أصبح الحديث عن موضوع الاستيطان الصهيوني في المناطق الفلسطينية مسألة مألوفة كغيرها من القضايا الكثيرة والمتنوعة التي تتداخل في تعقيداتها الاحتلالية القاسية والوحشية مع النهج السياسي العملي المفروض على الشعب الفلسطيني من خلال الممارسات القمعية التي تنتجها حكومة الاحتلال وسلطاتها العسكرية. كما يتصدر الاستيطان الأولويات الصهيونية كأداة هامة وممارسة عملية للنهج الفكري الذي تقوم عليه النظرية الصهيونية مدعمة بكل الوسائل التي من شأنها تغيير الواقع من خلال التصرفات المكرسة بأعمال البناء والإنشاءات واستقدام المهاجرين اليهود، ليكون لهم الغلبة الديموجرافية على المساحة الجغرافية التي يقيمون عليها. ولقد أوضحنا فى التقارير السابقة في الملف الذي أعدته جريدة "الشعب" حول الاستيطان ، الأهمية الاستراتيجية للاستيطان الصهيوني في فلسطين من خلال كون هذا الاستيطان يشكل العمود الفقري والتطبيق العملي للصهيونية واللبنة الأولى لإنشاء الكيان الإسرائيلي في فلسطين، فإسرائيل كدولة ما هي في الحقيقة إلا مستوطنة كبيرة قامت على أساس غزو الأرض وطرد سكانها العرب وإنشاء كيان غريب عن المنطقة العربية من خلال جلب المهاجرين اليهود من جميع أنحاء العالم واستيطانهم فيها ، كما أوضحنا الأهمية الاستراتيجية للاستيطان الصهيوني في فلسطين من خلال كون هذا الاستيطان يشكل العمود الفقري والتطبيق العملي للصهيونية واللبنة الأولى لإنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين. ونستعرض في التقرير الرابع من ملف الاستتيطان ، الواقع الاستيطاني في مدينة القدس الشريف. القدس في قبضة الاستيطان سجل التاريخ، بداية التسلل الاستيطاني الصهيوني إلى فلسطين أواخر القرن الثامن عشر، إذ اقتصرت عمليات الاستيطان اليهودية حتى القرن التاسع عشر وتحديدًا عام 1898، على إنشاء 22 مستوطنة، وبعد إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر سويسرا عام 1897. وتوسعت عمليات الاستيطان لتشمل مناطق جديدة من فلسطين، حتى وصل عدد المستوطنات في عام 1914م إلى 47 مستوطنة وفي عام 1918م أصبحت مساحة الأراضي التي كان يملكها اليهود حوالي 5.2% من أراضي فلسطين. وشهدت فترة الانتداب البريطاني طفرة في عدد المستوطنات حيث ارتفع عددها ليصل إلى 304 مستوطنة بسبب تعاون بريطانيا مع الحركة الصهيونية لطرد الفلسطينيين وسلب أراضيهم وزرع المستوطنين فيها. بل وقبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين عام 1948، كانت المنظمات الصهيونية قد تمكنت من السيطرة على فلسطين، وجعلها قاعدة لتحقيق باقي الحلم الصهيوني المتمثل في إقامة كيانهم المغتصب ، ودمرت ما يقارب من 472 قرية ومدينة فلسطينية بعد ارتكاب المجازر الوحشية بحق شعبنا الأبي الصامد ، كمجزرة دير ياسين وقبية وغيرهما ضد النساء والشيوخ والأطفال. ومع إنشاء الكيان الغاصب في مايو عام 1948، بدأت المأساة العربية في فلسطين عامة، وفي مدينة القدس بشكل خاص، نظرًا لأهميتها الدينية والسياسية، فخلال العام المذكور تمت السيطرة بمساندة الغرب على معظم أراضي فلسطين، بما في ذلك الجزء الغربي من المدينة المقدسة، بينما بقي الجزء الشرقي تحت السيادة الأردنية حتى حرب الأيام السته عام 1967 ، حين أكملت حكومة الاحتلال سيطرتها على باقي الأراضي الفلسطينية وأراضي عربية أخرى في الجولان، وسيناء. حيث يمكن اختصار المفهوم والسياسة والممارسات الصهيونية في القدس بأنها تقوم على أساس تهويد المدينة المقدسة ، وتهويد حكومتها ، وتهويد سكانها ، وتهويد تاريخها وثقافتها ، حيث بدأ ذلك منذ عام 1948 وما زال إلى اليوم. وتطبيقا لذلك اتبعت السلطات الصهيونية خطوات مبرمجة للزحف في أراضي القدس، وتوطين المهاجرين اليهود، فصادرت الجزء الأكبر من مساحة أراضي القدس، حيث كان الصهاينة قد أقاموا مع حلول شهر مايو 1948م نحو 1947 مستوطنة على أنقاض القرى والمواقع التي غادرها أهلها طرداً. قانون التهجير وتواطؤ الأممالمتحدة وفي عام 1965، أصدر الكيان الصهيوني قانوناً "يعد كل من غادر المناطق التي تحتلها العصابات الصهيونية إلى خارج فلسطين مهاجراً وغائباً عن أرضه ولذلك فإن ملكيتها تعود للدولة"، وبموجب ذلك القانون أستملك الكيان الصهيوني 000و000و2 مترًا إضافة إلى 990و000و2 مترًا من الأراضي الفلسطينية مع 73 ألف غرفة من بيوت السكن و7800 محل تجاري بجميع محتوياتهم من الأثاث والبضائع وغيرها في المدن والقرى التي طرد أصحابها منها. وحسب قرار الجمعية العمومية الصادر عن الأممالمتحدة عام 1947 رقم 181, فقد تم وضع القدس ونواحيها إضافة إلى بيت لحم تحت إدارة دولية، إلا أن العصابات الصهيونية لم تعبأ بالقرار وقامت بطرد جميع السكان العرب من القدسالغربية أثناء أحداث حرب 1948، ومارست كل صنوف العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين و لعل أكثر ما دل على ذلك مجزرة دير ياسين في إبريل عام 1948 , حيث قتل 300 من الرجال والنساء والأطفال و الشيوخ, و قد نقل عن راديو العصابات الصهيونية أنه كثيراً ما كرر رسالته للعرب أثناء الحرب "تذكروا دير ياسين" وذلك لإثارة الرعب في نفوس الفلسطينيين و لإجبارهم على ترك ديارهم. وامتدت سيطرة حكومة الاحتلال جغرافيا إلى نطاق أبعد مما خصصته لها الأممالمتحدة حسب قرار التقسيم, و رغم ذلك فإن الأممالمتحدة صادقت على عضوية الكيان الصهيوني في المنظمة الدولية دون مطالبتها بالعودة إلى الحدود المخصصة للدولة اليهودية و خصوصًا القدس التي احتلتها. ومع إعلان الكيان في مايو 1948م وما بعدها، ضمت حكومة الاحتلال جميع الضواحي في القدسالغربية والتي كان نصف سكانها عرب ونصفها يهود قبل النكبة، حيث كان يسكن العرب في 15 مربع و يملكون 3/4 أراضيها ومبانيها, فلقد احتلت مليشات الاحتلال ثلاثة عشر مربعاً ، و عليه فإنه من الخطأ الاعتقاد أن اليهود ضموا الأجزاء اليهودية من القدس وأن العرب ضموا الأجزاء العربية كنتيجة لحرب فلسطين. القدس الشريف.. العاصمة الأبدية للكيان الصهيوني "بالعافية" في العام 1948ورغم المعارضة الدولية فإن حكومة الاحتلال سنت قانون يعتبر القدس عاصمة لها ، وعلى إثرها أصدر مجلس الأمن الدولي قرارًا ، صوت لصالح القرار 14 ضد صفر وامتناع الولاياتالمتحدة عن التصويت ، وقد اعتبر بموجبه القانون الصهيوني الوليد غير قانوني ودعا جميع الدول التي لها بعثات دبلوماسية في القدس إلى سحبها. وما إن احتلتجيوش الاحتلال الجزء الشرقي من القدس عام 1967، حتى بدأت مكبرات الصوت تطلب من أهل القدس مغادرة المدينة إلى الأردن حيث الطريق ما تزال مفتوحة, فلقد فتحت حكومة الاحتلال الطريق إلى الجسر كي يكون هناك لجوء فلسطيني آخر مشابه للجوء حرب 1948. وبعد مرور ثلاثة أسابيع على احتلال المدينة القديمة عام 1967 ضمتها حكومة الاحتلال لها بقرار منفرد, لتصبح "القدس الموحدة" عاصمة لها ، مع العلم أن عدد الفلسطينيين في القدس الجديدة قدر عام 1945 ب 24 ألف مسيحي ، و21 ألف مسلم ، في حين وصل عدد العرب في القدس كلها عام 1948 قبل الحرب إلى 105.540 آلاف وذلك حسب اللجنة الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية ، في حين كان عدد اليهود في القدس في العام 1917 ، حوالي 30 ألف و ارتفع هذا الرقم عام 1946 إلى مائة ألف, ووصل في العام 1985 إلى 280.000 في حين كان عدد الفلسطينيين في العام 1985 120.000 و من الملفت للانتباه أن المسيحيين العرب شكلوا حتى العام 1948 ما نسبته 25% من سكان القدس في حين شكلوا في العام 1985 ما نسبته 2.5% من سكان القدس شرقها وغربها. عزل القدس في عام 1967، شهدت القضية الفلسطينية تطورًا أساسيًا فيما يتعلق بإمكانية استكمال المشروع الصهيوني، حيث أتم الكيان الصهيوني احتلال باقي الأراضي الفلسطينية وبعض الأراضي العربية، حيث اتبعت سياسة ذات شقين استهدفت ضم أراض عربية محتلة من جهة وإقامة مستوطنات يهودية على هذه الأراضي من جهة أخرى. وقد أصدر الكنيست ،بعد نكسة 1967 قانونًا يخول وزير الداخلية إعلان توسيع حدود البلديات وتطبيق القانون الصهيوني على أجزاء من الأراضي المحتلة ، على الرغم من أن وضوح نص المادتين 47 و 49 من معاهدة جنيف بخصوص منع القوة المحتلة قانونًا لفعل شيئاً من شأنه تغيير طبيعة الأراضي المحتلة وأن وجودها في الأراضي مؤقت كدولة محتلة ، مما ساعد على تصاعد حمى الاستيطان داخل المدن الفلسطينية الكبرى. فمنذ اللحظة الأولى باشرت السلطات الصهيونية ، بعمليات المصادرة والهدم والتهجير، تمهيدًا لعزل مدينة القدس ومن حولها عن المناطق العربية المجاورة بحيث شكل احتلال الجزء الشرقي منها منعطفًا بارزًا لجهة تغيير معالم القدس وتركز الاستيطان الصهيوني بشكل كثيف في مدينة القدس محاولة لفرض واقع يهودي يطمس المعالم العربية في المدينة ويصعب الانفكاك عنه في حال تمت مفاوضات مستقبلية، أدت إلى الاستيلاء على 838 هكتارًا من أراضي الضفة الغربية حول مدينة القدس ووضعت خطة لتوطين عدد كبير من اليهود فيها. ومن خلال أنشاء بؤر استيطانية لعزل القدسالشرقية عن المدن الفلسطينية الأخرى في الضفة الفلسطينية، فتم إنشاء عدد كبير من الأحياء والمستوطنات على رؤوس التلال والأودية التي يسهل الدفاع عنها، وعلى أنقاض ما هدم من أحياء وقرى عربية، وعلى ما صودر أو اغتصب من أراض عربية في القدس. حيث بلغت نسبة الأراضي التي سيطرت عليها سلطات الاحتلال الصهيوني في الضفة الغربية أكثر من 50 % من مجموع الأراضي، وباتت مناطق عدة مهددة بالضم التدريجي من قبل الحكومات الصهيونية المتتالية بهدف تكثيف المستوطنات في الضفة الغربيةوالقدس وقطاع غزة. ولمواجهة الكثافة السكانية العالية ، عمدت سلطات الاحتلال إلى العمل على خلخلة الكثافة السكانية ، حفاظًا على الأمن وإعادة توطينهم في مناطق أخرى ، ومن جهة أخرى، استطاعت السلطات الصهيونية من خلال النشاط الاستيطاني المكثف في القدسالشرقية، إنشاء طوقين من المستوطنات يحيطان بالمدينة من جميع الجهات ويفصلاها عن المدن والقرى والمخيمات، وباتت تستحوذ تلك المستوطنات على نحو (180) ألف مستوطن يهودي وهناك خطط لرفع مجموع اليهود في الجزأين المحتلين من مدينة القدس ليصل إلى مليون يهودي بحلول عام 2020، لكن ذلك يبقى مرهونًا بنجاح المشروع الصهيوني برمته، والاستقرار الأمني في المنطقة. وعلى الرغم من ذلك، فإن عمليات الاستيطان الصهيونية في مدينة القدس، تمثل تحديًا سياسيًا للفلسطينيين، حيث شكلت انطلاقة انتفاضة الأقصى في عام 2000 ، الرد على عمليات الاستيطان، وذلك محاولة من الفلسطينيين للحفاظ على حضارة القدس، وحمايتها من شطب تراثها العربي والإسلامي من قبل السلطات الصهيونية، التي تسعى جاهدة منذ عام 1967 لفرض الأمر الواقع الاستيطاني، وذلك تطبيقًا عمليًا لمقولات "هرتزل" ومن بينها "إذا قدر لنا يوماً، أن نملك القدس، وأنا على قيد الحياة، وكنت قادراً على أن أفعل شيء، فسوف أدمر كل ما هو غير مقدس عند اليهود فيها". وفي إطار السياسة التي اتبعتها حكومة الاحتلال لتهويد مدينة القدس منذ احتلالها من خلال إحاطتها بالمباني والمستوطنات التي شكلت جدارًا محكم الإغلاق، يهدف إلى خنق سكانها ودفعهم إلى الرحيل من جهة، ومنع فلسطيني الضفة الغربية وقطاع غزة من الوصول إلى المدينة والتواصل معهم من جهة أخرى ، نتابع فى التقرير القادم ، المستوطنات و القدس في ضوء القانون الدولي.