أسامة الهتيمي لعل من أكثر الأقوال التي نطق بها بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر، وأثارت استياء العقلاء من أهل الغرب وعلمائه قبل المسلمين، هو اتهام البابا الإسلام بأنه دين غير عقلاني.. في إطار المقارنة التي عقدها بينه وبين المسيحية؛ حيث زعم بنديكت أن المسيحية ترتبط بصورة وثيقة بالعقل، وهو ما يتباين مع أولئك الذين يعتقدون في نشر دينهم عن طريق السيف، في إشارة إلى ما ردده بعض المستشرقين عن الإسلام ودعوته، وفي محاولة منه للتأكيد على أن هناك تعارضا بين الإسلام والعقل. ففي حديث بنديكت عن نبي الإسلام برغم افترائه - ما يمكن أن يكون متوقعا؛ حيث يصدر عن شخص لا يؤمن بالإسلام ولا برسوله معتبرا إياه صلى الله عليه وسلم لم يأت بخير لهذا العالم. لكن الحديث عن الإسلام باعتباره غير عقلاني يصطدم في حقيقة الأمر مع الواقع المعاش، ويغض الطرف عن قرون طويلة من البناء الحضاري الإسلامي؛ الذي كان للدنيا بمثابة النور؛ الذي خرج بها من ظلمات الجهل إلى نور العلم. إعمال العقل وتصطدم مزاعم بنديكت أول ما تصطدم بما ورد في القرآن الكريم ذاته؛ حيث وردت بين دفتي المصحف ما يقرب من مائتين وعشرين 220 آية تتضمن دعوة واضحة وقوية وإن اختلفت مفرداتها وتراكيبها إلى تحريك وإعمال العقل؛ لينظر الإنسان إلى ملكوت السموات والأرض. كما تحث هذه الآيات الإنسان على أن يسير في الأرض فينظر عبرة التاريخ فيما جرى للسابقين ممن ضلوا السبيل، وطغوا في البلاد، وأكثروا الفساد في الأرض، وكيف كانت عاقبتهم؟ كل هذا بأسلوب واضح، وبصور أدبية متنوعة.. تدعو إلى التذكر والتدبر، وإلى فقه آيات الله المنظورة في عالم الشهادة؛ كي تكون هادية إلى الإيمان بعالم الغيب.. من مثل قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت)، وقوله تعالى مادحا أولي الألباب؛ الذين يعملون عقولهم، ويتفكرون في آياته؛ فيقول تعالى (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك...). فكيف يكون ذلك الدين الذي يعتبر التفكر والتأمل في آيات القرآن، وما يستتبع ذلك من إعمال العقل، شكلا من أشكال العبادة التي يؤمر بها كل عاقل وذي لب؟ الأمر لا يعدو كونه جهلا بطبيعة هذا الدين، قياسا على أفكار مغلوطة.. روجها بعض من يتربص بالإسلام ويتتبع شذوذ الشاذين. ضد التقليد وفي الإسلام تختلف درجة ذلك الذي ولد لأبوين مسلمين؛ فكان مسلما بالوراثة، دون تفكر وتدبر وبحث.. ودون سعي وراء زيادة إيمانه، وبين ذلك الذي أعمل عقله وبذل جهده؛ من أجل استيعاب مفاهيم الإسلام وحقيقة عقيدته؛ حتى يرسخ إيمانه بهذا الدين. وقد أكد القرآن الكريم مرارا على رفضه التقليد الأعمى، وإتباع ما كان عليه الآباء والأسلاف، دون نظر وتفكر فيما كانوا عليه إن كان جديرا بالاتباع أو جديرا بالإنكار والرفض.. من مثل قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون). وهو منهج اتبعه الأنبياء أنفسهم حتى تطمئن قلوبهم، ولم ينكره الإسلام؛ بل إنه سمح لأتباعه أن يسألوا فيما يريدون فهمه واستيعابه، في حين نهاهم عن السؤال فيما لا يفيد، ولا يمكن أن تدركه عقولهم؛ باعتباره من الغيبيات التي لا تصل لحقيقتها العقول البشرية. قيمة العلم ويأتي إطلاق لفظ الآية على الجملة من القرآن دليلا قويًّا على تقدير الإسلام للعلم، وإعمال العقل؛ فالآية تعني كذلك الحال والواقع المشهود في الكون؛ ففي المصحف الشريف آيات، وفي الكون آيات؛ لكن فقه وفهم وتعقل آيات الله في الكون هو السبيل إلى فهم آيات الله في المصحف؛ ولهذا جرى ترتيب الخطاب في أول لقاء بين جبريل عيه السلام وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء.. جرى ترتيب الخطاب بتقديم الأمر بالقراءة في كتاب الكون المنظور؛ الذي هو عالم الشهادة، على القراءة في الكتاب المسطور؛ الذي هو المصحف.. يقول تبارك وتعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم). فتقدم الأمر بقراءة ما خلق الله في الكون مؤشر قوي لتحديد كيفية التعامل مع القرآن، بإعمال العقل في فقه آيات الخالق، ومن خلال تعرفه نصل بهذه المعرفة إلى الإيمان. تاريخ حضاري في الوقت الذي كانت تعيش فيه أوروبا ما أطلق عليه "العصور الوسطى"؛ حيث سادت الحروب والجهل والتخلف وتحكم الكنيسة؛ إلى الدرجة التي أصبح فيها الباباوات والقساوسة يبيعون ما سمي ب"صكوك الغفران". في الوقت الذي وصل فيه المسلمون بدعوة الإسلام والقرآن إلى أقصى درجات العلم آنذاك. ويكفي أن نشير إلى أن أحد الخلفاء العباسيين أهدى ملك فرنسا في هذا الوقت "شارلمان" آلة الوقت "الساعة"؛ التي تمكن علماء المسلمون من اختراعها؛ فلما وصلت الآلة إلى فرنسا وشاهدها من هم حول الملك الفرنسي اعتبر هؤلاء أن المسلمين أرسلوا لهم شيئا يختبئ فيه الجن والعفاريت. لقد وصل المسلمون من العلم بدعوة دينهم لذلك إلى الدرجة التي أصبح من يصل إلى درجة علمية كبيرة في الغرب يتم إلباسه الثوب والعمامة العربيين تقليدًا للعربي المسلم، وهو التقليد الذي نقل إلينا مرة أخرى من أوروبا عندما يرتدي الباحث للماجستير والدكتوراة خلال مناقشته "الروب"؛ الذي هو في الأصل العباءة العربية.