لحظة الوصول إلي مطار إستانبول، هي لحظة إدراك معني أن تكون السياحة "مصدرا مهما من مصادر الدخل القومي" كما علمونا في المدارس عن علاقة مصر بالسياحة، لا أدري لماذا قفز في ذهني هذا الارتباط عند الوصول لساحة الجوازات، فالساحة ضخمة، ومزدحمة بطابور حلزوني طويل يضم تقريبا كافة جنسيات الأرض، بيض، شقر، سمر، صفر، أسيويين وأفارقة، وناس من شرق أوربا وغربها، جاءوا لقضاء مدد مختلفة الطول في عاصمة الإمبراطورية السابقة..إستانبول. كنت قد رأيت عدة مطارات أوربية من قبل، ولكني لم أر من قبل هذا العدد من الجنسيات مجتمعة في مطار واحد. الطابور الطويل الملتوي لم يكن يعني بالضرورة انتظارا طويلا، علي العكس كان الطابور متحركا بشكل جيد، وعملية إنهاء الإجراءات تمضي بسرعة وبشكل منظم، الوقوف في الطابور فقط يمنحك الفرصة لتتأمل كل هذا العدد من البشر القادم من شتي أنحاء الأرض. عن الثرثرة والترحاب سائقو التاكسي لا يثرثرون كثيرا، بشكل أدق لا يتكلمون، فقط يعرف العنوان، وينطلق صامتا، وساعة القيادة يبدو السائق وكأنه أصبح جزءا من الماكينة التي يقودها، بساعديه العريضين، وتحكمه في العربة، ربما تعطي الارتفاعات والانخفاضات المخيفة أحيانا التي تميز شوارع إستانبول هذا الانطباع، فمسألة أننا أجانب ونتحدث بلغات مختلفة لم تساهم علي الإطلاق في جعل السائق يحاول أن يفتح معنا حديثا حتي من أجل معرفة من أين قدمنا، لم يكن ذلك مهما، فقد كانوا علي اختلاف السائقين الذين قابلناهم في رحلتنا يقومون بعملهم في هدوء بدون أن يشغلوا بالهم بالزبائن أجانبا كانوا أم غير ذلك. وعلي مدار الأيام التي دورنا فيها في الشوارع والأسواق لم يكن يكن سؤال: من أين قدمنا؟ كثيرا، وعند ذكر اسم "مصر، لم يكن يثير لدي السائل أي شكل من اشكال التساؤل، كنت أظن نتيجة ثقل الدعاية الاعلامية في مصر حول الموقف التركي المختلف مع النظام المصري الحالي أن كلمة "مصر" ستفتح ابوابا للسؤال والنقاش حول ما يحدث في بلادنا الآن، لكن لا شيء، السؤال..ثم الأجابة..ثم يواصل السائل ما كان يفعله بدون أي اهتمام زائد أو منقوص. هل كانوا جافين في المعاملة؟ للوهلة الأولي يبدو الأمر كذلك، ولكن بعد قليل يبدو الأمر عاديا، ربما في بلادنا نهول المسائل كثيرا، لكن المسألة ببساطة أنك سائح أو غير سائح تطلب خدمة ما من شخص، وهو مسئول عن تسهيل أمورك سواء أكان سائق تاكسي، أو نادلا في أحد المطاعم أو المقاهي أو موظف استقبال في فندق، الموضوع ليس في الترحيب من عدمه بقدر ما هو في وجود أساس الخدمة المطلوبة وبشكل جيد، أما غير ذلك فروق إنسانية تختلف من شخص لآخر. يا سليمان .. لقد تفوقت عليك المساجد الاستانبولية ضخمة تليق حقا بأن تكون مساجد عاصمة إمبراطورية امتدت يوما من العراق إلي المجر، وعلي طول ساحل البحر المتوسط، مبان شاهقة متسعة، العواميد الرخامية التي تحمل الاسقف كبيرة، وعليها عادة قبة عظيمة تحاوطها قباب كثيرة أصغر، ربما تمثل علاقة عاصمة السلطنة بولاياتها، في الجامع الأزرق يتبدي ما يمكن أن نسميه فن باروكي اسلامي، تفاصيل كثيرة في نقوش وزخرفة الاسقف، وفي المنبر والمحراب، تعكس مدي الغني الذي كان يتدفق علي سلاطينها، وتعكس أيضا عمل الآلاف من أبناء المستعمرات العثمانية في تشييد هذه الصروح العملاقة. في آيا صوفيا، يتجلي مكر التاريخ مبتسما، فالمكان عاش علي مدار 916 عاما كاتدرائية، ولمدة 481 عاما مسجدا،ً ومنذ عام 1935 أصبح متحفاً. بنيت الكنيسة الأولي علي أنقاض كنيسة أقدم أقامها الإمبراطور قسطنطين العظيم وانتهت في عام 360 في عهد الإمبراطور قسطنطينوس الثاني وسميت في البداية "ميجالي أكليسيا" أي الكنيسة الكبيرة، واحترق هذا البناء في إحدي حركات التمرد ولم يبق منه شيء، مما جعل الإمبراطور تيودوروس الثاني يقوم في بنائها ثانية ويفتتحه للعبادة عام 415. ولكن قدر قلعة آيا صوفيا الثاني لم يكن بأفضل من سابقه إذ أنه احترق تماماً أثناء حركة التمرد الذي اشتعلت شرارته الأولي في مضمار آيا صوفيا عام 532م. بعد الحريق الثاني الذي قضي علي آيا صوفيا للمرة الثانية قرر الإمبراطور أيوستينيانوس الثاني (527-565)م أن يبني بناء أكبر وأعظم لآيا صوفيا فكلف أشهر معماريي العصر في ذلك الوقت ببنائه.والصرح القائم في يومنا هذا هو الصرح الذي بني للمرة الثالثة الذي طالت مدة بنائه منذ 532 إلي 537 م أي خمس سنوات متتالية من دون الإنتهاء من الزخارف. وافتتح للعبادة عام 537م. وكانت قبة مسجد آيا صوفيا رائعة الجمال والتطور قطرها 30 مترا - في ذلك الوقت فقد كانت قبة ضخمة ليس لها مثيل من قبل تبدو كأنها معلقة في الهواء، ويصف لنا المؤرخ بروكوبيوس (باللاتينية وهو أحد مؤرخي عصر جستنيان انه من شدة إعجاب جستنيان بالمبني لم يطلق عليه اسم أي من القديسين بل أطلق عليه اسم الحكمة الالهية أو المقدسة "آيا صوفيا" ونقل أيضا عن جستنيان إنه قال "يا سليمان الحكيم لقد تفوقت عليك" ويقصد بذلك انه تفوق ببنائه علي النبي سليمان الحكيم الذي كان يسخر الجن لبناء الأبنية العظيمة. وقد استمرت الكنيسة في الاستخدام كمركز للدين المسيحي لفترة طويلة حتي دخل السلطان محمد الفاتح عام 1453 م القسطنطينية، وكان لا يوجد للمسلمين في المدينة "جامع" ليصلوا فيه "الجمعة" التي تلت الفتح، فلم يسعف الوقت من تشييد جامع جديد في هذه المدة الزمنية الضئيلة، فأمر السلطان بتحويل "آيا صوفيا" إلي جامع، ثم بعد ذلك قام بشرائها بالمال، وأمر كذلك بتغطية رسومات الموزائيك الموجودة بداخلها ولم يأمر بإزالتها، حفاظًا علي مشاعر المسيحيين، وما زالت الرسومات موجودة بداخلها إلي الآن. وظلت أيا صوفيا مسجداً حتي بداية القرن العشرين حيث قام أتاتورك عام 1935بتحويل المبني إلي متحف حتي الآن. رخام أرضيات المكان يدفع للتأمل في ملايين الاقدام التي عبرت عليه عبر تاريخه، فالرخام يبدو ثقيلا "مترهلا" في اجزاء معينة بحكم ثقل طبقات التاريخ التي تجثم فوقه. وفي صحن المكان تعلو لوحات دائرية ضخمة تضم لفظ الجلالة، وأسماء النبي محمد، والخلفاء الأربعة، والحسن والحسين، تحاوط المكان، ليبدو فوق المحراب جدارية لمريم العذراء وطفلها المسيح وعلي الجانبين لفظ الجلالة، واسم النبي محمد، كأنما ارتضي الثلاثة البقاء متجاورين في المتحف الذي أنهي تلقب المكان ما بين كنيسة وجامع. حضور التيوليب الدولة التركية تبدو حاضرة في كل تفاصيل إستانبول، في الشوارع النظيفة، في عمال النظافة الذين يتحركون دوما بسيارتهم وأدواتهم، في نظام الصرف الصحي الذي يبتلع كل المطر المنهمر علي شوارع المدينة الصاعدة والهابطة، في زهور التوليب التي أمر أردوغان بزارعتها في مختلف شوارع المدينة في واحدة من القضايا التي أثارت ضده موجة كبيرة من الاعتراضات، حيث تكلف استيراد تلك الزهور من هولندا ملايين الدولارات، في محاولة منه لاستعادة الطابع العثماني للمدينة حيث كانت زهرة التيوليب أحد رموز السلاطين العثمانيين، وهو ما يدفع معارضي أردوغان لوصفه بسلطان إستانبول الجديد. تبدو الدولة أيضا في قوات الشرطة المرابضة بشكل دائم في ميدان "تقسيم" تحسبا ومنعا لأي فعاليات معارضة للدولة تقام هناك. وقوات الشرطية التركية لا تشبه جنود الأمن المركزي المصري ضعاف البنية والمصابون بالأنيميا، لكن نحن نتحدث عن جنود "شكلهم يخوّف" بأجسادهم المتينة وملابسهم وسياراتهم "الآدمية" والمحصنة جيدا أيضا. الدولة ظاهرة في شبكة مواصلات تغطي شطري المدينة الأوربي والأسيوي، منتظمة التقاطر، وتبدو في معظمها جديدة وحديثة، سواء أكانت مترو أم تراما أم الأتوبيس، أم السفن التي تعبر من الجانب الأوربي إلي الجانب الأسيوي. خصومة قلبي مع الدولة المصرية نحمل - عبر نظام التعليم المصري - تصورات مشوشة عن العالم بحكم عدم رؤيتنا له، لذا كان علاقة أبناء جيلي بتركيا تبدأ مع مناهج التاريخ ففي سطور قصيرة نعرف أن الدولة العثمانية احتلت مصر 1517 وظل هذا الاحتلال بصور وأشكال عدة - قائما حتي اعلان الحماية البريطانية علي مصر قبيل الحرب العالمية الأولي، وأن القرون الثلاثة الأولي كانت عصور ظلام وجهل واحتلال، وتخللتها أسماء ارتبطت عادة بالخيانة مثل خورشيد باشا الذي سلم مصر إلي الفرنسيين، وغيره. وأن الوالي العثماني كان يحكم البلاد لثلاث سنوات فقط كي يضمن السلطان عدم انفصال الوالي بولايته عن السلطنة، لذا كان الوالي يقضي مدة خدمته في سلب ونهب المصريين ورفع الضرائب عليهم كي يضمن لنفسه مكافأة نهاية خدمة جيدة عندما يترك الولاية.. هكذا علمتنا الدولة المصرية التاريخ. وعلمنا الإخوان عندما صرنا مراهقين نرتاد المساجد أن مصطفي كمال آتاتورك، يهودي، من أكبر أعداء الإسلام أنهي الخلافة الإسلامية، وألغي الآذان في الجوامع، ومنع الكتابة بالحروف العربية واستبدلها باللاتينية..وفقط. وتركنا الاثنين لنشاهد المسلسلات التركية، ونندهش من شكل الحياة هناك، وأصبحت أسواقنا مليئة بالبضائع التركية، والتي يفجر الباعة بجودتها لأنها تركية، ومع صعود الإخوان اشتغلت دعاية "الصداقة" ومع هبوط الإخوان اشتغلت دعاية "العداوة" بدون أن تتوقف المسلسلات التركية عن إدهاش المتفرجين، ولا البضائع التركية عن تمثيل الجودة. هكذا بنيت الدولة المصرية تصوراتنا المشوهة عن تركيا في التاريخ، فلم نعرف شيئا لا تاريخ الإمبراطورية، ولا عن حضارتها، فلا يعقل ان ثلاثة قرون كانوا فقط عصور ظلام، ولا يعقل أن العاصمة التي تضم مثل هذه الآثار الرائعة كانت فقط ترسل لولاياتها قطاع طرق كي يحكموها، بالتأكيد الصورة مختلفة، أكثر تعقيدا وتشابكا، من أحادية بضعة سطور تتكرر علي مدار المراحل التعليمية المختلفة. تبدو الدولة المصرية وكأن تعمل بجد واجتهاد علي انتاج عقليات مشوهة، يجب أن تصطدم عن مواجهة العالم الخارجي، وتستمر في إنتاج معرفتها المضطربة بالعالم. أخيراً عادة ما ينصح المسافرون القدامي، المسافرون الجدد بألا يعقدوا مقارنات بين البلاد، لكن مصر أثقل من أن يتجاوزها الواحد بسهولة، فتفاصيلها تبقي حاضرة، والمقارنات تفرض نفسها بقوة خصوصا وطبول الدعاية مازلت تقرع.