في عام 532 م بدأ الإمبراطور "جستنيان" في بناء كنيسة تميل إلى ابتكار جديد في المعمار الهندسي؛ من أجل جعلها أكبر الكنائس وأجملها في العالم، وفي عام 537 م تم افتتاحها فكانت لؤلؤة تركيا لجمال مظهرها الخارجي وزخرفتها الداخلية وأطلق عليها "آيا صوفيا" –أي مكان الحكمة المقدسة-. ثم في 29 مايو 1453 م، ترجل السلطان محمد الفاتح عن حصانه ودخل "آيا صوفيا" وسجد شكرًا لله سبحانه وتعالى، وأمر برفع الأذان وإقامة الصلاة بها، وأمر بتحويلها إلى مسجد للمسلمين، لتتحول أشهر الكنائس إلى "جامع آيا صوفيا"، بعد أن ظلت 916 عام كتدرائية وقام بشرائها بالمال، وأمر بتغطية رسومات الموزائيك الموجودة بداخلها التي كن يتعبد لها النصارى ولم يأمر بإزالتها، حفاظًا على مشاعر النصارى، وما زالت الرسومات موجودة بداخلها إلى الآن. وكان لكل كنيسة في تركيا مجلس من سبعة أشخاص هم القيمون علي أمر الكنيسة بعد الفتح الإسلامي لتركيا، وبدأ يسلم بعض هؤلاء، فكان إذا اسلم أربعة من هؤلاء السبعة يتم تحويل الكنيسة إلي مسجد، ولم يكن لمحمد الفاتح والخلفاء من بعده أن يغتصبوا أيا من الكنائس كما ادعى بعض المغرضين والحاقدين على الفتح الإسلامي, وكان المسلمون حينما يحولون كنيسة إلي مسجد بعد إسلام القيمين لا يهدمون شيئا من صورها أو الرسومات التي بها؛ وإنما كانوا يكتفون بوضع الجبس لتغطية الصور. ثم ظلت "آيا صوفيا" مسجدا يقام فيه الصلوات والشعائر الإسلامية لمدة 481 عام، حتى أتى "مصطفى كمال أتاتورك" عام 1935م بعد سقوط الخلافة العثمانية فأغلق المسجد وحوله إلى متحف سياحي، وأزال الجبس من علي الصور فظهرت معظمها وحظر إقامة أي شعائر إسلامية فيه. أمس عادت "آيا صوفيا" من جديد بعد 79 عاما ليرتفع على ابوابها صوت الأذان بعد أن جمعت رابطة "شبان الأناضول" 15 مليون توقيعا في حملة للمطالبة بإعادة تحويل المتحف إلى مسجد، فأقيمت صلاة فجر يوم السبت في ساحة "آيا صوفيا" ضمن الفعالية التي نظمتها الجمعية تحت شعار "أحضر سجادتك وتعال". حيث قال "صالح توران" -رئيس رابطة شبان الأناضول-: (إن هذه محاولة جادة لكسر أغلال أيا صوفيا)، وأضاف: (أن هذا المسجد رمز للعالم الإسلامي ورمز لفتح إسطنبول، وبدونه لا يكتمل الفتح. لقد فشلنا في الحفاظ على وديعة السلطان محمد)، مشيرا إلى صك وقّعه السلطان محمد الفاتح في القرن ال15 وينص على أن يكون الصرح مسجدا. وكانت الساحة قد امتلأت منذ منتصف الليل بالمصلين؛ حيث انشغلوا بالاستماع إلى القرآن والدعاء إلى أن حان موعد الصلاة، فيما أحاط رجال الشرطة حديقة آيا صوفيا بالحواجز لمنع الدخول إليها، ثم تفرق المصلون بعد أداء صلاة الفجر وهم يهتفون "فلتحطم السلاسل وتفتح آيا صوفيا". من الجدير بالذكر أنه ترددت من قبل مطالبات بإعادة أيا صوفيا إلى مسجد، لكنها ظلت محدودة إلى أن صلى آلاف بالمكان قبل عامين، ومنذ ذلك الحين كلف مفتي تركيا أجمل مؤذني إسطنبول صوتا برفع الأذان من مبنى بساحته، ليتردد الأذان عبر مكبرات للصوت في المئذنة دون الصلاة. وعلى صعيد آخر تضررت كثير من دول أوروبا من هذا التحول، وأعربت عن خوفها جراء هذا النداء الشعبي، مشيرة إلى أن الشعب التركي قد يميل بعد ذلك إلى أي لون من ألوان التطرف أو الانحراف عن المنهج العلماني المتبع في تركيا، فأصدرت المفوضية الأميركية للحرية الدينية في العالم -وهي هيئة استشارية شكلها الكونغرس من أعضاء بالحزبين الديمقراطي والجمهوري- بيانا قالت فيه: "إن مثل هذا التحرك سيعرض وضع تركيا الدولي للخطر، وسيعيد إلى الأذهان إساءة معاملتها للمسيحيين خلال القرن الماضي" وأضافت: "أن فتح أيا صوفيا كمسجد، سيكون خطوة استفزازية من شأنها أن تُحدث انقساما". كما طالب البطريرك "برثلماوس" -الزعيم الروحي لنحو ثلاثمائة مليون مسيحي أرثوذوكسي في أنحاء العالم-: "بأن يظل موقع أيا صوفيا متحفا". فيما رأى البعض أن هذا التحول أو المطالبة باعادة فتح آيا صوفيا مسجدا هي خطوة لصالح أردوغان في الانتخابات القادمة فقال "شاهين ألباي" -أستاذ العلوم السياسية بجامعة بهتشه شهير-: (إن أي تعهد بجعل أيا صوفيا مسجدا قد يعيد التفاف بعض الناخبين القوميين والمتدينين حول أردوغان في انتخابات الرئاسة، وإن هذا سيكلفه كثيرا، بحيث ستزيد من الشكوك المتبادلة والاستقطاب بين الغرب والعالم الإسلامي). إن مثل هذه الخطوات التي تسير فيها تركيا نحو إرجاع الهوية الإسلامية في نفوس كثير من الأتراك، خاصة بعد أن ظهر فشل العلمانية وسط مجتمع إسلامي وبه بعض الأصول العربية، يثير حفيظة كثير من الدول التي حاربت في الماضي من أجل إسقاط الخلافة العثمانية، خاصة وان أردوغان يسعي -فيما يبدو بطريقة ما- إلى إرجاع هذه الحضارة من خلال حل الأزمات الاقتصادية التي واجهتها تركيا في خلال السنوات القليلة الماضية، ثم يتبعها خطوات إعادة الهوية الإسلامية كما هو الظاهر.