"التنظيم والإدارة" يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف حتى نهاية العام    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    التعليم: تدريب مجاني لمعلمي الإنجليزية بالتنسيق مع السفارة الأمريكية -(مستند)    مدبولي يترأس مائدة بعنوان الإصلاحات الهيكلية لتعزيز تنافسية القطاع الخاص    بعدما حددت الثلاثاء المقبل.. إيران ترجئ تشييع جنازات قادتها العسكريين    قصة الصراع في مضيق هرمز منذ الاحتلال البرتغالي وحتى الحرس الثوري الإيراني    إيران تمتلك ورقة خطيرة.. مصطفى بكري: إسرائيل في حالة انهيار والملايين ينتظرون الموت بالملاجئ    تشكيل بايرن ميونخ وأوكلاند سيتي في افتتاح مبارياتهما بكأس العالم للأندية 2025    طلاب الأدبي بالشهادة الثانوية يستأنفون امتحاناتهم بمادة اللغة الإنجليزية    قتل أسرة كاملة حرقًا.. الإعدام شنقًا لعامل في الإسكندرية -صور    العثور على جثة سوداني أمام "المفوضية" بأكتوبر    25 صورة من جنازة نجل الموسيقار صلاح الشرنوبي    حالة طوارئ، روتانا تطرح أحدث ألبومات نجوى كرم    رامي جمال يوجه رسالة لجمهور جدة بعد حفله الأخير    10 سلوكيات خاطئة ابتعدى عنهم مع أطفالك حفاظا على صحتهم    التنظيم والإدارة يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف بالجهاز الإداري للدولة    لقب وحيد و9 محطات تدريبية.. ماذا قدم جاتوزو قبل تولي تدريب إيطاليا؟    رابطة الدوري الإنجليزي تعلن موعد الكشف عن جدول مباريات موسم 2025-2026    محافظ المنيا يؤكد: خطة ترشيد الكهرباء مسئولية وطنية تتطلب تعاون الجميع    إعلام إسرائيلى: صفارات الإنذار تدوى فى الجولان والجليل ومنطقة حيفا    دعاء دخول امتحان الثانوية العامة لراحة القلب وتيسير الإجابة    رئيس جامعة المنوفية يرأس لجنة مقابلات لتجديد مناصب مديري العموم وأمناء الكليات    محافظ الشرقية يستقبل أسقف ميت غمر ودقادوس وبلاد الشرقية والوفد الكنسي المرافق    مدبولى: مخطط طرح أول المطارات المصرية للإدارة والتشغيل قبل نهاية العام الجاري    الجريدة الرسمية تنشر قرارا جديدا ل رئيس الوزراء (تفاصيل)    ليس لأبراج تل أبيب.. مقطع مزيف للقصف الصاروخي في إسرائيل ينتشر على مواقع التواصل    استمرار أعمال توريد القمح بتوريد 508 آلاف طن قمح منذ بدء موسم 2025 بالمنيا    إيران تنفي إرسال أيّ طلب إلى قبرص لنقل «رسائل» إلى إسرائيل    رئيس الوزراء العراقي: العدوان الإسرائيلي على إيران يمثل تهديدا للمنطقة    رئيس مجلس الدولة يفتتح فرع توثيق مجمع المحاكم بالأقصر    احذر عند التعامل معهم.. أكثر 3 أبراج غضبًا    لطيفة تؤجل طرح ألبومها الجديد بعد صدمة وفاة شقيقها نور الدين    مكتبة الإسكندرية تطلق أحدث جوائزها للمبدعين الشباب    محافظ الغربية يجرى جولة مفاجئة داخل مبنى الوحدة المحلية بسبرباى بمركز طنطا    مانشستر يونايتد يواجه ضربة بسبب تفضيل جيوكرس لأرسنال    طب قصر العيني تُحقق انجازًا في الكشف المبكر عن مضاعفات فقر الدم المنجلي لدى الأطفال    قوافل الأحوال المدنية تواصل تقديم خدماتها للمواطنين بالمحافظات    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    5 جوائز ل قرية قرب الجنة بمسابقة الفيلم النمساوي بڤيينا    قرارات إزالة لمخالفات بناء وتعديات بالقاهرة وبورسعيد والساحل الشمالي    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    النواب يحذر من تنظيم مسيرات أو التوجه للمناطق الحدودية المصرية دون التنسيق المسبق    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    حسين لبيب يعود إلى نادي الزمالك لأول مرة بعد الوعكة الصحية    "برغوث بلا أنياب".. ميسي يفشل في فك عقدة الأهلي.. ما القصة؟    جامعة القاهرة تنظم أول ورشة عمل لمنسقي الذكاء الاصطناعى بكليات الجامعة ومعاهدها    محافظ أسيوط يشهد فعاليات اليوم العلمي الأول للتوعية بمرض الديمنشيا    تحرير 146 مخالفة للمحلات لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    «خلافات أسرية».. «الداخلية» تكشف ملابسات مشاجرة بالأسلحة البيضاء في البحيرة    أخر موعد للتقديم لرياض الأطفال بمحافظة القاهرة.. تفاصيل    التعليم العالى: المؤتمر ال17 لمعهد البحوث الطبية يناقش أحدث القضايا لدعم صحة المجتمع    أولياء أمور طلاب الثانوية العامة يرافقون أبنائهم.. وتشديد أمنى لتأمين اللجان بالجيزة    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    أصل التقويم الهجري.. لماذا بدأ من الهجرة النبوية؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    موعد مباراة الأهلي وإنتر ميامي والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرطة في النظام الإسلامي.. أهميتها وشروط صاحبها
نشر في الشعب يوم 24 - 11 - 2011

تُعَدُّ الشرطة[1] من الوظائف المهمَّة في الدولة الإسلامية، ومن أبرز معالمها في حياة المجتمع والناس، وتتمثل في الجند الذين يُعتمد عليهم في حفظ الأمن والنظام، وتنفيذ أوامر القضاء بما يكفل سلامة الناس، وأمنهم على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، فهي بمنزلة جيش الأمن الداخلي.
الشرطة في عهد النبي والخلفاء الراشدين
ولقد عرف المسلمون نظام الشرطة منذ النبي ، وإن لم تكن ممنهجة أو منظمة؛ فقد ذكر البخاري في صحيحه "أن قيس بن سعد t، كان يكون بين يدي النبي بمنزلة صاحب الشُّرط من الأمير"[2].
وكان أوَّل من سنَّ نظام العسِّ[3] هو عمر بن الخطاب t، فكان يَعُسُّ بالمدينة (أَي يطوف بالليل) يحرس الناسَ ويكشف أَهل الرِّيبَة[4].
ويمكن القول بأن الشرطة -كما ظهر سابقًا- قد بدأت بسيطة في عهد الخلفاء الراشدين، ثم أخذت تتطوَّر ويزداد تنظيمها في العصرين الأموي والعباسي، فبعد أن كانت أوَّل الأمر تابعة للقضاء، وعَمَلُهَا يقوم على تنفيذ العقوبات التي يُصْدِرُهَا القاضي انفصلت عن القضاء، وأصبح صاحب الشرطة هو الذي ينظر في الجرائم، كما صار لكل مدينة من المدن شرطة خاصَّة بها، تخضع لرئيس مباشر هو صاحب الشرطة، الذي كان له نوَّاب ومساعدون يتَّخِذُون لأنفسهم علامات خاصة، ويلبسون زيًّا خاصًّا، ويحملون مطارد[5] عليها كتابات تتضمَّن اسم صاحب الشرطة، ويحملون الفوانيس في الليل، ويصطحبون كلاب الحراسة[6].
الشرطة في الدولة الأموية
وقد توسَّع معاوية بن أبي سفيان t في اتخاذ الشرطة، وتطويرها، فأضاف إليها شرطة الحرس الشخصي، وكان أول من اتخذ الحرس في الحضارة الإسلامية[7]، وخاصة وقد اغتيل زعماء الدولة الإسلامية قبله: عمر، وعثمان، وعلي y.
ولذلك فإن الشرطة في الخلافة الأموية كانت أداة تنفيذ لأمر الخليفة، وفي بعض الأحيان تعاظمت رتبة صاحب الشرطة حتى تولاها بعض الأمراء والولاة، ففي عام 110ه عُيِّن خالد بن عبد الله على ولاية البصرة، وجمع معها منصب الشرطة[8].
وقد تنبهت الخلافة الأموية لخطورة هذا المنصب، وحيويته؛ ولذلك وضعت المعايير العامة التي يجب أن تتوفر في صاحب الشرطة؛ فقد قال زياد بن أبيه: "ينبغي أن يكون صاحب الشرطة شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون صاحب الحرس مسنًا، عفيفًا، مأمونًا لا يُطعن عليه"[9].
وبحث الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق والحجاز في عهد عبد الملك بن مروان عن رجل قادر على تولِّي قيادة الشرطة في الكوفة، فاستشار أهل الرأي والمكانة، فسألوه: "أيَّ الرجال تريد؟ فقال: أريده طويل الجلوس[10]، سمين الأمانة[11]، أعجف الخيانة[12]، لا يخفق في الحق على جرَّةٍ[13]، يهون عليه سبال الأشراف في الشفاعة[14]. فقيل له: عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي. فأرسل إليه يستعمله، فقال له: لستُ أقبلها إلا أن تكفيني عيالك وولدك وحاشيتك. قال: يا غلام، نادِ في الناس: مَنْ طلب إليه منهم حاجة فقد برئت منه الذمة"[15]. ولكفاءته، وقدرته على استتباب الأمن قال الشعبي: "فكان ربما أقام أربعين ليلة لا يؤتى بأحد، فضمَّ إليه الحجاج شرطة البصرة مع شرطة الكوفة"[16].
ولذلك تطوَّرت وظيفة صاحب الشرطة في العصرين الأموي والعباسي، ومن ثَمَّ قال ابن خلدون: "كان النظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية بالأندلس، والعبيديين بمصر والمغرب راجعًا إلى صاحب الشرطة، وهي وظيفة أخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول، تَوَسَّع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً، فيَجْعَل للتهمة في الحكم مجالاً، ويَفْرِض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، ويُقِيم الحدود الثابتة في محالِّهَا، ويحكم في الْقَوَدِ والقصاص، ويُقِيم التعزير والتأديب في حقِّ مَنْ لم يَنْتَهِ عن الجريمة"[17].
إذًا ترقَّى صاحب الشرطة منذ عصر الخلافة الراشدة، وبداية عصر الخلافة الأموية من مهمة تنفيذ أوامر مؤسسة الخلافة إلى أن أصبح قادرًا على النظر في الجرائم وإقامة الحدود؛ ولذلك اهتمت الدولة الإسلامية بتأسيس السجون، ووضع المجرمين وقادة الفتن والثورات فيها، فقد ذكر الطبري أن زياد بن أبيه وضع كثيرًا من الثُّوَّار في السجون، وخاصة أصحاب ابن الأشعث، كقَبِيصة بن ضُبَيْعَة الأسدي[18].
الشرطة في الخلافة العباسية
وقد أنفقت الدولة على بناء السجون من بيت المال؛ إذ كَفَّت هذه السجون شرَّ السجناء وأذاهم عن الناس، ولم يمنع هذا الأمر أن تُنْفِق الدولة على هؤلاء المساجين، وترعى أحوالهم؛ ولذلك اقترح القاضي أبو يوسف على هارون الرشيد، تزويد المساجين، بحُلَّة قطنية صيفًا، وأخرى صوفية شتاءً[19]، ولذلك كان الاهتمام بهم صحيًّا من أظهر الأمور.
وحرصت الخلافة العباسية على تعيين أصحاب الشرطة الموسومين بالعلم والتقوى والفقه، والذين لا تأخذهم في إقامة الحدود لومة لائم، فقد ذكر ابن فرحون في (تبصرة الحكام) "أَنَّ صاحب الشُّرطة إبراهيم بن حسين بن خالدٍ، أقام شاهد زورٍ على الباب الغربيِّ الأوسط، فضربه أربعين سوطًا، وحلق لحيته، وسَخَّم وجهه[20]، وأطافه إحدى عشرة طوفةً بين الصَّلاتين، يُصاح عليه هذا جزاء شاهد الزُّور، وكان صاحب الشُّرطة هذا فاضلاً، خيِّرًا، فقيهًا، عالمًا بالتَّفسير، ولي الشُّرطة للأمين محمد، وكان أدرك مطرِّف بن عبد الله صاحب مالكٍ وروى عنه موطأه"[21].
ونتيجة لكفاءة بعض القادة العسكريين في الخلافة العباسية، فقد عين المأمونُ عبد الله بن طاهر بن الحسين قائدًا لشرطة عاصمة الخلافة بغداد، بعدما أثبت جدارة عسكرية في حروبه وفتوحاته[22].
ولم تتوانَ مؤسسة الخلافة في عزل أصحاب الشرطة الفاسدين، الذين كانوا يتجاوزون في العقوبة، ولا يأخذون بالبينة، فقد أمر الخليفة العباسي المقتدر بالله بعزل صاحب شرطة بغداد محمد بن ياقوت، وعدم إشراكه في وظيفة في الدولة، نتيجة سوء سيرته وظلمه[23].
وكانت مهمة صاحب الشرطة في هذا العصر متعدِّدة ومتنوِّعة، فقد جمع أصحاب الشرطة في معظم الولايات الإسلامية مع وظيفة استتباب الأمن، والأخذ على أيدي اللصوص والمفسدين، المحافظةَ على الآداب العامة؛ فقد أمر مزاحم بن خاقان والي مصر (ت 253ه) صاحب شرطته أزجور التركي بمنع النساء من التبرُّج أو زيارة المقابر، وضرب المخنثين ونَدَّابات الجنائز، كما اهتمَّ صاحب الشرطة بمنع الملاهي، ومحاربة الخمور[24].
وأما أصحاب الشرطة المقصِّرون في أداء مهامهم، فقد كان الخلفاء يُجبرونهم على تصحيح أخطائهم بسرعة تامَّة، تداركًا للأمر، ومنعًا لانتشار ضرره بين العامَّة، فقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "الطرق الحكمية" حكاية تُدلل على همة وذكاء صاحب شرطة الخليفة العباسي، خاصة في وقت الأزمات، إذ ذَكَرَ أنَّ اللُّصوص سرقوا في زمن الخليفة العباسي المكتفي مالاً عظيمًا، فألزم المكتفي صاحب الشُّرطة بإخراج اللُّصوص، أو غرامة المال؛ فكان صاحب الشرطة يركب وحده، ويطوف ليلاً ونهارًا، "إلى أن اجتاز يومًا في زقاقٍ خالٍ في بعض أطراف البلد، فدخله فوجده منكرًا... فرأى على بعض أبوابه شوك سمكٍ كثيرٍ، وعظام الصُّلب. فقال لشخصٍ: كم يكون تقدير ثمن هذا السمك الَّذي هذه عظامه؟ قال: دينارٌ. قال: أهل الزُّقاق لا تحتمل أحوالهم مُشْتَرًى مثل هذا؛ لأنَّه زقاقٌ بيِّن الاختلال إلى جانب الصحراء، لا ينزله من معه شيءٌ يخاف عليه، أو له مالٌ يُنفق منه هذه النفقة، وما هي إلاَّ بليَّةٌ، ينبغي أن يُكْشَف عنها. فاستبعد الرجل هذا، وقال: هذا فكرٌ بعيدٌ. فقال: اطلبوا لي امرأةً من الدَّرب أُكَلِّمها. فدقَّ بابًا غير الذي عليه الشَّوك، واستسقى ماءً، فخرجت عجوزٌ ضعيفةٌ، فما زال يطلب شربةً بعد شربةٍ، وهي تسقيه، وهو في خلال ذلك يسأل عن الدرب وأهله، وهي تخبره غير عارفةٍ بعواقب ذلك، إلى أن قال لها: وهذه الدَّار من يسكنها؟ - وأومأ إلى التي عليها عظام السمك - فقالت: فيها خمسة شبابٍ أعفارٍ[25]، كأنَّهم تجَّارٌ، وقد نزلوا منذ شهرٍ، لا نراهم نهارًا إلاَّ في كلِّ مدَّةٍ طويلةٍ، ونرى الواحد منهم يخرج في الحاجة ويعود سريعًا، وهم في طول النهار يجتمعون فيأكلون ويشربون، ويلعبون بالشِّطرنج والنَّرد، ولهم صبيٌّ يخدمهم، فإذا كان الليل انصرفوا إلى دارٍ لهم بالكرخ، ويَدَعُونَ الصبيَّ في الدار يحفظها، فإذا كان سحرًا جاءوا ونحن نيامٌ لا نشعر بهم، فقالت للرجل: هذه صفة لصوصٍ أم لا؟ قال: بلى. فأنفذ في الحال، فاستدعى عشرةً من الشُّرط، وأدخلهم إلى أسطحة الجيران، ودقَّ هو الباب، فجاء الصَّبيُّ ففتح. فدخل الشُّرط معه، فما فاته من القوم أحدٌ، فكانوا هم أصحاب الجناية بعينهم"[26]. وهذه الحكاية دليل على نباهة صاحب شرطة بغداد، وإنفاذه لأمر الخليفة على الفور.
شروط صاحب الشرطة
ولذلك حرصت مؤسسة الحكم على اختيار الأذكياء والنابهين لولاية الشرطة، ولم تشترط أن يكونوا من أصحاب البأس والقوة فقط، ومما يُدلل على ذلك أن أحضر بعض أصحاب الشرطة شخصين متَّهمين بسرقةٍ، "فأمر أن يؤتى بكوزٍ من ماءٍ، فأخذه بيده ثمَّ ألقاه عمدًا فانكسر، فارتاع أحدهما، وثبت الآخر فلم يتغيَّر، فقال للَّذي انزعج: اذهب. وقال للآخر: أحضر العملة. فقيل له: ومن أين عرفتَ ذلك؟ فقال: اللِّصُّ قويُّ القلب لا ينزعج، والبريء يرى أنَّه لو تحرَّكت في البيت فأرةٌ لأزعجته، ومنعته من السَّرقة!"[27].
وقد عُرِفَتْ وظيفة صاحب الشرطة في معظم الدول الإسلامية، واتخذت أسماء مختلفة، فسُمِّيَ صاحبُ الشرطة في إفريقية الحاكمَ، وفي عصر المماليك الوالي، وكانت الشرطة في الديار المصرية من أهمِّ وظائف الدولة، وكان صاحبها من عظماء الرجال، فكان ينوب عن الوالي في الصلاة، وفي توزيع الأعطيات، وفي غير ذلك من الأعمال، وكان مَقَرُّ الشرطة في مصر ملاصقًا لجامع العسكر، وكانت تُسَمَّى الشرطة العليا[28]، وقد جَرَتِ العادة أن والي (صاحب) الشرطة يستعلم متجددات ولاياته من قتل أو حريق كبير، أو نحو ذلك في كل يوم من نُوَّابه، ثم تُكْتَبُ مطالعة جامعة بذلك، وتُحْمَلُ إلى السلطان صبيحة كل يوم فيقف عليها[29].
هذا، وكان أصحاب الشرطة يحملون آلة من السلاح تُسَمَّى الطَّبَرْزِين، وهي عبارة عن سكين طويل يحملونها مُعَلَّقة في أوساطهم[30].
الشرطة في الأندلس
وابتكر الأندلسيون لمنصب صاحب الشرطة قسمين مهمين، فأما القسم الأول: فسُمِّيت بالشرطة الكبرى، وكان هدفها الضرب على أيدي أقارب السلطان ومواليه وأهل الجاه، ولصاحب الشرطة الكبرى كرسي بباب السلطان، وكان من المرشحين دائمًا للوزارة أو الحجابة، ولا شكَّ أن ابتكار هذا المنصب ليُدلل على أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة تحترم القوانين التشريعية، والأعراف المجتمعية، لا فرق فيها بين غني أو فقير، أو بين رئيس ومرءوس. وكان القسم الثاني: الشرطة الصغرى، وهي مخصَّصَة للعامَّة وسواد الناس، وكان صاحب الشرطة في الأندلس يُلَقَّب بصاحب المدينةِ[31].
إن الحضارة الإسلامية حضارة بَنَّاءة مبتكرة، ولا شكَّ أن منصب صاحب الشرطة كان موجودًا بالفعل في الأمم السابقة؛ إذ أحوال المجتمعات وتشابك الأفراد يجعل مثل هذا المنصب ملحًّا في أي وقت وأي مكان، لكنه في الحضارة الإسلامية كان مغايرًا كل المغايرة عما كان عليه عند الفرس أو الرومان؛ فقد أضاف المسلمون -كما رأينا- لهذا المنصب كل جديد، وجعلوه متقيدًا بآداب الإسلام وتشريعاته.
---------------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] الشُّرْطة: حفظة الأمن في البلاد، الواحد شرطي، وصاحب الشرطة رئيسها، سُمُّوا بذلك لأَنهم أَعَدُّوا لذلك، وأَعْلَمُوا أَنفسَهم بعلامات يُعْرَفون بها، وقيل: لأَن شُرْطةَ كل شيء خِيارُه، وهم نُخْبةُ السلطانِ من جُنده. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة شرط 7/329، والمعجم الوسيط، مادة شرط ص479.
[2] البخاري: كتاب الأحكام، باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه دون الإمام الذي فوقه (6736).
[3] العسُّ: هو أن يطوف شخص بالليل يحرس الناس، ويكشف أهل الريبة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة عسس 6/139.
[4] انظر: الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/567.
[5] مطارد جمع طِرد: وهو الرُّمح القصير، لأنَّ صاحبه يُطَارِد به، وهو الألوية كذلك. انظر: الزبيدي: تاج العروس، باب الدال فصل الطاء مع الراء 8/320.
[6] انظر: كمال عناني إسماعيل: دراسات في تاريخ النظم الإسلامية ص137، 138.
[7] انظر: ابن كثير: البداية والنهاية 8/156.
[8] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 4/136.
[9] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي 2/235.
[10] طويل الجلوس: كناية عن الصبر وطول البال.
[11] سمين الأمانة: تعبير عن قوة الأمانة.
[12] أعجف الخيانة: تعبير عن الأمانة أيضًا بانعدام الخيانة، والعجف هو الهزال. انظر: المعجم الوسيط 2/585.
[13] لا يخفق في الحق على جرة: أي لا يتهاون في أقل شيء من الحق.
[14] يهون عليه سبال الإشراف في الشفاعة: أي لا يقبل الوساطات من أشراف القوم وعليتهم، والسبال جمع سبلة، وهي مقدمة اللحية ورأس الإناء، والجزء الطويل من الثياب، وهي كناية عن الشرف والمكانة.
[15] ابن قتيبة: عيون الأخبار 1/7، وابن حمدون: التذكرة الحمدونية 1/91، وأبو إسحاق القيرواني: زهر الآداب وثمر الألباب 2/381.
[16] ابن قتيبة: عيون الأخبار 1/16.
[17] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/222.
[18] انظر: الطبري: تاريخ الأمم والملوك 3/224، 225.
[19] أبو يوسف: الخراج ص161.
[20] سَخَّمَ وجهه أَي سوَّده، والسخام: الفَحْم وسواد القدر. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة سخم 12/282.
[21] ابن فرحون: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام 5/319.
[22] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/455.
[23] ابن كثير: البداية والنهاية 11/166.
[24] ناصر الأنصاري: تاريخ أنظمة الشرطة في مصر ص46.
[25] أعفار جمع العُفْرُ: وهو الشجاع الجَلْدُ، وقيل: الغليظ الشديد. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة عفر 4/583.
[26] ابن القيم: الطرق الحكمية ص65.
[27] المصدر السابق ص67.
[28] المقريزي: الخطط المقريزية 1/840، 841.
[29] القلقشندي: صبح الأعشى 4/61.
[30] آدم متز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري 2/275.
[31] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/251، وشوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية ص313، 314.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.