وليد خيرى فى الذكرى الثالثة لرحيل الكاتب المصرى الكبير بهاء طاهر، يلوح فى الأفق الأدبى والوجدان الثقافى سؤال عميق وملح: ما هو الهم المهيمن الذى ظل يشد خيوط نسيج عالمه الروائى والقصصى؟ إن أدب بهاء طاهر، بلغته الرقيقة وأسلوبه الهادئ الآسر الذى يشبه نسائم الفجر على النيل، كما يتجلى فى رهافة «الحب فى المنفى» وشفافية «نقطة النور"، ليس مجرد حكايات تروى، بل هو مرثية هادئة للذات المقهورة، ونقد مرير للتاريخ المتكرر، وسعى صوفى دائم نحو «نقطة النور» فى قلب العتمة. إن الهم الأعمق والأكثر هيمنة فى أعمال طاهر ليس سوى «محنة البحث عن الأصالة والعدالة فى زمن التشويه والضياع» تتجسد هذه المحنة فى صراع أبطاله بين الالتزام الأخلاقى والانهيار السياسى والاجتماعى إنها، بكلمة أدق، مأساة الوجدان الوطنى الذى عاش صدمة الإخفاق الكبرى، وحاول أن يتصالح معها عبر العودة إلى الجوهر الصوفى والتاريخى للذات. العودة إلى الأصل: التفسير الاجتماعى ل«الخيبة الكبرى» يبدأ بهاء طاهر رحلة الهم المهيمن من منطلق اجتماعى سياسى قاس. أبطاله هم مثقفو جيل الستينيات، الذين آمنوا بمشروع وطنى عظيم، ثم وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها فى مهب المنفى، سواء كان منفى جغرافياً أو منفى داخلياً فى أوطانهم. فى رواية «الحب فى المنفى»، يعكس الراوى، الصحفى المهاجر، هذه الخيبة بمرارة لاذعة تختبئ خلف هدوئه الظاهر. فهو ليس منفياً بمحض إرادته، بل «قاهرياً، طردته مدينته للغربة فى الشمال». هذا الطرد ليس شخصياً بقدر ما هو طرد للمثل والقيم التى كان يمثلها. إن انهيار المؤسسة التى يعمل بها، وتحولها إلى مجرد بوق للسلطة واللا معنى، هو انعكاس لانهيار المشروع بأكمله. يتذكر الراوى زمن الانشغال ب"قضايا عالمية" ليجد أن «أهم أخبار العالم فيها لم تعد تتجاوز خمسة أسطر"، وأن الصفحة الأولى أصبحت حكرا على «أخبار من الرئاسة» والإعلانات. هذا التدهور هو جوهر النقد الاجتماعى عند طاهر فالبطل لا يحزن على وظيفة ضائعة، بل على ضمور القضايا الكبرى وتحول الصحيفة - رمز الوعى - إلى أداة تجميل للزيف وعندما يتحدث صديقه إبراهيم عن الرفاق الذين تخلوا عن أحلامهم، يتحول الحديث إلى محاكمة اجتماعية للانتهازية، حيث يقول الراوى عن رفاقه: «ربما أرادوا أن يعيشوا لا أكثر لا أحد منا يستطيع أن يلومهم، ولكن لا أحد منا يملك أن يسامحهم" هذا الازدواج بين اللوم والتسامح هو الإطار النقدى الذى يتبناه طاهر؛ إنه يسجل الهزيمة دون أن يدين الضعف الإنسانى، لكنه يصر على أن ثمة خيانة للأصل قد حدثت. هنا يتقاطع تحليل طاهر مع رؤية جورج لوكاتش حول ضرورة أن يكون الفن الروائى انعكاساً ل"الكلية» الاجتماعية، بمعنى أن يجسد التناقضات الأساسية للمرحلة التاريخية وبهاء طاهر يجسد هذه الكلية عبر شخصيات تبدو فردية ومنكسرة، لكنها تحمل فى طياتها مأساة جيل كامل، عاش الإحباط السياسى والاقتصادى الذى تلا فترة «الانفتاح» وتحول الحلم الثورى إلى كابوس استهلاكى قاحل. استمرارية القهر: النقد التاريخى وعبء الماضى للهم المهيمن عند بهاء طاهر بُعد تاريخى لا يقل عمقاً عن البعد الاجتماعى، فالتاريخ ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو آلية مستمرة للقهر يجب تفكيكها. يتجلى هذا بوضوح فى رواية «واحة الغروب» ومجموعة «أنا الملك جئت". فى «واحة الغروب»، يقدم طاهر صورة محكمة لدورة الظلم التى لا تنتهى. المأمور محمود عبد الظاهر ليس مجرد ضابط منفى، بل هو تجسيد لبطل وطنى مهزوم، دفع ثمن انتمائه لثورة أحمد عرابى، ثم نفى إلى أقصى نقطة فى الخريطة: سيوة، واحة الغروب مأساة محمود هى فى إدراكه أن «صفحة عرابى ورفاقه طويت وسط نيران الحرائق والفوضى»، لكن الآلية التى هزمتهم هى نفسها التى تحكم الآن. يحمل محمود سؤالاً تاريخياً موجعاً فى داخله: «لماذا خان الباشوات والكبار الذين يملكون كل شىء؟ ولماذا يدفع الصغار دائما الثمن" هذا السؤال ليس نابعاً من لحظة آنية، بل من وعى تاريخى بأن الخيانة والظلم هما نتاج بنية سلطوية ثابتة عبر العصور. نفى محمود إلى الواحة هو نفى للضمير الوطنى إلى هامش التاريخ، حيث يتصارع مع هواجسه وذكرياته التى لا تموت، تحديداً شبح «نعمة السمراء» التى تمثل الأصل الريفى البكر الذى خانه محمود عندما اختار طريق الضابط المدجج بالنظام. ويصل هذا النقد التاريخى إلى ذروته الرمزية فى مجموعة «أنا الملك جئت»، حيث يوظف الكاتب التاريخ المصرى القديم لتجريد الصراع السياسى وتحويله إلى صراع أزلى بين «النور والظلام". ثيمة الصراع بين كهنة آمون (إله الخوف والظلام والامتياز) وكهنة آتون (إله النور والحب والفرحة) ليست سوى قراءة للحاضر. يستحضر الكاتب شخصية الكاهن كاي-نن ليقول: «العامة لا تعيش بالتقوى العامة تحتاج إلى الخوف لكى تعرف التقوى». هذا الاقتباس يكشف عن البنية الثقافية للاستبداد، حيث يصنع «الإله الخائف» ليبقى على «النظام القائم» إن التاريخ القديم، هنا، هو مرآة تتجلى فيها ديناميكية القوة والسلطة التى أشار إليها ميشيل فوكو، حيث تصبح المعرفة الدينية والثقافية أداة لترسيخ الهيمنة وتبرير القمع، بدلا من أن تكون سبيلاً للخلاص إن اللجوء إلى التاريخ المصرى القديم فى أعمال طاهر هو بمثابة استدعاء للأسطورة فى مواجهة تاريخ الهزائم الواقعى. الجسر الواهم: علاقة الشرق بالغرب وحوار الحضارات يتسع هم بهاء طاهر ليشمل قضية العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب، والتى لا تظهر فى أعماله ك«صراع حضارات» بالمعنى الجذرى، بل ك«حوار موهوم» بين الذات المنكسرة والموضوع المبهور أو المنبهر. يمثل المنفى، فى روايات مثل «الحب فى المنفى»، أرضاً محايدة لهذا اللقاء الإنسانى الذى يتجاوز الإيديولوجيات. فى «الحب فى المنفى»، تجسد «بريجيت» الجانب الغربى الذى يلتقى بالراوى المصرى المنفى. إنها ليست مستشرقة، بل هى إنسانة، ولكنها تحمل عوالم مختلفة. علاقة الراوى بها تمنحه فرصة للبحث عن ذاته المفقودة بعيدا عن ضغوط وطنه لقد كانت بريجيت بمنزلة المرآة التى يرى فيها الراوى «طفله» القديم الحب هنا، رغم قصر فترته وضبابيته، يصبح ممكنا خارج السياق السياسى والاجتماعى المشوه فى الشرق إنه إشارة إلى أن الخلاص الفردى قد يأتى عبر الاعتراف الإنسانى المتبادل، وليس بالانغلاق الثقافى. وعندما يتبادلان القصص، يصبح السرد الفردى هو جسر العبور الوحيد بين حضارتين. أما فى «واحة الغروب»، فتأخذ العلاقة بين الشرق والغرب طابعاً أكثر مأساوية كاثرين، الزوجة الأيرلندية، عالمة الآثار المفتونة بالتاريخ المصرى القديم، هى النموذج الغربى الذى يسعى إلى أصالة الشرق من خلال استكشاف جذوره. فى المقابل، نجد زوجها محمود، المصرى الذى دفع ثمن نضاله الوطنى، لا يرى فى الواحة سوى مكان للنفى والموت زواجهما هو اتحاد بين الذكاء الغربى الباحث عن الجوهر وبين الروح الشرقية التى فقدت يقينها فى الحاضر إن عدم قدرتهما على فهم بعضهما، رغم الحب والجسد المشترك، يمثل مأساة حوار الحضارات الذى ينتهى بالفشل بسبب حمولة التاريخ والماضى على الطرفين. إن البعد التاريخى هنا يلتقى بالبعد الثقافى: فمصر القديمة (تاريخ كاثرين) تصبح ملاذا للاثنين، هروبا من مصر الحاضرة (واقع محمود) بهذا التوظيف، يؤكد بهاء طاهر أن الهم المهيمن هو فقدان القدرة على التواصل الأصيل حتى فى أقصى صور التقارب (الزواج والحب)، وأن الغرب يظل يبحث فى ماضينا عما فقدناه نحن فى حاضرنا. حقيقة الوجود: الحث الصوفى و«نقطة النور» فى مواجهة القهر الاجتماعى والتاريخى وتحديات حوار الحضارات، يطرح بهاء طاهر هما رابعا هو البحث عن الخلاص الروحى، أو ما يمكن تسميته ب«الحث الصوفى» هذا الحث ليس تعبيرا عن التزام دينى بالمعنى الحرفى، بل هو فلسفة وجودية تتخذ من رموز التصوف والأخلاق سبيلا لمقاومة خواء العصر. تتجسد هذه الفلسفة فى رواية «نقطة النور»، التى سميت تيمنا بالفكرة الصوفية القديمة عن الإشراق أو «اللحظة التى يتجلى فيها اليقين" إن البطل سالم، الذى ينشأ فى رعاية جده «الباشكاتب»، يمثل محاولة للبحث عن الحقيقة الثابتة فى عالم متغير السؤال الجوهرى الذى يطرحه طاهر فى مفتتح الرواية: «فهل النفس قناع نرتديه إن أحببناه، وإن كرهنا نبذناه؟» يجيب عليه أستاذه ب«أو لم أقل لكم من تقنع هلك؟» هذا التحذير يكثف الهم الوجودى للكاتب: الزيف والتقنع هو الطريق إلى الهلاك الروحى النور هنا هو مرادف للصدق المطلق مع الذات، والابتعاد عن الالتباس الذى يخلقه التلبس بنفوس لا تشبهنا. ويتعمق الحث الصوفى فى قصة «خالتى صفية والدير"، حيث يتحول الدير إلى رمز للجوهر الروحى المنجى. إن لجوء بطل الرواية إلى دير الأقباط بعد ارتكابه لجريمة الشرف، لا يمثل هروبا بقدر ما يمثل بحثا عن مأوى للضمير يتجاوز حدود الأعراف القاسية والانقسامات الطائفية فى الدير، يلتقى الهارب المسلم بالراهب المسيحى، فى مناخ من التسامح والوحدة التى تمثل حمى الروح إن هذا التوحد يتجاوز النقد الاجتماعى ليعلن عن إمكانية الخلاص عبر العودة إلى الأصل النبيل للوجدان المصرى، القائم على الوحدة الروحية قبل أى انتماء آخر. وكما يشير الناقد على الراعى فى تحليله لأعمال بهاء طاهر، فإن الكاتب مشغول دوما ب"روح الإنسان، دوما يسعى إلى استرجاعها، إنقاذها من الهلاك، من الضياع". إن هذا التوق إلى النور والسكينة هو ما يمنح أدب طاهر رقة أسلوبه. فعندما يتحدث الراوى عن الحب، كما فى «الحب فى المنفى"، فإنه لا يراه مجرد عاطفة، بل مرادفا ل الأمن المفقود، والبحث عن «حب كامل ومستحيل فى هذه الدنيا" الحب، إذن، هو أعلى صور النضال الصوفى، لأنه يمثل رفضاً للخضوع ل"عالم يدفعنا إلى أن نقتل أنفسنا بأيدينا» عبر القسوة واللامبالاة. جماليات اللغة والأسلوب: الصوت الهامس ك«مقاومة» يتشكل الهم المهيمن لدى بهاء طاهر من خلال الأداة الأدبية نفسها. فاللغة الأدبية الأنيقة والرقيقة ليست مجرد خيار جمالى، بل هى موقف نقدى فى حد ذاته إن أسلوبه الهادئ، الذى ينساب فى نعومة ورقة كما قال عنه الناقد محمود أمين العالم، هو شكل من أشكال المقاومة ضد الصراخ والضجيج الذى ساد الخطاب السياسى والأدبى فى عصره. بهاء طاهر لا يصرخ فى وجه القارئ أو السلطة، بل يهمس وهذا الهمس يسمح له بالمونولوج الداخلى العميق، الذى يكشف فيه عن التناقضات النفسية لأبطاله، كما فى تردد محمود عبد الظاهر بين واجباته ومشاعره تجاه كاثرين، أو عجز الراوى فى «الحب فى المنفى» عن التصالح مع الطفل الذى بداخله. هذا الأسلوب يتماشى مع النظرية النقدية عند باختين حول تعدد الأصوات، حيث يسمح الكاتب لأصوات الضحايا والمنبوذين والمنفيين بالتعايش فى النص دون أن يلغى صوت أحدهم، مما يخلق عالما روائيا غنيا بالمعانى، ويجعل القارئ شريكا فى عملية الكشف والبحث عن الحقيقة. فى رواياته، تستخدم الجملة البسيطة والمكثفة لغة شعرية، كما فى لحظات الوحدة الوجودية ففى «واحة الغروب»، تصبح الصحراء فى حديث كاثرين عنها «جنة الأنبياء والشعراء، فيها تورق الأنفس الذابلة وتزهر الروح». هذه اللغة لا تصف الواقع، بل تعيد خلقه على أساس روحى. إنها تجعل من العزلة والمنفى سبيلاً للتطهير الروحى، وهو ما يمثل ذروة الحث الصوفى فى أدبه. وعندما يتحدث عن الانفصال، يكون الوصف مقتضبا ومؤلما: «صحراء من الصمت»، وهو تعبير يحمل كل ثقل الفشل السياسى والعاطفى فى آن واحد. إن الهم المهيمن عند بهاء طاهر هو هم مركب ومتداخل، لا يمكن فصل خيوطه إنه محاولة للربط بين التاريخ الخاص والتاريخ العام، بين النضال السياسى والسكينة الروحية لقد نجح طاهر فى تحويل المنفى من عقوبة جغرافية إلى حالة وجودية، ومنطلق للنقد الأعمق. لقد ظل بهاء طاهر، حتى أيامه الأخيرة، يؤمن بأن مهمة الكاتب هى الكشف عن الزيف والبحث عن الجمال الناجى. ففى قصته «أنا الملك جئت»، يتجسد هذا فى الصراع بين النور والظلام، حيث النور ليس مجرد ضوء فى السماء، بل هو «الإله الذى يقول لهم أحبوا.. ارحموا.. افرحوا.. للفرح خلقتكم فاعبدونى فى الفرحة» هذا الإعلان الفرح هو نضال ثقافى واجتماعى ضد إله الخوف الذى ابتدعته السلطة. بهاء طاهر كان ناقدا هادئا بامتياز فروايته «واحة الغروب» ليست سوى واحة فى نهاية التاريخ المجهول، و«الحب فى المنفى» ليس سوى تذكير بأن الحب هو آخر قلاع المقاومة الأخلاقية، و«نقطة النور» ليست سوى تلك اللحظة النادرة من الصدق واليقين التى يبحث عنها الإنسان بعد أن فقد كل شىء يظل صوت بهاء طاهر، بلغة أدبية أنيقة، همسا عميقا يتردد صداه فى وجداننا: أن الأصالة والعدالة ليستا أحلاما يمكن أن تضيع، بل هما نضال مستمر يجب أن يخاض كل يوم، بصمت وكرامة ونقطة نور لقد ترك لنا الكاتب إرثا يؤكد أن الفرحة المبتغاة ليست هدية تمنح، بل حالة وعى تنتزع انتزاعا من قبضة القهر والضياع وهذه هى شهادته الأخيرة على فخ الحياة الذى لم يستطع أن يكسره إلا بالحب والحقيقة.