بقلم: د. أحمد مصطفى من بين ما كشفته المحرقة الصهيونية بحق الفلسطينيين في غزة ان النفاق الانساني لم يعد قاصرا على الغرب الذي ينظر للعرب والمسلمين بعنصرية فجة، وإنما يزداد النفاق حين يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين ايضا. فإذا كان الغرب يعتبر العرب والمسلمين أقل درجة من الكائنات غير البشرية، فإنما ذلك موقفه السائد دوما والذي ربما ميعه مؤخرا ترويج قطاع من النخبة العربية والمسلمة لمقولات مزيفة تخفف من حدة تلك العنصرية الغربية وتشوه العرب إجمالا. لذا لم يكن متوقعا من ساسة الغرب وقياداته، باستثناءات يسارية أو تقدمية، ان يروا فيما يجري بغزة محرقة صهيونية أو حرب إبادة ولا ان يعتبروا تدمير المساجد والمدارس على رؤوس المصلين والاطفال وتطيير جثثهم اشلاء جرائم حرب. فمن يقوم بتلك الجرائم هم مرتزقة غربيون القت بهم اوروبا بعيدا عنها في ارض فلسطين قبل نحو قرن من الزمان ثم تبنتهم اميركا زعيمة ذلك الغرب الآن. لكن أن يتعامل العرب والمسلمون مع ما يجري في غزة على انه شأن "عادي" لا يستحق حتى الاهتمام الانساني فذلك أكثر عارا من النفاق. ولا اقصد هنا القطاعات الواسعة من الشعوب العربية والمسلمة التي هبت للتعبير عن غضبها وسارعت للتبرع للفلسطينيين لكني أعني بعض النظام العربي الرسمي خصوصا والاسلامي عموما. فالواضح، بعيدا عن بعض التصريحات العنترية والخطابات الانشائية، ان هذا البعض ليس معنيا بما يجري في غزة بالضبط كما تعاون من قبل مع الاميركيين في تدمير إحدى دوله: العراق. ليس المقصود هنا اي اهتمام انساني من قبل انظمة العرب والمسلمين بمقتل ما يقارب ألف فلسطيني وإصابة ما يقترب من 4 آلاف لا يجدون العلاج ولا الدواء بفضل الحصار الإجرامي على قطاع غزة منذ ما قبل العدوان بعام ونصف. فلو ان اسدا في حديقة حيوان لندن إصابه البرد لانهالت تبرعات العرب بالملايين على بريطانيا لعلاجه ورعايته. ولا ننسى ملايين الدولارات العربية التي تم التبرع بها لمن تهدمت منازلهم بفعل إعصار أميركي ضرب نيواورلينز بولاية لويزيانا قبل عامين، وذلك للتغطية على تقصير الحكومة الاميركية في إنقاذ منكوبيها رغم انهم لم يقتلوا وتضرروا من كارثة طبيعية وليس بفعل جرم قد يتهم فيه العرب والمسلمين. دعنا إذن من التعاطف الانساني، الذي ربما تضمره الانظمة ولا تستطيع التصريح به حتى لا تتهمها واشنطن وباريس ولندن بدعم الارهاب، لكننا هنا بصدد حرب تهدد المنطقة كلها ولا تقتصر على غزة او الفلسطينيين. وليس في ذلك مبالغة، بل ان التجربة مع الكيان الصهيوني تذكرنا بأن تمدده وتوسعه وانتصاراته انما تضر بمصالح بقية من في المنطقة كلهم. وليس الامر كما كان في العراق: غزو واحتلال اميركي وبريطاني لن يطول، بل ان الكيان الصهيوني جاثم على صدر المنطقة وكلما عزز من قوته اضعف من قوة من حوله بل وتمكن من تحويلهم تابعين اذلاء لا يخالفون له امرا او يعترضون على رغبة له. من هنا لا يمكن فهم موقف الانظمة العربية في صمتها المريب على ما يجري في غزة، كما ان التبريرات التي تساق لهذا الصمت المخزي تكشف عن عار اكبر. فالتبرير الذي ربما لا يقال علانية لكنه مفهوم إن العرب لم تعد لديهم القوة لمواجهة اسرائيل او اميركا ولا حتى امكانية الضغط على واشنطنولندن وباريس لتوقف عدوانية الصهاينة. وهذا عذر اقبح من ذنب، فالعرب لا تنقصهم ادوات القوة واوراق الضغط انما تنقصهم الارادة والشجاعة. وليس القصد هنا هو القوة العسكرية، فربما نسلم بأن الجيوش العربية المدججة بأحدث الاسلحة وأغلاها لا تستطيع او لا تريد اي حرب باستثناء الاستئساد على المواطنين أحيانا. لكن أسباب القوة لدى العرب عديدة ولا تقتصر على الاستعداد العسكري، ويكفي مجرد التهديد بواحدة منها دون استخدامها حتى ان يجعل العالم يقيم وزنا للعرب ويحترمهم ويقدر مصالحهم. ولا حاجة لتعداد ادوات القوة الاقتصادية والمالية لدى العرب وامكانية ان يكون لها اثر يقارب اثر القدرة العسكرية لو تم التلويح بها. لكن نكتفي بأوراق سياسية كان يمكن للعرب لو أرادوا ان يتصدوا بها للعدوان ويجبروا العالم على احترامهم وتقديرهم. فلدى اسرائيل سفراء في عواصم عربية وهناك سفراء عرب لديها، وهناك مكاتب تنسيق وارتباط بين عرب آخرين والكيان الصهيوني. وليس هناك اي اتفاقات او معاهدات دولية ولا ثنائية تحول دون سحب هؤلاء السفراء واغلاق المكاتب واعلان قطيعة مع المعتدين. ولا يمكن هنا التبرير بأن قطع العلاقات يغلق فرص التفاهم والحوار مع الاعداء للوصول لتسوية، فلا تسوية تحت النيران الا اذا قبل بها ذليل خاضع مقر بالهزيمة والانكسار. كما ان تلك الخطوات السياسية لا تمنع من الاتصال حتى عبر قنوات مباشرة. فالدولة العبرية بحاجة للعلاقات مع محيطها اكثر من حاجة ذلك المحيط لتلك العلاقات. نفهم أن هناك أنظمة عربية ترى في علاقتها مع إسرائيل تعزيزا لعلاقتها مع واشنطن، لكن الغرب وفي مقدمته أميركا لا يحترم الضعفاء وان استخدمهم ويقدر الاقوياء وان عادوه. ولا يتحمل الاميركيون ان تضيع جهودهم في تسويق التطبيع مع اسرائيل عبر نحو عقدين من الزمان وان يعودوا الى المربع صفر في هذا السياق. كما ان الاستخبارات الاميركية والبريطانية لا تطيق ان يطرد مسؤولوها في سفاراتهم في العواصم العربية ولو لفترة محدودة. انما الأمر ان النظام العربي الرسمي لا يرى خطرا على نفسه من تلك الحروب الاسرائيلية، ويتصور واهما ان القبول الاميركي به كفيل بضمان بقائه ولو رغم أنف مواطنيه. وتلك مصيبة ذلك النظام التي قد تكون علته الأخيرة.