عرف عصرنا لونًا من رأس المال استحدثه التطور الصناعي والتجاري في العالم، وذلك ما عرف باسم "الأسهم والسندات" وهما من الأوراق المالية التي تقوم عليهما المعاملات التجارية في أسواق خاصة بها وهي التي تسمى "بورصات الأوراق المالية" وهذه الأوراق أو الأسهم والسندات هي: ما يطلق عليه علماء المالية اصطلاح "القيم المنقولة" ويأخذون ضريبة على إيرادها المتجدد تسمى "ضريبة إيراد القيم المنقولة "كما نادى بعضهم بفرض ضريبة على الأسهم نفسها بوصفها ضريبة على رأس المال (انظر: الضرائب على رأس المال ص 18 من كتاب "موارد الدولة" للدكتور سعد ماهر حمزة). الفرق بين الأسهم والسندات والأسهم حقوق ملكية جزئية لرأس مال كبير للشركات المساهمة أو التوصية بالأسهم،.وكل سهم جزء من أجزاء متساوية لرأس المال. والسند تعهد مكتوب من "البنك" أو الشركة أو الحكومة لحامله بسداد مبلغ مقدر من قرض في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة. وبين السهم والسند فروق: فالسهم يمثل جزءًا من رأس مال الشركة أو البنك، والسند يمثل جزءًا من قرض على الشركة أو البنك أو الحكومة. والسهم ينتج جزءا من ربح الشركة أو البنك، يزيد أو ينقص تبعًا لنجاح الشركة أو البنك، وزيادة ربحهما أو نقصه، ويتحمل قسطه من الخسارة، أما السند فينتج فائدة محدودة عن القرض الذي يمثله لا تزيد ولا تنقص. وحامل السند يعتبر مقرضًا أو دائنًا للشركة أو البنك أو الحكومة، أما حامل السهم فيعتبر مالكًا لجزء من الشركة أو البنك بقيمة السهم. وللسند وقت محدد لسداده، أما السهم فلا يسدد إلا عند تصفية الشركة. ولكل من السهم والسند قيمة اسمية وهى قيمته المقدرة عند إصداره، وقيمة سوقية تتحدد في سوق الأوراق المالية، وكل منهما قابل للتعامل والتداول بين الأفراد كسائر السلع، مما يجعل بعض الناس يتخذ منهما وسيلة للاتجار بالبيع والشراء ابتغاء الربح من ورائهما، وتتأثر الأسعار في السوق المذكورة تبعًا لزيادة العرض والطلب، كما تتأثر بالأحوال السياسية للبلد ومركزه المالي ونجاح الشركة ومقدار الربح الحقيقي للأسهم والفائدة الحقيقية للسندات، بل تتأثر بالأحوال العالمية من حرب وسلام (انظر: المعاملات الحديثة وأحكامها ص 68 - 69).... الخ. ومما ذكرنا يتبين أن إصدار الأسهم وملكيتها وبيعها وشراءها والتعامل بها حلال لا حرج فيه، ما لم يكن عمل الشركة التي تكونت من مجمع الأسهم مشتملا على محظور كصناعة الخمر وبيعها والتجارة فيها مثلا، أو كانت تتعامل بالفوائد الربوية إقراضا، أو استقراضا أو نحو ذلك. أما السندات فشأنها غير الأسهم، لاشتمالها على الفوائد الربوية المحرمة. ومهما يكن الحكم في هذه السندات فإنها رأس مال مملوك لصاحبه كالأسهم، فكيف يزكى كل منهما؟ كيف تزكى أسهم الشركات المختلفة ؟ نجد هنا اتجاهين لمن كتب من العلماء المعاصرين عن زكاة الأسهم والسندات وقليل من كتب فيها. الاتجاه الأول: فالاتجاه الأول ينظر إلى هذه الأسهم والسندات تبعًا لنوع الشركة التي أصدرتها: أهي صناعية أم تجارية أم مزيج منهما؟ فلا يعطى السهم حكمًا إلا بعد معرفة الشركة التي يمثل جزءًا من رأس مالها،وبناء عليه يحكم بتزكيته أو بعدمها ؛ يمثل هذا الاتجاه الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه "المعاملات الحديثة وأحكامها" حيث يقول: "قد لا يعرف كثير ممن يملكون أسهم الشركات حكم زكاة هذه الأسهم، وقد يعتقد بعضهم أنها لا تجب زكاتها، وهذا خطأ، وقد يعتقد البعض وجوب الزكاة في أسهم الشركات مطلقًا، وهذا خطأ أيضًا، وإنما الواجب النظر في هذه الأسهم تبعا لنوع الشركة التي أصدرتها. "فإن كانت الشركة المساهمة شركة صناعية محضة أي بحيث لا تمارس عملا تجاريًا كشركات الصباغة، وشركات التبريد، وشركات الفنادق، وشركات الإعلانات، وشركات "الأوتوبيس" وشركات النقل البحري والبري، وشركات الترام، وشركات الطيران، فلا تجب الزكاة في أسهمها ؛ لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والإدارات والمباني وما يلزم الأعمال التي تمارسها، ولكن ما ينتج ربحًا لهذه الأسهم يضم إلى أموال المساهمين ويزكى معها زكاة المال (أي ما بقي منه إلى الحول وبلغ مع المال الآخر نصابًا). "وإن كانت الشركة المساهمة شركةً تجارية محصنة تشترى البضائع وتبيعها بدون إجراء عمليات تحويلية على هذه البضائع: كشركة بيع المصنوعات المصرية وشركة التجارة الخارجية وشركات الاستيراد أو كانت شركة صناعية تجارية، وهي الشركات التي تستخرج المواد الخام أو تشتريها، ثم تجرى عليها عمليات تحويلية، ثم تتجر فيها، مثل: شركات البترول وشركات الغزل والنسيج للقطن أو الحرير، وشركة الحديد والصلب، والشركات الكيماوية، فتجب الزكاة في أسهم هذه الشركات، فمدار وجوب الزكاة في أسهم الشركات: أن تكون الشركة تمارس عملاً تجاريًا، سواء معه صناعة أم لا، وتقدر الأسهم بقيمتها الحالية، مع خصم. (الخصم: كلمة مولدة تستعمل في المحاسبة -وخاصة في مصر- بمعنى الحطيطة والاقتطاع، وفي بعض البلاد العربية يستعمل بدلا عنها كلمة "الحسم") قيمة المباني والآلات والأدوات المملوكة لهذه الشركات، فقد تمثل هذه الآلات والمباني ربع رأس المال أو أكثر أو أقل، فيخصم من قيمة السهم ما يقابل ذلك -أي الربع أو أكثر أو أقل- وتجب الزكاة في الباقى، ويمكن معرفة صافي قيمة المباني والآلات والأدوات بالرجوع إلى ميزانية الشركة وهي تنشر كل عام في الصحف" (المعاملات الحديثة ص 73 - 74). هذا ما ذكره الشيخ عن زكاة الأسهم وهو مبني على الرأي المشهور: أن المصانع والعمائر الاستغلالية ورؤوس الأموال المغلة -غير التجارية- على وجه العموم كالفنادق والسيارات والترامات والطائرات ونحوها، ليس فيها كلها زكاة، لا في رأس المال والربح معا كمال التجارة، ولا في الغلة والإيراد، كالخارج من الأرض الزراعية (إلا إذا بقي منها شئ وحال عليه الحول) وعلى هذا الأساس فرق بين الشركات الصناعية (ويعني بها التي لا تمارس عملاً تجاريًّا) وبين غيرها من الشركات، فأعفى أسهم الأولى من الزكاة وأوجب في الأخرى، فإذا كان هناك شخصان يملك كل منهما ألف دينار، اشترى أحدهما بألفه مائتي سهم من شركة للاستيراد والتصدير مثلا، واشترى الثاني بمبلغه مائتي سهم في شركة لطباعة الكتب أو الصحف، فإن على الأول أن يخرج الزكاة عن أسهمه المائتين، وما جلبت إليه من ربح أيضًا في رأس كل حول مطروحًا من ذلك قيمة الأثاث ونحوه من الأصول الثابتة كما هو الشأن في مال التجارة، وأما الثاني فليس عليه زكاة عن أسهمه المائتين ؛ لأنها موضوعة في أجهزة وآلات ومبان ونحوها، ولا زكاة فيما يأتي من ربح، إلا إذا بقي إلى رأس الحول وبلغ نصابًا بنفسه أو بغيره، فإذا أنفقه قبل الحول فلا شيء عليه. وبهذا يمكن أن تمضي أعوام على مثل هذا الشخص دون أن تجب عليه زكاة، لا في أسهمه ولا في أرباحها بخلاف الشخص الأول، فالزكاة واجبة عليه لزومًا في كل عام، عن أسهمه وعن أرباحها معًا، وهي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين. وقد بينا في الفصل الثامن في حديثنا عن زكاة "المستغلات" من العمارات والمصانع ونحوها: أن فيها -خلاف الرأي التقليدي المشهور- آراء ثلاثة: 1 - الرأي الذي يعتبرها مالا كمال التجارة ويقول بتقويمها كل حول وإخراج ربع عُشرها. 2- الرأي الذي يقول بأخذ الزكاة من غلتها وربحها باعتبارها مالا مستفادًا فيزكي زكاة النقود. 3- الرأي الذي يقيسها على الأرض الزراعية، ويوجب فيها العشر أو نصفه من صافي الغلة والأرباح. وقد رجحنا هناك هذا الرأي الأخير. فالذي أراه هنا... أن التفرقة بين الشركات الصناعية أو شبه الصناعية، وبين الشركات التجارية، أو شبه التجارية -بحيث تعفى الأولى من الزكاة، وتجب في الأخرى- تفرقة ليس لها أساس ثابت من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح. ولا وجه لأخذ الزكاة عن الأسهم إذا كانت في شركة تجارية، وإسقاطها عنها إذا كانت في شركة صناعية، والأسهم هنا وهناك رأس مال نام يدر ربحًا سنويًا متجددًا، وقد يكون ربح الثانية أعظم وأوفر من الأولى. فإذا أردنا أن نأخذ بهذا الاتجاه وهو النظر إلى الأسهم تبعا لنوع الشركة التجارية التي يكون السهم جزءا من رأس مالها، فإني أختار هنا أن تعامل الشركات -أيا كان نوعها- معاملة الأفراد، إذا ملكوا ما تملكه الشركات من مصانع أو متاجر، فالشركات الصناعية أو شبه الصناعية، وأعني بها تلك التي تضع رأس مالها أو جله في أجهزة وآلات ومبان وأدوات، كالمطابع والمصانع، والفنادق، وسيارات النقل والأجرة ونحوها، هذه الشركات لا تؤخذ الزكاة من أسهمها بل من إيرادها وربحها الصافي بمقدار العشر كما رجحناه في زكاة المستغلات، وكما نعامل المصانع والفنادق ونحوها لو كانت ملكًا للأفراد على ما اخترناه من قبل. أما الشركات التجارية وهي التي جل رأس مالها في منقولات تتاجر فيها ولا تبقى عينها، فهذه تؤخذ الزكاة بمقدار ربع العشر (2.5 في المائة ) بعد طرح قيمة الأصول الثابتة من الأسهم، كما ذكرنا في عروض التجارة: أن الزكاة في رأس المال المتداول المتحرك، وهذه المعاملة للشركات التجارية هي نفس المعاملة التي تعامل بها المحلات التجارية إذا كانت ملكًا للأفراد ولا فرق. زكاة السندات أما السندات فيقول الشيخ: "السند صك بمديونية البنك أو الشركة أو الحكومة لحامله بمبلغ محدد بفائدة معينة فمالك السند مالك دين مؤجل، ولكنه يصير حالا عند نهاية الأجل فتجب زكاته حينئذ لمدة عام إن مضى على ملكيته عام أو أكثر، وهذا مذهب مالك وأبى يوسف. أما إذا لم يحل أجله: فلا يجب إخراج زكاته، لأنه دين مؤجل، وكذلك إذا لم يمض على ملكيته عام، لاشتراط مرور الحول في وجوب الزكاة". وقد بينا من قبل (في الفصل الأول من هذا الباب: شرط تمام الملك) أن القول الصحيح في الدين المرجو -وهو ما كان على مقر موسر- وجوب تزكيته كل عام وهو قول جمهور الفقهاء واختيار أبى عبيد وغيره، لأن الدين المرجو بمنزلة ما في يده. وهذا القول يتعين الأخذ به بالنظر للسندات خاصة، لأنها ديون لها خصوصية تميزها عن الديون التي عرفها الفقهاء، لأنها تنمى وتجلب للدائن فائدة، وإن كانت محظورة (مما يجب التنبيه عليه هنا: أن على صاحب السند أن يتصدق بفائدة السند كلها، لأنها مال حرام لا يجوز أن يستفيد منه لنفسه وأهله، وإنما مصرفه الفقراء والمصلحة العامة للمسلمين، ولو كان في بناء المساجد وغيرها، فإن هذا المال حرام على صاحب السند، حلال لجهات الخير، وعليه أن يزكى قيمة أصل السند فقط) فإن حظر هذه الفائدة لا يكون سببًا لإعفاء صاحب السند من الزكاة، لأن ارتكاب الحرام لا يعطى صاحبه مزية على غيره ؛ ولهذا أجمع الفقهاء على وجوب الزكاة في الحلي المحرم، على حين اختلفوا في المباح. الاتجاه الثاني - اعتبار الأسهم عروض تجارة وإلى جانب الاتجاه الذي ذكرناه نجد اتجاها آخر يخالف الاتجاه الأول إنه لا ينظر إلى الأسهم تبعا لنوع شركاتها، فيفرق بين أسهم في شركة وأسهم في أخرى، بل ينظر إليها كلها نظرة واحدة، ويعطيها حكما واحدا بغض النظر عن الشركة التي أصدرتها. فيرى الأساتذة: أبو زهرة وعبد الرحمن حسن وخلاف: أن الأسهم والسندات أموال قد اتخذت للاتجار، فإن صاحبها يتجر فيها بالبيع والشراء، ويكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته، وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية، فهي بهذا الاعتبار من عروض التجارة، فكان من الحق أن تكون وعاء للزكاة ككل أموال التجارة ويلاحظ فيها ما يلاحظ في عروض التجارة" (حلقة الدراسات الاجتماعية - الدورة الثالثة - ص 242، ونلاحظ هنا أن الأساتذة عاملوا الأسهم والسندات معاملة واحدة ولم يفرقوا بينهما باعتبار السند دينا مؤجلاً - كما فعل مؤلف كتاب "المعاملات الحديثة" وهذه المعاملة الواحدة لهما في إيجاب الزكاة هي الاتجاه الصحيح، وقد ذكروا اعتراضًا أو شبهة لبعض الناس هنا وأجابوا عنها قالوا: وقد يقول قائل إن السندات ديون وهي تنقل من دائن إلى دائن فهي بهذا بيع الدين لغير من عليه، وذلك غير جائز عند كثير من الفقهاء والكسب بهذا لا يخلو من خبث. "ونحن نقول في الجواب عن ذلك: إن هذه السندات صارت سلعة فعلا، فلو أعفيناها من الزكاة لما يلابسها من محرم، لأقبل الناس على شرائها ولأدى ذلك إلى الإمعان في التعامل بها فيكون ذلك مشجعا على المحرم ولا يكون قطعا له ولأن صرف الكسب الخبيث في الصدقات أمر غير ممنوع بل إنه يصرف وإن لم يعرف صاحبه الذي أخذ منه بغير حقه، كما هي قاعدة الفقهاء عامة" أ.ه). ومعنى هذا: أن يؤخذ منها في آخر كل حول (2.5 في المائة) من قيمة الأسهم حسب تقديرها في الأسواق -مضافا إليها الربح- بشرط أن يبلغ الأصل والربح نصابًا، أو يكملا -مع مال عنده- نصابًا كما أنه يجب أن يعفى مقدار الحاجات الأصلية، وبتعبير آخر: الحد الأدنى للمعيشة، بالنظر لصاحب الأسهم الذي ليس له مورد رزق غيرها كأرملة أو يتيم لا معاش لهما، ويزكى باقي الربح مع رأس المال، ولعل هذا الاتجاه والإفتاء بمقتضاه أوفق بالنظر إلى الأفراد من الاتجاه الأول، فكل مساهم يعرف مقدار أسهمه، ويعرف كل عام أرباحها، فيستطيع أن يزكيها بسهولة ؛ بخلاف الاتجاه الأول وما فيه من تفرقة بين أسهم في شركة وأسهم في أخرى فبعضها تؤخذ الزكاة من إيرادها، وبعضها تؤخذ زكاته من الأسهم نفسها حسب قيمتها، مضافًا إليها الربح، وفي هذا شيء من التعقيد بالنظر إلى الفرد العادي، لهذا قلنا: إن الأولى الأخذ بالاتجاه الثاني للأفراد، فهو أيسر في الحساب، بخلاف ما إذا قامت دولة مسلمة وأرادت جمع الزكاة من الشركات فقد أرى الاتجاه الأول أولى وأرجح والله أعلم. هل تؤخذ الزكاة من إيراد الشركة مع الأسهم؟ إذا اعتبرنا هذه الأسهم رأس مال تجاريًّا وأخذنا منه زكاة التجارة، فهل يجوز أن نأخذ من الشركات التي يتكون رأس مالها من هذه الأسهم زكاة على إيرادها؟ ذهب الأساتذة: أبو زهرة وزميلاه إلى أن ما يؤخذ من الأسهم والسندات لمن يتجر فيها غير ما يؤخذ من الشركات نفسها، لأن الشركات التي تؤخذ منها الزكاة تكون باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها. "أما الأسهم المُتَّجر فيها فهي أموال نامية باعتبارها عروض تجارة" (حلقة الدراسات الاجتماعية السابق ذكرها). ازدواج ممنوع وبناء على هذا الرأي: إذا كان شخص له -في شركة صناعية مثلا- أسهم قيمتها ألف دينار، درت له في آخر الحول ربحًا صافيًا يقدر ب(200) مائتي دينار، فإن عليه أن يخرج عن مجموع ال 1200 ربع العشر أي (5و2 في المائة ) وهو (30) ثلاثون دينارًا. فإذا أخذت الزكاة من صافي أرباح الشركة بمقدار العشر، -كما يقول أصحاب هذا الرأي- تكون هذه ال (1000) دينار وأرباحها قد زكيت مرتين، أي أننا عاملنا صاحب الأسهم مرة بوصفه تاجرًا، فأخذنا من أسهمه وربحها جميعا ربع العشر، ثم مرة أخرى بوصفه منتجًا، فأخذنا من ربح أسهمه -وبعبارة أخرى: من إيراد الشركة- العُشر، وهذا هو الازدواج أو الثني الممنوع شرعًا. والراجح أن نكتفي بإحدى الزكاتين: إما الزكاة عن قيمة الأسهم مع ربحها بمقدار ربع العشر، وإما الزكاة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من الصافي منعًا للثني. التجارة في الأنعام السائمة وكيف تزكى؟ عرفنا في فصل "زكاة الثروة الحيوانية" أن الزكاة تجب في الأنعام السائمة إذا بلغت نصابًا، وهذا ثابت بالاجماع، ولكن ما الحكم إذا اشترى إنسان أنعامًا للتجارة وأسامها، فرعت في كلأ مباح أكثر العام، فحال الحول، والسوم ونية التجارة موجودان، فهل تزكى زكاة السائمة أم زكاة التجارة ؟ في ذلك خلاف ذكره ابن قدامة في "المغنى" (انظر المغنى: 3 / 34 - 35) قال مالك والشافعي في الجديد: يزكيها زكاة السائمة؛ لأنها أقوى، لانعقاد الإجماع عليه، واختصاصها بالعين، فكانت أولى. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد: يزكيها زكاة التجارة ؛ لأنها أكثر حظًا للفقراء والمستحقين، لأنها تجب فيما زاد عن النصاب بحسابه، بخلاف السائمة، فقد عفا الشارع عما بين الأنصبة المقدرة فيها، فما بين (40) من الغنم و(120) لا زكاة فبه، وما بين (25) من الإبل و(36) منها لا شئ فيه، وهكذا، فلو زكيناه زكاة السائمة لضاع على الفقراء والمستحقين هذا الزائد عن النصاب المعفو عنه، مع أنه -بالتجارة- قد وجد سبب وجوب زكاته، فيجب كما لو لم يبلغ بالسوم نصابًا، وبلغه بالتجارة، غليت زكاة التجارة بلا نزاع. وإن سبق وقت وجوب زكاة السوم وقت وجوب زكاة التجارة -كمن ملك (40) شاة قيمتها دون نصاب التجارة، ثم سمنت أو ارتفع السعر، فبلغت قيمتها في نصف الحول نصاب التجارة- فقال بعض العلماء: يتأخر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة، لأنها أنفع للفقراء. وقال ابن قدامة: يحتمل أن تجب زكاة العين (السائمة) عند تمام حولها، لوجود مقتضيها من غير معارض، فإذا تم حول التجارة وجبت زكاة الزائد عن النصاب، لوجوب مقتضيها، لأن هذا مال للتجارة وحال عليه الحول وهو نصاب. "ولا يمكن إيجاب الزكاتين بكمالهما، لأنه يفضي إلى إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد، فلم يجز لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا ثني في الصدقة" (رواه أبو عبيد في الأموال ص 275، ورواه ابن أبى شيبة في المصنف: 3 /218 - طبع حيدر آباد الدكن) ،والثني: أن تعيد الشيء مرتين. وإن وجد نصاب السوم دون نصاب التجارة -مثل (40) شاة حال عليها الحول وهي لا تبلغ قيمتها نصاب التجارة- وجبت فيها زكاة السائمة بغير خلاف لأنه لم يوجد لها معارض فوجبت، كما لو لم تكن للتجارة. قال في المغنى: وإن اشترى نخلاً أو أرضًا للتجارة فزرعت الأرض وأثمرت النخل، فاتفق حولاهما (أي التجارة والزرع) -بأن يكون موعد الصلاح في الثمرة واشتداد الحب عند تمام الحول وكانت قيمة الأرض والنخل بمفردهما نصابا للتجارة- فإنه يزكى الثمرة والحب زكاة العشر، ويزكى الأصل زكاة القيمة (التجارة) وهذا قول أبى حنيفة وأبى ثور. "وقال القاضي وأصحابه (من الحنابلة): يزكى الجميع (يعنى الأرض والزرع) زكاة القيمة، وذكر أن أحمد أومأ إليه، لأنه مال تجارة فتجب فيه زكاة التجارة كالسائمة. واحتج صاحب المغنى للقول الأول بأن زكاة العشر أحظ للفقراء ؛ -فإن العُشر أحظ من ربع العُشر- فيجب تقديم ما فيه الحظ، ولأن الزيادة على ربع العُشر قد وُجِد سبب وجوبها، فتجب. قال :."وفارق السائمة المعَّدة للتجارة، فإن زكاة السوم أقل من زكاة التجارة" (المغنى: 3 / 35 - 36). وهذه الحجة التي ذكرها صاحب المغنى -رحمة الله- غير ناهضة، فإن تقديم ما فيه حظ الفقراء، غير معتبر إذا كان فيه جور على أرباب المال، ونهج الشرع الإسلامي أن يرعى هؤلاء وهؤلاء. ومن العدل الذي جاء به هذا النهج: أن جعل الواجب العُشر إذا أخذ الزكاة من الغلة والإيراد -لا من الأصل- كالحبوب والثمار، وجعل الواجب ربع العُشر إذا أخذ الزكاة من الأصل ونمائه -أي من رأس المال وغلته- كما في مال التجارة، أما أن يجمع بين الأمرين فلم يعرف ذلك في أحكامه، ولا بد من تغليب إحدى الزكاتين على الأخرى، منعا للازدواج الذي نفاه الحديث الشريف: "لا ثنى في الصدقة" وأخذ به كافة الفقهاء، وحتى لا تجب الزكاة أكثر من مرة في مال واحد في حول واحد بسبب واحد. ولا يقال: إن هنا سببين اجتمعا: التجارة والزراعة ؛ لأن أحد السببين مقصود بالأصالة والثاني تبع له فيندرج فيه، فالذي يتاجر في شراء الأراضي الزراعية وبيعها ليست الزراعة مقصودة له وإنما جاءت تبعا، وينبغي أن يغلب قصد التجارة على غيره. ولذا قال صاحب "شرح الغاية" من الحنابلة أيضًا: ومن ملك نصاب سائمة لتجارة فعليه زكاة تجارة فقط (ولو سبق حول السوم بلوغ قيمة التجارة نصابًا) لأن وصف التجارة يزيل سبب زكاة السوم وهو الاقتناء لطلب النماء. وقال فيمن ملك أرضًا لتجارة فزرعها ببذر تجارة: عليه زكاة التجارة أو ملك نخلاً للتجارة فأثمر، فعليه زكاة التجارة فقط في كل ذلك، ولو سبق وجوب الزكاة في الزرع والثمر حول التجارة، قال: لأن الزرع والثمر جزء مما خرجا منه، فوجب أن يقوما مع الأصل كالسخال (أولاد الماشية) والربح المتجدد، إلا أن لا تبلغ قيمة ذلك المذكور من سائمة، وأرض مع زرع، ونخل مع ثمر نصابا -بأن نقصت عن عشرين مثقالاً ذهبا وعن مائتي درهم فضة- فيزكى ذلك لغير تجارة فتخرج من السائمة زكاتها، ومن الزرع والثمر ما وجب فيه، لئلا تسقط الزكاة بالكلية (مطالب أولى النهى: 2 / 100 - 101). ونقل ابن حزم عن الحسن بن يحيى: أن ما زرع للتجارة يزكى زكاة التجارة لا غير (المحلى: 5 / 249). وقال الكاساني في "البدائع" قال أصحابنا (يعني الحنفية) فيمن اشترى أرض عُشر للتجارة، أو اشترى أرض خراج للتجارة: إن فيها العُشر أو الخراج، ولا تجب زكاة التجارة مع أحدهما ؛ هو المشهور عنهم. وروى عن محمد أنه يجب العشر والزكاة (يعني زكاة التجارة) أو الخراج والزكاة، ووجه هذه الرواية: أن زكاة التجارة تجب في الأرض، والعُشر يجب في الزرع، وهما مالان مختلفان، فلم يجتمع الحقان في مال واحد. ووجه الرواية المشهورة: أن سبب الوجوب في الكل واحد، وهو الأرض، وحقوق الله تعالى المتعلقة بالأموال النامية لا يجب فيها حقان منها بسبب مال واحد، كزكاة السائمة مع التجارة (بدائع الصنائع: 2 / 57). والذي أرجحه هو تغليب إحدى الزكاتين على الأخرى، بحيث تجب زكاة واحدة منعا للثني والازدواج، كما هو المشهور عند الحنفية وغيرهم، أما أي الزكاتين أرجح، فذلك متروك لخيار المزكى، أو لولى الأمر، فإن لكل من القولين وجهه، القول بأخذ العشر أو نصفه من الثمرة، أو القول بأخذ ربع العُشر من الأصل والثمرة معًا. والذي ينبغي أن نسجله هنا: أن جمهرة الفقهاء من المسلمين، بل الفقهاء كافة، لا يرون ازدواج الزكاة في المال الواحد، بسبب واحد، وقد يخالف بعضهم في بعض الصور، لوجود سببين لوجوب الزكاة في نظره، كما في رواية محمد صاحب أبى حنيفة. وبهذا سبق التشريع الإسلامي -بقرون عديدة- ما يعرف اليوم في عالم الفكر والتشريع المالي والضريبي باسم "منع ازدواج الضريبة".