لا أسعي بكلماتي هذه الي ان اكتب تحقيقاً صحافياً. ما أفعله هو التفكير بصوت عالٍ والإفصاح عن أفكار خام بطلاقة محسوبة. لماذا هي أفكار خام؟ لأنها نتاج ما أري من مشاهد علي شاشات الأقنية التلفزيونية المحلية والعربية والعالمية، وما اسمعه من تعليقات مراسليها ومن تصريحات السياسيين علي ضفتي لبنان، ضفة المعارضة وضفة الموالاة. إنها أفكار لم تُختبر صدقيتها بعد في دنيا الواقع، ولم تتبلور كفاية بمقارنتها بأفكارٍ وأفعالٍ أخري أفرزتها الأحداث المتلاحقة: المعارضة واسعة ومتنوعة. لعلها اكبر وأقوي معارضة شعبية في تاريخ لبنان المعاصر. إنها معارضة واحدة، متحدة ومتشددة ضد الحكومة والطبقة السياسية التقليدية المركانتيلية المتحكمة بالبلد بغطرسةٍ وعنادٍ أسطوريين. لكنها معارضة متنوعة بل متعددة حتي حدود التنافر في ما يتعلق بمرحلة ما بعد حكومة فؤاد السنيورة. إن بعض قوي المعارضة يكتفي بمعارضة الحكومة ويُطالب بإسقاطها وإستبدالها بحكومة وحدة وطنية ذات طابع إئتلافي لتشكّل، في أحسن حالاتها، منتدي للتحاور والتشاور حول تسوية مقبولة لأزمة الحكم. فريق آخر من المعارضة يبدو أكثر جذرية. إنه ليس ضد الحكومة فحسب بل ضد النظام أيضاً. هو يبتغي إستبدال النظام الطائفي الفاسد بآخر ديمقراطي متجاوزاً الطائفية والفساد علي مراحل وبصورة متدرجة. لمن ستكون الغلبة، بين الفريقين في الحاضر والمستقبل؟ من الواضح ان المعارضة سيطرت علي الأرض. فقد لجأت إلي لون بسيط من ألوان العصيان المدني هو سدّ الطرقات الرئيسية ومفترقاتها الإستراتيجية بنيران العجلات المحترقة. هذا التحرك الفاعل أدي إلي تحقيق إقفال عام شمل الأسواق التجارية والإدارات والمرافق العامة في معظم المناطق. بكلمة، المعارضة تمكّنت من شلْ البلد. السؤال : ماذا يبقي من سلطة لحكومة السنيورة بعدما إفتضح عجزها: عن السيطرة؟ أية قيمة تبقي لحكومة عندما تصبح وكأنها حكومة منفي في وطنها؟ إمتنعت قوات الجيش والأمن الداخلي عن التصدي للمتظاهرين والعاملين علي سدّ الطرقات وفرض الإقفال العام. البعض فسر هذا الموقف بأنه موضوعيا يعني الإنحياز إلي فريق المعارضة. البعض الآخر فسره بأنه عجز عن التصدي لقوي المعارضة بعد إتضاح إتساع رقعة حركتها وعصيانها المدني. الحقيقة ان موقف القوات المسلحة عموما يجد تفسيره في تركيبتها الدقيقة البالغة الحساسية. فهي في التحليل الآخر جزء من الاجتماع السياسي اللبناني، فيها من يميل إلي الفريق الحاكم ومن يميل إلي المعارضة. لذا وجدت قيادة الجيش، كما قيادة قوي الأمن الداخلي، ان المحافظة علي وحدة القوات المسلحة هي أولوية مطلقة. ذلك أن بقاءها يعني ، في التحليل الأخير، إبقاء العمود الفقري لجسم الدولة الهش قائماً. غير ان الفريق الحاكم أعطي قيادة القوات المسلحة من حيث لم يقصد حجةً إضافية للإعتصام بموقف الحياد. فقد نزل بعض أنصار قوي 14 آذار الموالين للحكومة الي الشارع في بعض المناطق بغرض التصدي للمتظاهرين من أنصار المعارضة واشتبكوا معهم الأمر الذي استدعي تدخل قوات الجيش والأمن الداخلي للفصل بينهم. بذلك اكتسبت هذه القوات، لا سيما قوات الجيش، صفةً ودوراً جديدين ومطلوبين هما الحياد والفصل بين المتقاتلين. هل أدرك رئيس الحكومة وأركان الفريق الحاكم انه ما عاد في وسعهم، بعد كل ما جري، إستخدام الجيش لفرض سيطرةٍ ضاعت منهم نهائيا؟ حرص البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير علي الشكوي غير مرة من إنقسام المسيحيين وتناحرهم مما أضعف موقفهم. لعله يذكر ما تطور إليه الوضع قبل 18 عاما عندما اشتبك أنصار حزب القوات اللبنانية (بقيادة سيمر جعجع) مع قوات الجيش اللبناني (بقيادة العماد ميشال عون). فقد أضعف الإشتباك آنذاك القوي السياسية المسيحية وجعل من مؤتمر الطائف وبالتالي إتفاق الوفاق الوطني الناجم عنه أمراً ممكناً وربما في غير مصلحتهم كما يظن البعض. تري هل يتسبب القواتيون مرةً أخري، في إضعاف القوي السياسية المسيحية عموما، لاسيما تلك المنخرطة في تحالف 14 آذار، علي نحوٍ يؤدي إلي إضعاف مجمل الفريق الحاكم ايضا؟ يروي رئيس الحكومة السابق وزعيم القوة الثالثة الدكتور سليم الحص إن السنيورة قال له ان أنصار قوي 14 آذار هم الأكثرية الساحقة في البلاد، وانه لهذا السبب يرفض الاستقالة، كما يرفض القبول بمطلب المعارضة الداعي الي تأليف حكومة وحدة وطنية ! يبدو ان السنيورة وزملاءه في الفريق الحاكم ما زالوا متمسكين برأيهم ذاك حتي بعد التظاهرات والإعتصامات الحاشدة ويوم العصيان المدني الشامل الذي نفذته المعارضة أمس. اذا كان هؤلاء مقتنعين فعلاً بما يقولونه، فلماذا لا يوافقون علي إجراء إنتخابات عامة؟ لقد فقدت الحكومة سيطرتها تماما علي البلاد، والمعارضة تتوعدها بمزيد من التصعيد والعصيان، فهل يقتضي ان يمتحن الفريق الحاكم نفسه وقوته اشهراً وسنوات، كما فعل سلفه في ثمانينات القرن الماضي، قبل ان يسلّم بضرورة التوصل إلي اتفاق أو تسوية مع المعارضة؟ وهل التسوية المرتقبة ستكون شيئاً آخر غير الإتفاق علي حكومة وطنية إنتقالية جامعة لوضع قانون إنتخاب ديمقراطي عادل وإجراء انتخابات عامة علي أساسه؟ لا بد من التنويه بقدرة المعارضة علي السيطرة علي أنصارها ووفائها بوعدها بأن يكون يوم العصيان المدني الطويل سلميا وغير إستفزازي، لا للحكومة ولا للقوات المسلحة ولا لقوي الموالاة رغم كل الاستفزازات والتحرشات والاضطرابات التي افتعلها أنصار قوي 14 آذار. غير ان سؤالا ينهض هنا بإصرار : هل سيكون بمقدور قيادة المعارضة المحافظة علي إنضباط أنصارها إذا امتدت إعتصاماتها وعصيانها المدني يوماً أو يومين أو ثلاثة وتخللتها إعتداءات من أنصار الحكومة؟ بات واضحاً ان قرار الفريق الحاكم ليس في يده أو انه يتأثر كثيراً بموقف حكومتي أمريكا وفرنسا المتشددتين إزاء قوي المقاومة اللبنانية وحلفائها السياسيين. في هذه الحال، ماذا ستكون الخطوة التالية للمعارضة إذا ما رفضت حكومة السنيورة، ومن ورائها أمريكا وفرنسا، إستجابة مطالبها أو التزحزح عن سياستها الراهنة؟ هل تصعّد تحركاتها الشعبية بخطوات من الطراز نفسه الذي تبدّي يوم أمس أم أنها تُطلق تحركات أخري أكثر جذرية؟ وفي هذه الحال، هل تطلب حكومة السنيورة النجدة من أمريكا وفرنسا لإستصدار قرار بوضع القوات الدولية المتمركزة في جنوب لبنان بتصرف الحكومة لإستخدامها ضد المعارضة بشكلٍ أو بآخر؟ أم هل تُغامر إدارة بوش بالتدخل عسكرياً لإنقاذ نظامٍ حليفٍ يتداعي الي السقوط؟ لو طُلب اليّ اليوم ان احكم علي الوضع الذي إنتهت إليه حكومة السنيورة لقلت انها قُتلت لكنها لم تمت بعد، وأن أمريكا وأوروبا ستمدانها بإسعافات سياسية ومالية وربما عسكرية متعددة الأشكال لتمكينها من مصارعة مرض الموت بإنتظار إنجلاء المشهد الإقليمي، لا سيما في العراق. هذا الوضع سيطول لأن ما تعانيه إدارة بوش عسكريا في العراق وسياسياً داخل أمريكا نفسها، لا سيما في أروقة الكونغرس وفي صفوف الشعب، لا يسمح لها بتسجيل نصر ميداني أو سياسي سريع، لا في العراق ولا في أمريكا. الصراع مستمر ومتصاعد.