، عيد للإعلام، زيورخ 2010م، ص46-49. (5) انظر: هرُدوت يتحدّث عن مصر، ترجمة محمّد صقر خفاجة، تقديم وشرح أحمد بدوي، دار القلم، القاهرة 1966م، ص118 وما بعدها. (6) انظر: Heinrich Eduard Jacob, Sechstausend Jahre Brot, Rowohlt Verlag Hamburg, 1954, S. 44: “Doch das Volk, von dem Herodot erzählt, daß es alles anders macht als die übrigen Sterblichen, erwarb sich ein sehr großes Verdienst, indem es mit seinem Mehl anders umging. Während alle Menschen sonst Angst vor dem Faulen von Speisen empfanden, stellten gerade die Ägypter ihren Teig so auf, daß er faulen mußte, und beobachteten mit Vergnügen den Vorgang, der sich jetzt abspielte. Es war, kurz gesagt, der Vorgang der Gärung”. (7) انظر: ميشال حايك، موسوعة النّباتات الطّبّيّة، المعجم الأوّل، مكتبة لبنان، بيروت 1992م، ص187-191. (8) انظر: ابن وحشيّة، كتاب الفلاحة النّبطيّة، الجزء الأوّل، ص584. (9) انظر: ابن الحدّاد، الجوهر النّفيس في سياسة الرّئيس، ص65. (10) انظر: الماوردي، أدب الدّنيا والدّين، ص139. (11) انظر: المرجع نفسه، ص139-140. (12) انظر: المرجع نفسه، ص441-442. (13) انظر: المرجع نفسه، ص445. (14) انظر: المرجع نفسه، ص444. (15) انظر: المرجع نفسه، ص243. (16) انظر: إبراهيم بن محمّد البيهقيّ، المحاسن والمساوئ، ص393. (17) انظر: الطّرطوشيّ، سراج الملوك، ص177. (18) انظر: المرجع نفسه، ص177. (19) انظر: المرجع نفسه، ص181. (20) انظر: المرجع نفسه، ص193. (21) انظر: المرجع نفسه، ص65. (22) انظر: المرجع نفسه، ص72-73. (23) انظر: أبو الحسن علي البصريّ الماوردي، أدب الدّنيا والدّين، تحقيق محمّد صبّاح، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت 1987م، ص238. (24) انظر: الماوردي، أدب الدّنيا والدّين، ص239. (25) انظر: الماورديّ، أدب الدّنيا والدّين، ص239-241. (26) انظر: الطّرطوشيّ، سراج الملوك، ص180. (27) انظر: ابن حزم، الأخلاق والسّير، ص50 وما بعدها. (28) انظر: الغزّاليّ، إحياء علوم الدّين، المكتبة التّجاريّة الكبرى، القاهرة، بدون تاريخ، الجزء الثّالث، ص336 وما بعدها. (29) انظر: المرجع نفسه، ص336 وما بعدها. (30) انظر: المرجع نفسه، ص336 وما بعدها.